أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد فبراير السنة 2008
ثماني رؤىً لشاب أو إجابات شافية لأسئلة مضطربة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

بينما كانت الرؤى الليلية لزكريا مصدر تعزية لبعض أولاد الله، لا سيما في الأيام الصعبة للشهادة ، كانت لكثيرين آخرين غامضة أو مبهمة إلى حد كبير. ولذلك فغرض هذه المقالة مساعدة تلك المجموعة الثانية:

نحن نرى أن زكريا ويهودًا أمناء آخرين كانوا قلقين إزاء عدد من الأسئلة النابعة من ظروفهم الخاصة التي كانوا يجتازونها، وعندما نُصيغ هذه الأسئلة نرى كيف أن كلاً منها قد أُجيب عنه برؤية محددة، كما سنحاول أن نبيّن أن كل واحدة من هذه الرؤى الثماني مبنية على الأخرى، حيث تُظهر، خطوة تلو الأخرى، الطريق من حالة اليأس التي كانت للبقية، في تلك الآونة، إلى الوقت الذي فيه تتم مشورات الله بخصوص أورشليم، بل، وبأكثر أهمية، بمن قيل عنه «هوذا الرجل الغصن اسمه» (زك6: 12).

الرؤيا الأولى (زك1: 7-17)
ماذا كانت الصعوبات في أيام زكريا؟  الصعوبة أن عرش الله لم يعد في أورشليم (1أخ29: 23)، إذ كانت الإمبراطورية الفارسية في أوج قوتها، وفي المقابل كانت هناك قلة من اليهود قد عادوا إلى أورشليم، لكن حتى هؤلاء أُوقفوا عن عمل بيت الله (عز4: 24).  وقد عاش زكريا مع تلك "البقية" المسكينة والضعيفة والمُضطَّهدة (عز5: 1)، والتي لم يكن لها ما تفتخر به: فلا يُوجد إظهار للقوة، ولا معجزات، ولا علامة لحضور الله، ولا حتى سحابة المجد.  وربما كان هذا الوصف المختصر كافيًا لكي يمدنا بما يجب عليه أن ينبثق السؤال الأول: 

السؤال الأول:
هل لم يكن الله بأي حال غير مسرور بهذه الحالة الحاضرة، أي بضغطة الأمم على شعب الله؟ وبمعنى آخر هل يسمح الله ببقاء تلك الحالة المحزنة بلا حدود؟

إن الرؤيا الأولى (زك1: 7-17) تُعطي الإجابة، حيث يقف الرجل الراكب على فرس أحمر بين أشجار الآس (المُعبِّر عن الإحْياء والإنتعاش – نح8: 15؛ إش41: 19؛ 55: 13).  ولقد احتوت رسالة الملاك الذي كلَّم زكريا بالعناصر الرئيسية الآتية:
إن الرب غيور على أورشليم وعلى صهيون (ع14)، بل والأكثر من هذا أنه في غاية الاستياء والغضب على قوى الأمم (ع15).  ثم يأتي الوعد في ع16؛ أن الرب سيعود ويُظهر الرحمة لشعبه، وعلى وجه الخصوص، أن بيته سوف يُبنى، وأورشليم سوف تُختار (ع17).

وبذلك تمت إجابة السؤال الأول بطريقة ربما فاقت توقعات الكثيرين.

 الرؤيا الثانية (زك1: 18-21)
وبناءً على تأكيد الله في الرؤيا الأولى بأنه سوف يعود ويُظْهر الرحمة ثانية، هنا يبرز السؤال:

السؤال الثاني:
ولكن ماذا عن الأمم إذًا؟ وكيف تُختار أورشليم وتفيض المدن بعد بالخير إن كانت لا تزال قوات الأمم ضاغطة علينا؟
وتُجيب رؤيا القرون الأربعة عن سؤالهم تمامًا؛ فلئن سُمح لتلك القرون الأربعة للأمم بأن تقوم ضد أرض يهوذا (ع21)، إلا أن الله لا يزال عنده الوسائل التي يتعامل بها معها: إذ إن هناك “أربعة صُنَّاع” مستعدين (ع20)، إذ «قد جاء هؤلاء ليرعبوهم، وليطردوا قرون الأمم الرافعين قرنًا على أرض يهوذا لتبديدها» (ع21).

