«ومَنْ يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى المُلْك» (أس4: 14).
الذبحة الروحية الإحسان ملكية أم وكالة؟ ماذا لو غاب عنا الشعور إزاء الإحسان بالوكالة وحل محله الشعور بالملكية؟ أعتقد أننا في تلك الحالة حتمًا سنصاب بمرض عضال ألا وهو ارتفاع القلب! أو ما يمكنني أن أسميه ”الذبحة الروحية“، بالمقابلة مع الذبحة الصدرية التي تصيب القلب الطبيعي. فالقلب حرفيًا قد لا يحتمل المجهود الكثير، والقلب روحيًا قد لا يحتمل النجاح الكثير. فكما قد يخون القلب حرفيًا صاحبه إذا حَمّلَه بمجهود كثير، ويصاب بالذبحة الصدرية. كذلك قد يخون القلب روحيًا إلهه إذا حَمّلَه بنجاح كثير، ويصاب بالذبحة الروحية. وقد اخترت لك، عزيزي القارئ، مثلين من كلمة الله، يريانا اثنين من أفضل الأتقياء، لكنهما، للأسف، سقطا كلاهما ضحية لهذا المرض المميت! أحدهما بسبب النجاح الزمني، والآخر بسبب النجاح الروحي! وكان السبب في الحالتين هو تجاهلهما أنهما مجرد وكيلين على إحسانات الله المتنوعة، وليسا مالكين. عزيا والنجاح الزمني لقد ولد عزيا في أيام وظروف صعبة للغاية، كان طابعها العام هو الفشل في كل شيء. فأبوه أمصيا رجع من وراء الرب بصورة غاية في الغرابة والغباء، فلقد ساعده الرب مساعدة عظيمة وأسقط أعداءه الأدوميين أمامه، فماذا فعل؟ يقول الكتاب: «ثم بعد مجيء أمصيا من ضرب الأدوميين أتى بآلهة بني ساعير (أي الأدوميين المهزومين) وأقامهم له آلهة، وسجد أمامهم، وأوقد لهم» (2أخ25: 14)!! وفي هذا الوقت تقريبًا ولد عزيا. وكانت نتيجة هذا الشر ما قاله الكتاب: «ومن حين حاد أمصيا من وراء الرب فتنوا عليه في أورشليم، فهرب إلى لخيش، فأرسلوا وراءه إلى لخيش وقتلوه هناك» (2أخ25: 27). وهذه هي فترة طفولة عزيا وحتى سن السادسة عشر حين ملكه شعب الأرض بدلاً من أبيه. إذًا كانت طفولته بائسة وكل أيامه حتى مَلَك عنوانها الفشل. فمولده كان في وقت خيانة أبيه للرب، ومنذ مولده وحتى ملكه كان أبوه هاربًا قبل أن يموت قتيلاً. هذا الفشل جعله يطلب الرب ويلجأ إليه، وكانت النتيجة أن الرب ساعده وأنجحه، حتى نجح واشتهر كما لم ينجح أحد من ملوك يهوذا منذ أيام سليمان. بل إننا نتعجب من حجم إنجازاته ونجاحاته العسكرية والعمرانية والزراعية، بل واختراعاته العلمية والتي نقرأ عنها في 2أخبار26، كما أن فترة ملكه كانت أطول فترة في كل تاريخ إسرائيل، إذ بلغت اثنتين وخمسين سنةّ. وقال عنه الكتاب هذه الكلمات: «وفي أيام طلبه الرب أنجحه الله»، وأيضًا يقول: «وأعطى العمونيون عزيا هدايا وامتد اسمه إلى مصر، ....وساعده الله على الفلسطينين وعلى العرب .. وامتد اسمه لأنه تشدد جدًا، .... وامتد اسمه إلى بعيد إذ عجبت مساعدته حتى تشدد». لكن للأسف الشديد انظر ماذا يقول الكتاب بعدها مباشرة: «ولما تشدد ارتفع قلبه إلى الهلاك وخان الرب إلهه». أ ليس هذا غريبًا وعجيبًا؟ لما تشدد ارتفع وخان الرب! والآن أخالك، عزيزي القارئ، تسألني: هل الإحسان يسبب ارتفاع القلب، وخيانة الرب؟ والإجابة بكل خزي وخجل هي: نعم، هذا هو حال قلوبنا، فبدلاً من العرفان بالجميل وشكر المنان نختال بالإحسان، ويملؤنا الغرور الباطل، ونخون القلب الذي أحبنا، وننسب الفضل لأنفسنا!! هل هذا يعقل؟ هل يمكن أن المؤمن يخون الرب الذي رفعه من هوة الفشل وساعده وأنجحه حتى عجبت مساعدته؟ نعم لقد حدث. وهذه هي عزيزي القارئ حقيقة القلب البشري حتى في المؤمنين. هذه الحقيقة المؤلمة تفسر لنا شيئًا وتحتم علينا شيئًا. إنها تفسر لنا: لماذا لا يسمح الرب للكثيرين من أولاده بالكثير من النجاحات الزمنية؟ لماذا يعطي الرب الخير الزمني والنجاح الأرضي بقدر محسوب، وبعد كثير من المعاملات؟ هنا نرى السبب، فقلوبنا لاتحتمل النجاح. أما ما تحتمه فهو أن نتذكر دائمًا أننا لا نملك ما يعطينا الرب من إحسانات، بل إننا مجرد وكلاء. حزقيا والنجاح الروحي إن كان عزيا قد أتى من قاع الفشل الزمني الذي أوصله إليه أبوه أمصيا ووصل إلى قمة النجاح الزمني بمساعدة الله له، فإن حزقيا قد أتى من قاع العار الأدبي الذي أوصله إليه أبوه أحاز، ووصل إلى قمة المجد الأدبي والروحي بنعمة الله التي اختارته! فأبوه هو أحاز الذي أغلق أبواب بيت الله، وعمل تماثيل مسبوكة للبعليم، وأوقد في وادي ابن هنوم، وأحرق بنيه بالنار حسب رجاسات الأمم! وذبح وأوقد على المرتفعات وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء. الذي قيل عنه: «لأن الرب ذلل يهوذا بسبب أحاز، لأنه أجمح يهوذا، وخان الرب خيانة» (2أخ28: 19). لكن حزقيا وصل بنعمة الله إلى أن يوقف له الرب الأرض عن الدوران! الأمر الذي لم يفعله الرب إلا في أيام المجد الأول في زمن انتصارات يشوع ودخول كنعان. فقبل أحاز لم يأت ملك ليهوذا عمل من شرور مثلما فعل أحاز! وقبل حزقيا ابنه لم يأت ملك ليهوذا اتكل على الرب إله إسرائيل مثلما فعل حزقيا! لقد استلم المملكة مكللة بعار عبادة الأوثان تحت كل شجرة خضراء في أورشليم وفي كل زاوية حتى صارت مدينة الأصنام وليست مدينة الملك العظيم. وفي المقابل لم يعيد الشعب عيدًا للرب منذ أيام سليمان كما عيدوا في عهد حزقيا، ولم تتطهر أورشليم من أصنامها كما تتطهرت في أيام حزقيا. هو رجل الصلاة والمعجزات، هو الرجل الذي نشر رسائل سنحاريب أمام الرب فأرسل له الرب ملاكًا أباد 185 ألف جبار بأس من جيش سنحاريب فلم تقم له قائمة بعد ذلك، هو رجل الاختبارات العظيمة والصلوات القوية والمعجزات الخارقة فهو الذي شفاه الرب بمعجزة وأضاف لعمره 15سنة، لكن فوق الكل هو الرجل الذي اهتز العالم القديم بسببه عندما طلب علامة من الرب تؤكد إطالة عمره فأرجع له الرب الظل على مقياس أحاز عشر درجات، أي أنه غيَّر من أجله حركة الأجرام السماوية. هو الرجل الذي قيل عنه: «عمل ما هو صالح ومستقيم وحق أمام الرب إلهه، وكل عمل ابتدأ به في خدمة بيت الله وفي الشريعة والوصية ليطلب إلهه إنما عمله بكل قلبه» (2أخ31: 20و21). والسؤال الآن ماذا حدث لهذا القلب بعد كل هذه الخدمة العظيمة للرب؟ بعد كل هذا التكريس، وبعد كل هذه الاختبارات والأمجاد، ماذا كان الأثر على قلب حزقيا؟ للأسف الشديد لقد أصيب هو أيضًا بالذبحة الروحية!! هل القلب الذي قيل عنه في تكريسه للرب ”إنما عمله بكل قلبه“، يصاب بهذه الذبحة الرديئة؟ هل القلب الذي قيل عنه: على الرب إله إسرائيل اتكل، وبعده لم يكن مثله في جميع ملوك يهوذا ولا في الذين كانوا قبله، والتصق بالرب ولم يحد عنه. يصاب بهذه الذبحة المأساوية؟ للأسف الشديد إن الإجابة هي: نعم انظر ماذا يقول عنه الكتاب: «ولم يرد حزقيا حسبما أنعم عليه، لأن قلبه ارتفع، فكان غضب عليه وعلى يهوذا وأورشليم» (2أخ32: 25)! لاحظ قوة وجمال هذا التعبير ”لم يَرُدَّ“ ”حسبما أنعم عليه“. إنه يطرح علينا سؤالاً في غاية الأهمية: هل الرب عندما ينعم علينا ينتظر منا ردًا ؟؟ نعم بل إنه ينتظر أن يكون ردنا على قدر إحسانه لنا! ولماذا لم يرد حزقيا حسبما أُنعم عليه؟ يجيب الكتاب بالقول لأن قلبه ارتفع!! يا للهول! هل النجاح الروحي من الممكن أن يقود لارتفاع القلب مثله مثل النجاح الزمني؟ هل الاستخدام الإلهي للخادم قد يقوده للارتفاع؟ للأسف البالغ: نعم!! هذا ما يؤكده كلام بولس عن الشوكة التي أعطاها له الرب في جسده فقال: «لئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع» (2كو12: 7)! لاحظ تكرار كلمة ”أرتفع“ مرتين. لكن من النافع لنا جدًا أن نسأل كيف ارتفع قلب حزقيا؟ فالكتاب يذكر الحادثة التي كشفت عن ارتفاع قلب حزقيا، ولنا فيها الدرس الذي ما زلنا نتحدث عنه ”الإحسان ملكية أم وكالة؟“. يقول الكتاب: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَرْسَلَ بَرُودَخُ بَلاَدَانُ بْنُ بَلاَدَانَ مَلِكُ بَابِلَ رَسَائِلَ وَهَدِيَّةً إِلَى حَزَقِيَّا، لأَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ حَزَقِيَّا قَدْ مَرِضَ فَسَمِعَ لَهُمْ حَزَقِيَّا وَأَرَاهُمْ كُلَّ بَيْتِ ذَخَائِرِهِ، وَالْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ وَالأَطْيَابَ وَالزَّيْتَ الطَّيِّبَ، وَكُلَّ بَيْتِ أَسْلِحَتِهِ وَكُلَّ مَا وُجِدَ فِي خَزَائِنِهِ. لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ لَمْ يُرِهِمْ إِيَّاهُ حَزَقِيَّا فِي بَيْتِهِ وَفِي كُلِّ سَلْطَنَتِهِ. فَجَاءَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ إِلَى الْمَلِكِ حَزَقِيَّا وَقَالَ لَهُ: [مَاذَا قَالَ هَؤُلاَءِ الرِّجَالُ، وَمِنْ أَيْنَ جَاءُوا إِلَيْكَ؟] فَقَالَ حَزَقِيَّا: [جَاءُوا مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ، مِنْ بَابِلَ، فَقَالَ: [مَاذَا رَأُوا فِي بَيْتِكَ؟] فَقَالَ حَزَقِيَّا: [رَأُوا كُلَّ مَا فِي بَيْتِي. لَيْسَ فِي خَزَائِنِي شَيْءٌ لَمْ أُرِهِمْ إِيَّاهُ]. فَقَالَ إِشَعْيَاءُ لِحَزَقِيَّا: [اسْمَعْ قَوْلَ الرَّبِّ: هُوَذَا تَأْتِي أَيَّامٌ يُحْمَلُ فِيهَا كُلُّ مَا فِي بَيْتِكَ وَمَا ذَخَرَهُ آبَاؤُكَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ إِلَى بَابِلَ. لاَ يُتْرَكُ شَيْءٌ، يَقُولُ الرَّبُّ. وَيُؤْخَذُ مِنْ بَنِيكَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْكَ الَّذِينَ تَلِدُهُمْ، فَيَكُونُونَ خِصْيَاناً فِي قَصْرِ مَلِكِ بَابِلَ] (2مل20: 12- 18). بعد أن شفي حزقيا بمعجزة، وكانت علامة الشفاء معجزة أعظم، ذاع في كل الأرض خبر تقواه وأمانته للرب، ووقوف السماء في صف من وقف في صفها. فأتاه رسل من ملك بابل يسألونه؛ لا عن خزائنه، ولا عن بيت ذخائره وأسلحته، بل ببساطة أتوا ليسألوه عن معاملات الله معه. وبدلاً من أن يشهد عن عظمة إلهه وقدرته السرمدية، تكلم عن غناه وأمجاده الأرضية!! انظر ماذا يقول الكتاب: «وهكذا في أمر تراجم رؤساء بابل الذين أرسلوا إليه ليسألوا عن الأعجوبة التي كانت في الأرض. تركه الله ليجربه ليعلم كل ما في قلبه» (2أخ32: 31). لقد ارتفع قلبه بسبب إنعام الرب عليه، فنسي أن كل ما عنده وكالة! وظن أنها ملكه. فلما أتاه رسل ملك بابل استعرضها أمامهم، وهو فعلاً يشعر أنها ملكه. لاحظ قوله في عدد15: ”بيتي، خزائني“!!! ولذا فعلى الفور أرسل إليه المالك الحقيقي ليعزله عن الوكالة! أرسل إليه الرب إشعياء ليعلن له قضاء الرب الرهيب عليه، أن كل ما رأوه سينقل إلى بابل بما فيه أولاد حزقيا!! فقد كان الرب كمن يقول له: هل نسيت أنك مجرد وكيل، وأن كل هذه الممتلكات هي من غنى إنعام الرب وإحسانه؟ هل شعرت أنك تملك؟ إذًا سأبرهن لك بالبرهان الدامغ أنك لا تملك، إذ سوف أنقل كل هذه الممتلكات التي استودعتها عندك إلى بابل!! وأخيرًا تحضرني قصة هذا الرجل الذي كان يقطع خشبًا، تحت إشراف أليشع رجل الله، وسقط منه الحديد في الماء. فصرخ وقال: ”آه يا سيدي! لأنه عارية“ (2مل6: 5)، أي أنني لا أملكه. وهنا أقول: يا ليته كان قد تذكر أنه عارية وهو يستعمله وليس بعد أن سقط منه! فلو كان قد تذكر هذا وهو بين يديه لكان تصرف بأكثر حرص وعناية لئلا يفقده. لذلك، أحبائي: دعونا نتذكر أن كل إحسان يصل إلينا هو عارية يختزنه عندنا إله النجاة لغرض صالح عنده، قد يكون منفذًا لنا من تجربة، أو منفذًا لغيرنا، يستخدمنا الرب بما وضعه تحت أيدينا لبركتهم. لذا علينا أن نصونه كوكلاء، لا أن نتصرف فيه كملاك. إن الشعور العميق بأننا لا نملك، والعيشة بفكر الوكيل الذي سيعطي يومًا حساب وكالته، هي التي تحمينا من الذبحة الروحية. هذا ما عاشت به أستير، وهذا ما ذكرها به مردخاي في عبارته الجميلة: ”ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك“. وهذا أيضًا ما أتمناه لنفسي وإخوتي.