كان داود رجل الله يستشير الرب عادة، ولو أنه في بعض الأحيان لم يستشر الرب. وفي هذا العدد سنتحدث عن المرة الخامسة التي فيها استشار داود الرب
(5)
«وكان بعد ذلك أن داود سأل الرب قائلاً: أ أصعد إلى إحدى مدائن يهوذا؟ فقال له الرب: اصعد. فقال داود: إلى أين أصعد؟ فقال: إلى حبرون» (2صم2: 1)
بعد أن ضرب داود العمالقة، رجع إلى صقلغ وهناك سمع خبر موت الملك شاول وابنه يوناثان. وكان الأمر المتوقع من داود أن يعود هو والرجال الذين معه إلى إحدى مدن إسرائيل، وهناك يُعلن نفسه ملكًا، وينال أخيرًا ما كان ينتظره ويتوقعه بين لحظة وأخرى، فالطريق صار الآن ممهدًا أمامه بموت شاول الملك، الذي كثيرًا ما طارده، والذي كان العقبة الرئيسية لجلوسه على العرش. بل حتى ابنه ولي العهد، والذي كان يُمكن أن يكون عقبة ثانية أمامه قد مات هو أيضًا، ولا شكّ أنَّ الرجال الذين معه كانوا يستعجلونه على تبوِّئه العرش، قبل أن يظهر في المشهد من يطمع في المُلك، فيكون مزاحمًا له، وهذا ما حدث فعلاً، إذ أخذ “أبنير” رئيس الجيش “إيشبوشث” وجعله ملكًا (2صم2: 8).
فلقد كانت كل الأحداث تؤكَّد أن الفرصة التي ينتظرها داود قد أتت، ولا داعي على الإطلاق للتمهّل أو التأخير. لكنَّنا نتعجب عندما نتأمَّل في ردّ فعل داود، بداية من سماعه خبر موت شاول، ثم المرثاة التي أنشدها عن شاول ويوناثان، وأخيرًا ذهابه إلى الرب ليسترشد منه في ما الذي يجب عليه أن يفعله.
إن الذي أخبر داود بموت شاول، وكان يظن أنَّه سيكون في نظر داود “مبشِّرًا” يحمل أخبارًا مفرحة، ولقد غالى في ظنه هذا حتى أنَّه أدَّعى كَذِبًا أنه هو الذي قتل شاول، متمنيَّا أن يحصل بذلك على مكافأة، أو ينال حظوة عند داود، كان مخطئًا تمامًا في ظنه هذا، إذ لم يكن يعلم جيِّدًا سمو صفات داود، فهو ليس بالرجل الانتهازي، الذي يهوى الصعود على أكتاف غيره، فلقد فوجئ بأن داود أمر بقتله، لأنَّه تجرَّأ ومدَّ يده ليُهلك مسيح الرب (2صم1: 6-16)!
وكنَّا نتوقع بعد انتشار هذا الخبر وسط رجال داود أن نسمع نغمات الفرح والتهليل، وكيف لا، وها أيام الكدر والمطاردة في البراري قد ولَّت، وبوادر المُلك والراحة قد لاحت. غير أنَّنا نجد “مرنّم إسرائيل الحلو” لا يقود الشعب في ترنيمات الفرح والنصرة، بل يُنشد مرثاته الرائعة التي بها يرثي بكلمات مليئة بالشجن والتقدير والإعزاز، كلاً من شاول ويوناثان (2صم1: 17-27)!!
ثم نراه بعد ذلك يذهب بكل هدوء ليسأل الرب، هل يصعد إلى إحدى مدن يهوذا، وإن صعد فإلى أيَّة مدينة يصعد؟
كم كان رائعًا داود في هذا، إنَّه في أشد المواقف حرَجًا لا يستعجل الأمور، ولا يُحاول أن يأخذ هو بنفسه زمام المبادرة، بل نجده يذهب أوَّلاً أمام الرب حيثما تعوَّد، ليعرف منه قصده ومشيئته! وكأنَّ لسان حاله: “إنَّ الذي مَسحني ملكًا على شعبه هو الذي يعرف تمامًا متى أصعد لآخذ المُلك، وكيف أصعد، بل وأين أصعد. إنَّني أتعامل مع إله حكيم وقدير، له وحده الحكم والتدبير، وما عليَّ سوى أن أسعى لمعرفة مشيئته، ومن ثمَّ أُطيعها بالتمام”.
ويزداد تعجبنا أنَّه بعد أن صرَّح الرب لداود أن يصعد إلى إحدى مدن يهوذا، يعود داود فيسأل الرب ليحدِّد له إلى أيَّة مدينة يصعد! فما الذي يهم في ذلك؟ أليس المهم أن يصعد فحسب؟ فأيَّة مدينه تصلح أن يذهب إليها داود، وهناك يُمسح ملكًا، فالمهم أن يُمسح ملكًا وليس المهم أين يُمسح!!
غير أنَّ داود الشغوف بأن يعرف على الدوام فكر الرب في كل تفصيلات حياته نجده يهتم جدَّا أن يُحدِّد له الرب اسم المدينة التي يصعد إليها. وهل حقًّا هذا الأمر له أهميَّة عند الرب؟ نعم، وقبل أن أوضِّح أهمية تحديد المدينة عند الرب، أودُّ أن أقول إنَّ داود آنذاك ربما لم يكن يعرف القصد الإلهي من تحديد اسم المدينة، ولكنَّه أطاع صوت الرب، بغض النظر عن مدى فهمه لهذا الأمر، إذ كان حريصًا على سماع صوت الرب في كل أمور حياته، وحريصًا أيضًا على تنفيذ صوت الرب، حتى وإن لم يعرف القصد منه.