الرؤيا الثالثة (زك2: 1-13)
لم تكن السيادة الأممية فقط هي العائق الظاهر لاسترداد صهيون، فحيثما ينظر اليهودي الأمين حوله، ما كان يجد إلا الخراب في أورشليم؛ فالأسوار، والأبواب، والبيوت باتت في دمار، بل أن تلك الحالة استمرت حتى وقت نحميا (نح1: 3).  وعلاوة على ذلك هناك قلة فقط من الشعب سكنوا هذه المدينة، الأمر الذي جعلها تبدو موحشة أكثر (نح7: 4).

السؤال الثالث•:
هل سيهتم الله بمدينة يتكون معظمها من “حجارة ... وتراب” (مز102: 14)، وخرائب؟

إن الرجل وبيده حبل القياس (زك2: 1)، يُمد بالإجابة فورًا؛ إذ هو مزمع أن “يُقيس أورشليم” ، أي يمتلكها.  وما يؤكد ذلك رسالة الملاك الواضحة المعالم أن يومًا ما «كالأعراء تُسكَنُ أورشليم من كثرة الناس والبهائم فيها»، لدرجة أنها تصير بلا أسوار ما عدا سور النار من حولها ، الذي هو الرب نفسه (ع4, 5)، حتى أن الكثيرين الذين لا يزالون في «أرض الشمال» أو مع «بنت بابل»، مُقدَّمة لهم الدعوة، التي لا بد أن تتم، أن يجتمعوا (ع6, 7)، بعد ما يظهر الرب بالمجد (ع8)، وأخيرًا الرب نفسه سيأتي (ع10)، ويسكن في وسطهم (ع10, 11)، حيث يُقدَّم هنا كما لو أنه قد بدأ أساسًا “رحلته” (ع13) التي ستصل به إليهم، وعندئذٍ سيكون يهوذا نصيب الرب، وأورشليم مختارة (ع12).  وكم تغدو تلك الإجابة شافية لكل نفس مضطربة بشأن خرائب صهيون.

الرؤيا الرابعة (زك3: 1-10)
والآن لنترك صعوبات عملية (سيادة أممية؛ مدينة في خراب؛ قلة العدد)، إلى حالة أدبية، حيث أن كل من يعرف الحالة الأدبية للشعب لا بد أن يسأل:

السؤال الرابع:
كيف  تصير هذه الأرض مقدسة (زك3: 9)؟ أَ لَم نتنجّس جميعًا؟ وماذا عن ذنبنا؟ هل يسترد الرب أرض شعب مُنجَّس، ولهذا فهو واقع تحت شكاوي الشيطان؟

حقًا من اللائق جدًا، في الرؤيا القادمة، أن يظهر يهوشع رئيس الكهنة في المشهد لابسًا ثيابًا قذرة (ع3)، وقائمًا قدام ملاك الرب (ع1)، أما الشيطان فلا يفتر عن تواجده (ع2) لكي يشتكي الشعب المُمَثل في رئيس كهنته.  لكن رسالة الملاك جاءت مختلفة: «فأجاب وكلَّم الواقفين قدامه قائلاً: انزعوا عنه الثياب القذرة. وقال له انظر. قد أَذهبت عنك إثمك وأُلبسك ثيابًا مُزخرفة» (ع4).  إثم مُنتزع وثياب مزخرفة عوضًا عنها: هذه هي إجابة الله.

