أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2006
ثانيًا: سيادة الله في الاختيار والدعوة بالنعمة - عوبديا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
أشار الرسول بولس إلى هذا الحق في رسالة رومية في ارتباط يعقوب بعيسو، فنقرأ: «وليس ذلك فقط، بل رفقة أيضًا وهي حُبلى من واحد وهو إسحاق أبونا، لأنه وهما لم يولدا بعد، ولا فعلا خيرًا أو شرًا، لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار، ليس من الأعمال، بل من الذي يدعو، قيل لها إن الكبير يُستعبد للصغير، كما هو مكتوب: أحببت يعقوب وأبغضت عيسو» (رو9: 10- 13). في هذه الأعداد نفهم أن اختيار الله أمر جوهري وأساسي. ففي الأعداد من ع6- 9 يشير الرسول إلى كل من اسماعيل وإسحاق، فهما من أب واحد وأم مختلفة: إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة؛ أما هنا فيستحضر عيسو ويعقوب، وهما من أب واحد وأم واحدة، هما إسحاق ورفقة، بل إنهما توأم. لكن الله اختار يعقوب من قبل أن يولد (تك25: 23). وهنا يربط الرسول الاختيار والدعوة معًا، فيقول الرسول: «لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار، ليس من الأعمال، بل من الذي يدعو، قيل لها إن الكبير يُستعبد للصغير». فالاختيار والدعوة مبدآن مُقرران في الكتاب، ففي الأصحاح الثامن من الرسالة، يقول: «الذين سبق فعرفهم ... فهؤلاء دعاهم أيضًا» (رو8: 29، 30). وفي رسالة أفسس نقرأ إن الله اختارنا قبل تأسيس العالم (أف1: 4). وهكذا يقرر الرسول أن الاختيار ليس على أساس أي شيء من الإنسان، وليس على أساس الأعمال «لأنهما وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرًا أو شرًا»، كان قول الرب لرفقة إن الأكبر يُستعبد للأصغر. وهذا المبدأ العظيم مُسلَّم به، سواء في حالة الأفراد المُختارين، أو في حالة البركات العتيدة للشعب في المُلك الألفي. وعلى هذا، كان لا بد أن يجيء المسيا من نسل يعقوب. ماذا عن محبة الرب ليعقوب، وبُغضته لعيسو؟ ما عرفه الوالدان قبل ولادة عيسو ويعقوب أن الأكبر يُستعبد للأصغر، لكن لم يَقُل لهما الرب إني أبغضت عيسو من البطن. لكن بعد عدة قرون يذكر الرب على لسان ملاخي هذا التعبير: «أ ليس عيسو أخًا ليعقوب يقول الرب، وأحببت يعقوب وأبغضت عيسو» (ملا1: 2). من هذا النص نفهم أن بُغضة الله لعيسو ليست من البطن، لكن هذه البُغضة تقررت بعدما عاش على الأرض، وظهرت أعماله. فالرب أبغض عيسو لِما فعله من خطايا هو ونسله، لأن الله يُبغض الخطية. لقد احتقر عيسو البكورية، وكما قال عنه كاتب العبرانيين إنه كان زانيًا ومُستبيحًا، لأنه في احتقاره للبكورية يكون قد استهان بصلاح الله وإحسانه. ومَنْ يستهين بهما إنما يذخر لنفسه غضبًا ليوم الغضب. وأما محبة الله ليعقوب فكانت بحسب قصده واختياره. فالمحبة ليست لأجل فضل في الإنسان، بل هي بحسب قصد الله في الاختيار، وأما البُغضة فهي لأجل أعمال الإنسان وعناده. وفي القول «أبغضت عيسو»، نجد أن الرب ينتظر إلى اللحظة الأخيرة حتى يظهر عيسو على حقيقته. فأول سفر في الكتاب يُرينا اختيار الله ليعقوب، وآخر