لكن ما أهمية مدينة حبرون؟ ولماذا اهتمَّ الرب أن يُمسح داود في حبرون؟ هناك مدينتان تُعتبران من أقدم المدن التي بُنيت على الأرض، وهما حبرون في أرض كنعان، وصوعن في أرض مصر، والعجيب أن يربط الكتاب بين هاتين المدينتين في سفر العدد، «وأمَّا حبرون فبُنيت قبل صوعن مصر بسبع سنين» (عد13: 22)، وقد نُدهش بأنَّ الكتاب ربط بين هاتين المدينتين بهذه الكيفية. فالحديث في سفر العدد كان عن ذهاب الجواسيس إلى أرض كنعان ليتعرَّفوا على حالة الأرض، وهم أخذوا من حبرون عنقود عنب حمله رجلان منهم (عدد13: 23)، فلماذا تأتي هذه الجملة الاعتراضية، والتي فيها يُذكر أن حبرون بُنيت قبل صوعن؟ ما هو الداعي لذكر صوعن هنا؟ وما علاقتها بحبرون؟
إن أردنا أن نُعبر عن المدينتين في كلمات قليلة، نقول إنَّنا نرى في حبرون مقاصد الله، ونرى في صوعن السبيل الذي من خلاله حقَّق الله مقاصده.
فعندما أراد الله أن يُعلن لإبراهيم عن مولد ابن الوعد؛ ابن البركة، إسحاق، الذي فيه ستتبارك جميع قبائل الأرض، أعلن له ذلك في حبرون (راجع تكوين13: 17 مع 18: 1، 14 ؛ 22: 17، 18). وعندما ذهب الجواسيس ليتجسسوا أرض كنعان، رجعوا كما ذكرنا ومعهم عربون من خيرات الأرض، والذي يدل على روعة الأرض التي وعدهم الرب بها وأنّها حقًّا تفيض لبنًا وعسلاً (عدد13: 26، 27). وإن أشاع كل الجواسيس مذمة وسط الشعب، ما عدا كالب ويشوع، وأظهروا تخوّفهم من إمكانية امتلاك الأرض نظرًا لوجود بني عناق العمالقة ساكنين فيها، إلا أنََّّ يشوع وكالب حاولا أن يُقنعا الشعب بأنهم قادرون على امتلاكها، طالما هذا هو فكر الرب (عدد13: 28-33). وهكذا أظهر الشعب كلّه عدم إيمان وبكوا، وتذمروا على موسى وهارون، وتفكروا في العودة مرَّة أخرى إلى مصر (عدد14: 1-4). وإنْ وقع قضاء الرب على كل الشعب وماتوا جميعًا في البرية، إلاَّ أنَّ الرب كافأ يشوع وكالب، واستثناهما فقط من قضاء الموت، وأدخلهما أرض كنعان. بل إنَّ حبرون عينها كانت مكافأة الرب لكالب، إذ صارت له مُلكًا، وصارت من نصيبه (يش14: 6-15).
ولذلك كان لا بدَّ أن أوَّل ملك يختاره الرب ليملك على شعبه، يبدأ مُلكه من ذات المدينة حبرون؟! إن ما وعد الرب به الرب لداود لا بدّ أن يتم، وما قاله الرب لإبراهيم من بركة حتمًا سيتمّ.
ولكن ما وضع مدينة صوعن في كل هذا؟ عندما أعلن الرب مخطَّطه الإلهي لإبراهيم من جهة نسله، وأنَّه سيرث أرض كنعان، أعلن له أنَّ الشعب سيُستعبد أوَّلاً في أرض غريبة لمدة 400 سنة، ثم بعد ذلك سيخرجون ليمتلكوا هذه الأرض (تك15: 13-21). لكن ما هي الأرض الغريبة التي سيتغرَّب الشعب، بل سيُستعبد فيهاا؟ وكيف سيخرج منها؟
إنَّنا نعرف جميعًا أن الشعب اُستعبد في أرض مصر، ولكن قد لا نعرف كلنا أن مسرح الأحداث، حيث تفاوض موسى مع فرعون ليُطلق الشعب كان بالتحديد في مدينة صوعن، وهذا ما نفهمه من مزمور78: 12، 43، فكل العجائب التي صنعها موسى أمام فرعون، والتي فيها أظهر قدرة الله وعظمته، صُنعت في صوعن. ومن تلك المدينة، صدر قرار العتق والحريَّة، حيث بدأ الشعب رحلتهم التاريخية ليرثوا أرض البركة والخير، والتي سبق الرب ووعدهم بها. إنَّ هذه المدينة، صوعن، شهدت قوَّة الرب العاملة لتحقيق مقاصده من جهة شعبه، الذي نزل ليُخلصهم، ويورِّثهم الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً.
ولكن ما المغزى من أن يذكر لنا الكتاب أن حبرون بُنيت قبل صوعن بسبع سنين؟ لأن قصد الله من جهة شعبه هو البركة، لكن كان لا بدّ قبل أن يحصل الشعب على البركة أن يذوق العبودية. فالبركة هي قصد الله الأسبق. لكن ما كان يستطيع الشعب أن يُقدِّر تلك البركة قبل أن يُعاني من العبودية أوَّلاً في مصر، ومن صوعن مصر يشهد الشعب ذراع الرب الرفيعة التي تعمل لتتميم مقاصده، وها نحن نرى أوَّل ملك بحسب فكر الرب يجلس على كرسي المُلك، ويبدأ ملكه من حبرون.
نعم عظيم هو الرب الذي يُدير كل شيء بكل حكمة وفطنة، إنَّه يتحكَّم في كل شيء لتؤول أخيرًا لخيرنا وتتميم مقاصده، وجدير بنا أن نهرع إليه على الدوام، لنسأله ونطيع صوته بكل خضوع وتسليم.
(يُتبَع)