الرؤيا الخامسة (زك4: 1-14)
رغمًا أن هناك وعداً بانتزاع الإثم الأدبي، بيد أن مشكلة الضعف العملي باقية؛ فلم يعد يُوجَد لإسرائيل ملك، بل مجرد والٍ يُدعى زَرُبَّابل (عزرا2: 2؛ حَجَّي1: 1)، واستقر السلطان الملكي تمامًا مع الإمبراطورية الفارسية، ومن ثم ينجم السؤال المكدِّر:

السؤال الخامس:
ماذا عن ضعفنا؟ كيف تُحفظ شهادة في مثل هذه الظروف؟

وهنا تُصاغ الإجابة داخل إطار رؤيا المنارة (ع2) وشجرتي الزيتون اللتين ترمزان إلى يهوشع وزَرُبَّابِل باعتبارهما قائدي الشعب أو «ابنا الزيت الواقفان عند سيد الأرض كلها» (ع14).  بجانب أن ع6 يجود برسالة واضحة جدًا إلى زربابل: «لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود».  فرغمًا أن الحاكم المدني للشعب لا يملك القدرة الكافية ، حسب الظاهر، لكن ذلك لا يُبطلِّ مقاصد الله، فلم يكن الوقت مناسبًا للاستعراض الخارجي للقوة، بقدر أنه «يوم الأمور الصغيرة» (ع10)، ولذلك ستُحفظ الشهادة (المنارة) بروح الله (ع6)؛ أما زربابل، فبالرغم من الضعف الواضح، إلا أنه الشخص الذي اُختير ليُتمم هذا العمل، بالنعمة (ع7).

الرؤيتان السادسة والسابعة (زك5: 1-4؛ 5-11)
  بينما تحوي الخمس الرؤى الأولى تأكيدات قوية، في مختلف أوجهها، فيما يتعلق برد صهيون، تعالج الثلاث الأخيرة أمورًا مُكمِّلة إذ تحمل الرؤيتان 6, 7 صفة الإنذار، حيث، عند سماعه مضمون الخمس الرؤى الأولى، من الممكن أن يتساءل يهودي:

السؤالان السادس والسابع:
لكن هل سيغض الله الطرف عن الشر الحادث في وسطنا؟
فحتى ولو قيل: «أُزيلُ إثم تلك الأرض في يومٍ واحدٍ» (زك3: 9)، لكن الله لا يمكن أن يتغاضى عن الشر.  فالنعمة يجب أن لا تُحوَّل إلى دعارة (يه4؛ رو3: 8؛ 6: 1) .  ولذلك يرى زكريا دَرْجًا طائرًا (ع2)، وهو اللعنة (ع3) الخارجة على وجه الأرض بسبب الشرور الأدبية ضد الله (الحلف زورًا)، وضد القريب (السرقة)، فلا بد إذًا أن يكون الدمار هو النتيجة لأي سقوط أدبي على هذه المحاور (ع4) ... هذا ما تعنيه الرؤيا السادسة.

أما الرؤيا السابعة فتُقدِّم المرأة جالسة في وسط الإيفة المَعنيّة باسم «الشر» (ع8)، وهذا بدوره يعضد نظام الوثنية.  لكن لا يمكن احتمال الشر الديني أكثر من الشر الأدبي المُمثل في السرقة والحلف زورًا، لذلك يُتتبع مسَار الوثنية رجوعًا حتى بابل (شنعار, ع11)، حيث منبتها.  وكما تعود طيور اللقلق دائمًا إلى أعشاشها، تُظهر الوثنية بأن منبعها وجذورها في بابل، وبالتالي لا يتغاضى الله عنها، بل سيتعامل معها كما هي. 

الرؤيا الثامنة (زك6: 1-8)
يلزم الانتباه إلى سوء فهم آخر ممكن الوقوع فيه بخصوص الرؤيا الأخيرة، فمن حيث إن يهوشع وزربابل مقبولان بالرب باعتبارهما «ابنا الزيت الواقفان عند سيد الأرض كلها» (زك4: 14)، إذًا يأتي السؤال:

السؤال الثامن:
هل يجب الخضوع مطلقًا إلى السلطات الأممية؟ ألا يكفي أن نعتبر فقط القادة الذين أقامهم الله في وسطنا؟ وخاصة وأن الله «مُغضِبٌ بغضَبٍ عظيم على الأمم المُطمئنِّنَ» (زك1: 15).