سفر في العهد القديم، يُخبرنا عن بُغضة الرب لعيسو ونسله ـ أي أن الله أطال أناته حتى ظهرت أخلاق عيسو ونسله على حقيقتها. ولقد كان مسلك عيسو تجاه يعقوب هو الشر فقط، ومن أجله استحق القضاء. فعلاوة على أن عيسو كان زانيًا ومستبيحًا، مُحتقرًا كل شيء يتعلق بالله، رافضًا لنعمته وصلاحه، فإنه أيضًا اتصف بالعناد، فهو يقول: «هُدِمنا فنعود ونبي الخِرَب» (ملا1: 4)، وكأنه بذلك يتحدى الله، لكن الرب يجاوب على هذا العناد بالقول: «هم يبنون وأنا أهدم». إن الذين يرفضون حقيقة الاختيار، يقولون: كيف يبغض الله عيسو؟ وهم لا يعرفون فظاعة الجسد وفساده في كل واحد. وعندما لا يفهمون فساد الجسد، يُظهرون كفايتهم الذاتية لاختيار الله لنا. وحقًا قال سبرجن: ”لا أجد صعوبة في فهم كيف أن الله أبغض عيسو، لكن الصعوبة تقوم في فهم، كيف أن الله أحب يعقوب “. ثالثًا: النعمة والقضاء صلاح الله ونعمته تجاه عيسو يتجلى صلاح الله ونعمته تجاه عيسو في الأمور الآتية: 1 ـ إعطائه البكورية: فلم يمنع الله البكورية عن عيسو، لكنه منح البركة ليعقوب. لكن عيسو هو الذي احتقر البكورية، عندما قال: «ها أنا ماضٍ إلى الموت، فلماذا لي بكورية» (تك25: 32). فبقوله هذا يكون استهان بالأمور الآتية، مثل هؤلاء الذين يقولون: «لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت». ومن هنا كان، كما ذكر الرسول عنه: «زانيًا ومستبيحًا .. الذي لأجل أكلة واحدة، باع بكوريته» (عب12: 16). 2 ـ أوصى الرب شعبه ألا يهجموا على أدوم «لا تهجموا عليهم لأني لا أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قدم، لأني لعيسو أعطيت جبل سعير ميراثًا، طعامًا تشترون منهم بالفضة لتأكلوا، وماءً أيضًا تبتاعون منهم بالفضة لتشربوا» (تث2: 5، 6). 3 ـ ألا يكره أدوميًا «لا تكره أدوميًا لأنه أخوك» (تث23: 7). 4 ـ الأولاد الذين يولدون لهم في الجيل الثالث، يدخلون في جماعة الرب. «الأولاد الذين يولدون لهم في الجيل الثالث يدخلون منهم في جماعة الرب» (تث23: 8). عكس الموآبي والعموني الذين لا يدخلون في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، بل لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد (تث23: 3). لكن بكل أسف، رفض عيسو هذه المعاملات الطيبة، فاستهان بصلاح الله، وأظهر البُغضة والعداوة لشعب الرب. فماذا ينتظر بعد كل هذا إلا القضاء؟ ويجب أن نفهم أن النعمة والقضاء هما مبدآن واضحان كل الوضوح في الكتاب. ونعتقد أن الصعوبة التي يجدها الكثيرون في فهم بعض النصوص الكتابية راجعة إلى عدم التمييز بين الله في نعمته، والله في قضائه. وهذا مبدأ ثابت بالنسبة للمؤمن وغير المؤمن. وعلى سبيل المثال، عندما فَرَط موسى بشفتيه عند ماء مريبة (عدد20)، صدر أمر الله في قضائه بحرمانه من الدخول إلى أرض كنعان، لكن النعمة تأخذه إلى رأس الفسجة وتُريه الأرض (تث34: 1- 4). وداود الذي سقط السقوط المُذري، فإنه إذا اعترف قائلاً: «أخطأت إلى الرب»، أجاب الله على اعترافه بالنعمة الكاملة «الرب نقل عنك خطيتك، لا تموت» (2صم12: 13). ولكن أذنيه التي سمعت