(خر:15:1-22)
يتميز سفر الخروج بأنه يسجل لا أفكار العدو فحسب، بل أقواله أيضًا، ليكشف لنا ما يجول بخاطره وما يحمله لشعب الرب من بُغضة وشر. ففي هذا الأصحاح نقرأ أن العدو تكلم مرتين: المرة الأولى لشعبه ”شعب مصر“ في ع9، والمرة الثانية للقابلتين في ع15. عندما تحدَّث إلى شعبه، كانت النتيجة أننا نقرأ «فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعُنف، ومرّروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن، وفي كل عمل في الحقل. كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفًا» (خر1: 13، 14). ولكن عندما تحدَّث إلى القابلتين، عمل الله في قلب القابلتين. في حديثه مع شعب مصر، أمرهم بأن يذلوا بني إسرائيل، ولكن في حديثه مع القابلتين، نرى شيئًا أخطر، وهو القتل. فقد أمرهم بقتل كل ذكر يولد، وعندما رفضت القابلتين أمر فرعون، عاد مرة أخرى لشعبه «ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلاً: كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها» (خر1: 22). الأمر الموجه للقابلتين، كان هو الأصعب، لأنه كان القتل؟ لكنهن لم يقمن به، لأنهما خافتا الله. اهتم الكتاب المقدس بذكر اسمي القابلتين، فاسم الواحدة شفرة، واسم الأخرى فوعة. بالرغم من أنه لم يذكر جنسية أي منهما. ربما كانتا مصريتين، لأنه كيف يأمرهما فرعون بهذا الأمر، إذا كانتا من الشعب الذي يريد فرعون أن يوجه إليه هذه اللطمة القاضية؟ ولكن العجيب أن اسميهما لهما معاني بالعبرانية. فشفرة معناها ”جميلة“، وفوعة معناها ”صارخة“. وربما يكون الله قد اعتبرهما من شعبه بالرغم من أنهما مصريتان. ولكن بفهمنا أن عدد الشعب الذي خرج من مصر حوالي 2 مليون، يكون هناك حاجة لعدد كبير من القابلات. فلماذا اختار الرب هاتين الاثنتين؟ اختيار الرب لهن اعتمد على تقواهن ومخافتهن له، بالرغم من أنه ربما يوجد أخريات مثلهن. وهنا نعلم أنه لا أحد يقدم خدمة لشعب الرب، دون أن يرحب الله بها. كما فهمنا تكلم فرعون «وقال حينما تولِّدان العبرانيات وتنظرانهن على الكراسي، إن كان ابنًا فاقتلاه، وإن كان بنتًا فتحيا» (ع16). يا لرداءة العدو! فهو يستخدم كل الإمكانيات المُتاحة للقضاء على شعب الرب. فها هو يستخدم نساء في موضع القُرب من شعب الرب لإيذاء هذا الشعب، وكل تركيزه ينحصر في النسل. فعندما أمر الشعب بمضايقة وتسخير بني إسرائيل، لم يكن هذا إلا لأن عددهم قد ازداد ونما للغاية، وهذا ما حدا به لكي يوقف تزايد هذا الشعب. ولعل اهتمامه بالنسل، لا لرُعبه هو شخصيًا فقط من العدد، ولكن رُعب الشيطان من ورائه من نسل العبرانيات الذي سيأتي بمخلص كموسى، بل برئيس الخلاص ربنا يسوع المسيح. لذا، فهو يطلب قتل المخلص في مهده! لقد أمر فرعون بقتل البنين. وبعد ذلك تأتي عبارة رائعة «ولكن القابلتين خافتا الله». ما أجمل أن يُكتب عن هاتين القابلتين هذه العبارة: فليكن قول الملك كما يكون، ولتكن سُلطته هكذا، ولكنهما سيفعلان عكس ما يقول، لأنهما خافتا الله. ما أروع مخافة الرب، فهي توجه النفس في طريق الأسود، وتُعد القلب بشجاعة لقوة النار، فيحظى المؤمن بمعية الرب معه، وهذا يكفي. لقد تمتع دانيال في يومه بملاك الله وهو يسد أفواه الأسود، وتمتع رفقاء دانيآل بالرابع الذي هو شبيه بابن الآلهة. وقوف هؤلاء في صف الله، دفع الله لملاصقتهم في ضيقهم. وهنا نرى، لا قوة الله وهي تواجه غطرسة فرعون، ولكن سلطانه وهو يحرك من الناس مَنْ يقف في صف شعبه، ويفعل ما يُرضي الله في مشهد اضطهاد هذا الشعب. لم يقف الملك عند الدعوة الأولى الموجهة للقابلتين، فقد دعاهما مرة أخرى «فدعا ملك مصر القابلتين وقال لهما: لماذا فعلتما هذا الأمر واستحييتما الأولاد» (ع18). لا يقنع الشيطان إطلاقًا بإيقاف عمله وتعطل مشورته، فهو رجل حرب منذ صباه. ولم يكتفِ بدعوة القابلتين في المرة الأولى، لكن دعاهما مرة أخرى ليعرف، لماذا لم تنفذا كلامه؟ «فقالت القابلتان لفرعون: إن النساء العبرانيات لسن كالمصريات. فإنهن قويات يلدن قبل أن تأتيهن القابلة» (ع19). لقد وضع الله في فمهما حديثًا بحكمة خاصة ليردّوا على هذا العاتي. حديث يضع شعب الرب في مكانه، ويضع شعب مصر في مكانه. الأمر الأول أن النساء العبرانيات لسن كالمصريات، وهنا نرى الرب يميِّز بين شعبه وشعب مصر على فم القابلتين، لا بل بين نساء شعبه، ونساء شعب مصر. وهذه النعمة موجودة في سفر الخروج من البداية إلى النهاية. وعلى سبيل المثال نقرأ قول الرب في خروج11: 7 «لكي تعلموا أن الرب يميِّز بين المصريين وإسرائيل». هنا في خروج1 نجد تمييزًا بالأقوال، ولكن هناك نجد تمييزًا بالأعمال وبخروف الفصح، وبين الاثنين نرى شعب الله متميزًا عن المصريين دائمًا. فإننا نقرأ «كان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام، لم يُبصر أحد أخاه، ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام، ولكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم (خر10: 22، 23). لكن ليس فقط ميَّزت القابلتان بين نساء المصريات والعبرانيات، ولكن أعلنتا في حضرة الملك أن النساء العبرانيات قويات يلدن قبل أن تأتيهن القابلة. وجميلة هذه الكلمة «قويات» من أين أتت هذه القوة إلا من الله؟ وما أجمل أنه في سفر الفداء، نقرأ عن هذه القوة بالارتباط بالولادة. هل الولادة تحتاج إلى قوة؟ وهل الفداء يحتاج إلى قوة؟ وهل التحرير من قبضة فرعون يحتاج إلى قوة؟ إجابة كل هذه الأسئلة: ”نعم“، وها القابلتان يؤكدان وجود هذه القوة أمام فرعون. لقد أعلن حزقيا مرة، ضعف شعب الرب، بكلمات أسيفة، عكس هذه الكلمات التي نقرأها هنا «اليوم يوم شدة وتأديب وإهانة، لأن الأجنة دَنَت إلى المولد، ولا قوة على الولادة» (إش37: 2). لقد قال حزقيا هذه الكلمات أيضًا في مواجهة العدو، ولكن في هذه المرة لم يكن هو فرعون، بل سنحاريب. وعندما أعلن حزقيا أنه لا قوة على الولادة، أتى الرب بقوته ليخلِّص وينجي من خلال ملاك واحد. وهذا يعلمنا درسًا؛ أننا قد نضعف وقتًا ما، ولكن إله السماء يستطيع أن يغيِّر كل شيء، ويعين بقوته غير المحدودة. يربط أيضًا بطرس في رسالته الأولى بين الولادة من الله وقوة الله، وهناك نُدرك أننا لا نحتاج قوة الله فقط لكي نولد من الله، ولكننا نحتاج إليها أيضًا بعد الولادة. ففي 1بطرس1: 3 يتحدث عن الولادة «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات» ثم في 1بطرس1: 5 يتحدث عن قوة الله «أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مُستعَّد أن يُعلن في الزمان الأخير». وبالولادة من الله، يصير لنا القوة التي تميِّز أولاد الله. إذ بقوة الله نتمتع بالولادة من الله، ثم يعطينا الله القوة لنكون أولاد الله، ثم يحفظنا بقوته للميراث المُعدّ لنا. فيا لروعة ما صار لنا! أوَ ليس هذا ما ترَّنم به الشعب عن قوة الله في نفس السفر ـ سفر الخروج «يمينك يا رب مُعتزة بالقوة، يمينك يا رب تحطم العدو» (خر15: 6)؟ ودعونا نلاحظ أن قوة الله لا تحتاج إلى مساعدة بشرية، فالعبرانيات يَلِدن قبل أن تأتيهن القابلة، فهن لا يحتجن للتدخل البشري إطلاقًا. وبالارتباط بالولادة من الله، تُرفع يد الإنسان نهائيًا، ويكون الأمر كله صناعة إلهية. فأولئك الذين وُلدوا من الله، وُلدوا دون تدخل القابلة «الذين ولدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله» (يو1: 13). «فأحسن الله للقابلتين ونما الشعب وكثر جدًا». أحسن الله إلى القابلتين، فلم يؤذهم فرعون، وصمت إزاء إجابتهن. وفي هذه العبارة، نرى جانبًا سلبيًا، ولكن هناك جانب آخر إيجابي: أن الله صنع لهما بيوتًا. ويا للعجب، أننا نقرأ هنا أن الشعب نما وكثر جدًا، وزاد عددهم أكثر من المرة التي حاول فيها المصريون أن يذلوهم بالعمل والتسخير. يا لعظمة الرب! أمام كل محاولة لإنقاص الشعب، يزيدهم الله عددًا. وأمام المحاولة التي صنعها فرعون من خلال القابلتين، نقرأ أن الشعب نما كثيرًا جدًا. «وكان إذ خافتا القابلتين الله، أنه صنع لهما بيوتًا». لقد حافظتا على بيوت بني إسرائيل، فصنع لهما الرب بيوتًا، فلم يحمهم من بطش فرعون فقط، وفي هذا نرى إحسانه إليهم، لكنه صنع لهما بيوتًا، وهذه كانت المكافأة لهما. هنا نرى مبدأ الزرع والحصاد، فمن نفس نوع الزرع الجيد الذي زرعتاه، وهو المحافظة على بيوت بني إسرائيل، فإن الله صنع لهما بيوتًا. فهو لا يبيت مديونًا لأحد، وأقل قدر من التقوى والأمانة، يجتذب قلبه ويكافئ عليه. فدعونا نتعلم من القابلتين، وإلهنا يستطيع أن يعمل معنا مثلما عمل معهما وأكثر. هنا الحديث عن امرأتين لا نعلم عنهما إلا ثلاثة أمور: عملهما، إسماهما، وتقواهما. وتكفي التقوى، فهي السبب في إكرام الرب لهما. فلا الأسماء، ولا الأعمال الخاصة بهما كقابلتين، كان ليغير شيئًا معهما، لو أنهما ما كانتا تقيتين. فدعونا نتعلم منهما، ونسير في طريق التقوى ونكون في رضاه يومًا وراء الآخر.