ففي ضوء الرؤيا الخامسة، على وجه الخصوص، ربما يتوارد مثل هذا الفكر إلى كثير من الشعب، إذ كم سيبدو الأمر مُشوَّقًا (حسب الظاهر)، عند التخلص من نير الأمم المُذّل.  لكن الرؤيا الأخيرة تحول دون هذه الفكرة، إذ تُوجّه الانتباه إلى الآلات (الأرواح –ع5) العاملة خلف السلطات الأممية، حيث إنها لا تعمل محضًا طوعًا لأهوائها الشخصية، لكنها «خارجةٌ من الوقوف لَدَى سيد الأرض كلها»! (ع5 ب)، ولهذا فهي في الوقت الراهن تحمل مصادقة الرب عليها، حيث جزئيًا (فقط الخَيْل الدُهْم الخارجون إلى أرض الشمال، وهكذا تمموا إرساليتهم)، قد أراحوا أساسًا فكر الله (ع8).  لكن إلى حين أن يتم جميع ما عيَّنه الله لهم أن يكون، عليهم اتّباع سبيلهم بلا حيود عنه يمنةً ولا يسرةً (ع1).

نعم، يا لكمال تشجيع الله لأمنائه في يوم الخراب، بل وكم يحفظ، بعناية، أتقياءه من إساءات الفهم التي يجوز أن تبرز خلافًا لذلك.

وهكذا يصير الطريق مُهيئًا لختام المشهد:
رجُل• اسمه «الغصن»، ملك وكاهن على كرسيه، حيث تُقدَّم سلسلة من أمجاد الرب يسوع في عددي 12, 13، إذ تتمركز مشورة الله ورد صهيون في هذا الإنسان: «هُوذا الرَّجُل "الغُصنُ" اسمُهُ.  ومن مكانهِ ينبُتُ ويبني هيكل الرب.  فهو يبني هيكل الرب، وهو يحمِلُ الجلال ويجلس ويتسلط على كرسيه، ويكون كاهنًا على كُرسِيِّهِ، وتكون مشورة السلام بينهما كليهما»
وهل هذا يناسب اليوم؟

في النهاية نود القول بحق، أن رؤى زكريا، بعد مرور أكثر من 2500 سنة، لم تفقد مواءمتها، حتى أن المؤمنين الذين يشغلون مكانة خاصة جدًا في قلب الرب (الكنيسة التي أحبها المسيح وأَسلَمَ نفسه لأجلها - أف5: 25)، يستطيعون أن يستخرجوا دروسًا أدبية من خلال تلك الرؤى القديمة:

  • أولاً، نستطيع أن نتعلم أنه عندما يُضطهد شعب الله قد لا يتدخل الله دائمًا، ولكنه، في نفس الوقت، لا يبقى غير مكترث (قارن الرؤيا الأولى).
  • ولذلك تعين تمامًا أنه لكل قوة معادية هناك الآلة المناسبة التي أعدها الله خصيصًا ليتعامل بها معها في حينه (الرؤيا الثانية).
  • والأكثر، نحن متيقنون أن الله لديه اهتمام شديد بأكثر المجهودات تواضعًا ليؤول ذلك إلى شهادة أمينة له (الرؤيا الثالثة).
  • سيمد الله شعبه بالمؤونة بخصوص نجاستهم وفشلهم (إن أدانوها)، وكذلك بالارتباط مع ضعف المتورطين فيها (الرؤيتان الرابعة والخامسة).
  • ومع ذلك لا يجب على الإطلاق أن ندَّعي بأن الله يتغاضى أو يحتمل الشر سواء كان ضد قريبنا (الرؤيا السادسة)، أو ضد الله نفسه (الرؤيا السابعة)، بل هو مزمع أن يحكم عليه.
  • وفي أثناء ذلك، علينا أن نراعي طرق الله للإمداد لكي نعي أنه رغم أنه يتحرك خلف المشهد، غير أنه ما زال يحكم ويوجه كل الأشياء بالتمام طبقًا لمقاصده (الرؤيا الثامنة).
  • إنَّ تعلُّم هذه الدروس من شأنه أن يساعدنا أن نُقدِّر أكثر ما على الله أن يقوله حول أمجاد رَجُل مشوراته (زك6: 12, 13).