نغمات النعمة الرقيقة، سمعت أيضًا دوي عجلات القضاء الرهيبة في الأقوال «غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون، فالابن المولود لك يموت» (2صم12: 14). ونجد هذا المبدأ الذي ظهر مع يعقوب في حياته، له صداه مع عيسو أيضًا في القضاء الذي سيقع عليه. الحيثيات التي بسببها يقع القضاء على أدوم: هناك سبع خطايا حدثت من أدوم تجاه أخيه يعقوب، مذكورة في هذه النبوة، وبسببها سيوقّع الرب القضاء عليه. 1 ـ ظلمه لأخيه يعقوب. «من أجل ظلمك لأخيك يعقوب، يغشاك الخزي، وتنقرض إلى الأبد» (ع10). وهذا الأمر واضح في تاريخ يعقوب ونسله. فنقرأ «وقال عيسو في قلبه: قربت مناحة أبي، فأقتل يعقوب أخي» (تك27: 41). وهذا ما أكده النبي حزقيال، فنقرأ «لأنه كانت لك بغضة أبدية، ودفعت بني إسرائيل إلى يد السيف في وقت مصيبتهم» (حز35: 5). 2 ـ ساعد في سلب ونهب أورشليم «يوم وقفت مقابله، يوم سَبَت الأعاجم قدرته» (ع11). فكان من المفروض أن يساعد أخاه ضد هؤلاء الغرباء، وهذا ما أوصى به الرب، فنقرأ «أنقذ المُنقادين إلى الموت والممدودين للقتل، لا تمنع. إن قلت هوذا لم نعرف هذا، أ فلا يفهم وازن القلوب، وحافظ نفسك ألا يعلم، فيرُّد على الإنسان مثل عمله» (أم24: 11، 12). 3 ـ كان ضمن الأعداء الذين ألقوا قُرعة على أورشليم «يوم.. دخلت الغرباء أبوابه، وألقوا قرعة على أورشليم، كنت أيضًا كواحد منهم» (ع11). «وكما يذكر عاموس «هكذا قال الرب من أجل ذنوب أدوم الثلاثة والأربعة، لا أرجع عنه؛ لأنه تبع بالسيف أخاه وأفسد مراحمه**... فأرسل نارًا على تيمان فتأكل قصور بصرة» (عا1: 11، 12). 4 ـ وقف موقف الشماتة يوم مصيبة أخيه. «ويجب أن لا تنظر إلى يوم أخيك، يوم مصيبته، ولا تشمت ببني يهوذا يوم هلاكهم» (ع12). وهذا ما يؤكده النبي حزقيال أيضًا، فنقرأ «كما فرحت على ميراث بيت إسرائيل لأنه خرب، كذلك أفعل بك، تكون خرابًا يا جبل سعير، أنت وكل أدوم بأجمعها، فيعلمون أني أنا الرب» (حز35: 15). وكما قال الحكيم: «لا تفرح لسقوط عدوك، ولا يبتهج قلبك إذا عثر، لئلا يرى الرب ويسوء في عينيه، فيرد عنه غضبه» (أم24: 17). 5 ـ لقد ابتهج وتباهى يوم دمار شعب يهوذا «لا تفغر فمك في يوم الضيق » (ع12). وهذا ما نجده في مزمور137، فنقرأ «اذكر يا رب لبني أدوم يوم أورشليم، القائلين هدوا هدوا حتى إلى أساسها» (مز137: 7). 6 ـ ما كان يجب أن يقتحم أبواب الشعب يوم بليته «ولا تدخل باب شعبي يوم بليتهم، ولا تنظر أيضًا إلى مصيبته يوم بليته، ولا تمد يدًا إلى قدرته يوم بليته». وهذا ما أكده حزقيال أيضًا، فنقرأ «إني في نار غيرتي تكلمت على بقية الأمم، وعلى أدوم كلها الذين جعلوا أرضي ميراثًا لهم، بفرح القلب وبغضة نفس لنهبها غنيمة» (حز36: 5). 7 ـ وقف على مفرق الطرق لقطع الهاربين وليسلمهم إلى أعدائهم. «ولا تقف على المفرق لتقطع منفلتيه، ولا تسلم بقاياه يوم الضيق» (ع14). وماذا تكون النتيجة؟ إن ”الذي يزرعه الإنسان، إياه يحصد“، وهذا ما نجده في ع15، 16 من النبوة، فنقرأ «فإنه قريب يوم الرب على كل الأمم، كما فعلت يُفعل بك، عملك يرتد على رأسك».
رشاد فكري