«الْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا»(حب٢: ٤)
حبقوق منتظرًا
كان حبقوق نبيًا ليهوذا؛ المملكة الجنوبية وعاصمتها أورشليم، حوالي سنة ٦٠٩-٥٩٧ ق. م. وكانت الأمور سيئة جدًا في أيامه، حيث ظُلِم الفقير، وغابت العدالة الاجتماعية. كان القانون إما أن يُغفل عنه، أو يتم ليه أو التلاعب به لصالح قلة فاسدة. كان العنف سائدًا في الشوارع، وعمَّ الفساد. كانت هناك اضطرابات من كل نوع. والقيم الأدبية انهارت تمامًا. والذين ظلوا متمسكين بالإيمان بالله كانوا بقية قليلة. كان المجتمع في انهيار أمام عيني حبقوق (حب ١: ١-٤). فلا عجب أن تخرج صرخة من ذلك القلب الرقيق الذي لهذا النبي الأمين: «حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟» (حب ١: ٢). فكيف يمكن أن يسمح الله لخطية سافرة كهذه أن تمر دون قضاء؟!
بالتأكيد يصادق المؤمن اليوم على ما فعل حبقوق. وأي وصف للأحوال الحاضرة في مجتمعاتنا وبلادنا أدق مما هو مذكور في حبقوق ١: ٢-٤؟
«حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟ لِمَ تُرِينِي إِثْمًا، وَتُبْصِرُ جَوْرًا؟ وَقُدَّامِي اغْتِصَابٌ وَظُلْمٌ وَيَحْدُثُ خِصَامٌ وَتَرْفَعُ الْمُخَاصَمَةُ نَفْسَهَا. لِذلِكَ جَمَدَتِ الشَّرِيعَةُ وَلاَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ بَتَّةً، لأَنَّ الشِّرِّيرَ يُحِيطُ بِالصِّدِّيقِ، فَلِذلِكَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ مُعْوَجًّا».
حبقوق مصارعًا
تتساءل نفس المؤمن الحساسة مع حبقوق: «لِمَ تُرِينِي إِثْمًا؟» (١: ٣). فأجاب الله عن هذا السؤال، لكن الإجابة كانت بمثابة صدمة حقيقية للنبي: «لأَنِّي عَامِلٌ عَمَلاً ... لاَ تُصَدِّقُونَ» (١: ٥-١١). لقد قيل له إن الكلدانيين الأشرار القساة المرعبين؛ إمبراطورية بابل الصاعدة، ستجتاح اليهودية. في الواقع كان الله بصدد أن يقيم هذه الأمة الوثنية ليستخدمها في الدينونة بسبب الخطية التي انتشرت في الأرض. إن الشبه قريب جدًا حتى إنه من الصعب تجاهله. هل يسمح الله بطغيان الفجور، لتتميم قصده السريع في دينونة شعب يتخلى هكذا سريعًا عن الإيمان الذي كان يُميّزه قبلًا؟ لقد استلم حبقوق الرسالة، ولكنه لم يعيها تمامًا! لقد فهم أن الله اختار هذه الوسيلة للتأديب عندما رد قائلًا: «يَا رَبُّ لِلْحُكْمِ جَعَلْتَهَا (الكلدانيين)، وَيَا صَخْرُ لِلتَّأْدِيبِ أَسَّسْتَهَا» (١: ١٢). لكن ما لم يفهمه حبقوق هو كيف يمكن لله أن يفعل هذا! «فَلِمَ تَنْظُرُ إِلَى النَّاهِبِينَ، وَتَصْمُتُ حِينَ يَبْلَعُ الشِّرِّيرُ مَنْ هُوَ أَبَرُّ مِنْهُ؟» (١: ١٣). كيف لإله قدوس أن يسمح لأمة، أشر من يهوذا، أن تزدهر وتغلب وتسود وتستولي على صولجان السيادة؟ نعم، إن يهوذا يستحق التأديب، لكن لماذا لا تُعاقب الكلدانيين أيضًا؟ إنهم أسوأ بكثير. ألا يبدو هذا التفكير مألوفًا لنا؟
لم يكن حبقوق الأول في المصارعة مع تلك التساؤلات. فمن قبله، عانى آساف كثيرًا في صراعه مع هذه التساؤلات المُحيِّرة (مزمور ٧٣). ولم يكن حبقوق آخر المؤمنين الذين صارعوا مع تساؤلات بخصوص مسألة الشر. ففي مرحلة ما من حياة كل مؤمن نامٍ، لا بد أن يحتك بهذه القضية.
حبقوق مُراقِبًا
إن الوضع الذي اتخذه حبقوق وهو متفكر في سؤاله غير المُجاوَب عنه كان جميلًا. وهذا هو موضوع أصحاح ٢: ١-٤. لقد قال:
«عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ، وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ، وَأُرَاقِبُ لأَرَى مَاذَا يَقُولُ لِي، وَمَاذَا أُجِيبُ عَنْ شَكْوَايَ. فَأَجَابَنِي الرَّبُّ وَقَالَ: اكْتُبِ الرُّؤْيَا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ لِكَيْ يَرْكُضَ قَارِئُهَا، لأَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ، وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ. هُوَذَا مُنْتَفِخَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ نَفْسُهُ فِيهِ. وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا».
لقد قرر حبقوق أن ينتظر بصبر وتسليم، ويراقب عن كثب إجابة الرب عليه. لم يتضايق أو يُحبَط أو يُطالب الرب بأجوبة فورية. لم يقل: “إن الله لا يهتم بمشاكلي”. كلا، بل انتظر وراقب. ويا ليتنا نفعل هكذا!
إن المرصد أو برج المراقبة هو المكان الذي منه يستطيع المراقب أن يرى كل ما حوله، ويُمكّنه أن يُمَيِّز بوضوح ما يجرى من حوله، وأيضًا منه يستطيع أن يحرس مكانه. وفي هذا صورة للتوجُّه الذي يريده الله منا ونحن في انتظار إجاباته عن الأحوال والمواقف التي لا نستطيع فهمها. لا تبقى أسفل في الوادي، حيث لا يمكنك أن ترى البعيد. اصعد إلى البرج، حيث يكون أسهل عليك أن ترى ما يحدث تحتك، من منظور الله. لقد فهم آساف جواب الرب فقط عندما دخل إلى مقادس الله (مزمور ٧٣: ١٦، ١٧).
والأسئلة غير المُجاب عنها، يمكنك أن تحوِّلها إلى الرب، وتنتظر وتراقب أجوبته. وأثناء انتظارنا له، دعونا لا نيأس من إيماننا بسبب أسئلتنا غير المُجاوب عنها. والمرصد هو أيضًا الحصن الذي يحفظ الحق الذي أعطاه الله إياك.
لقد جاوب الرب حبقوق تمامًا كما يجيب دائمًا منتظريه الساهرين من المؤمنين. فلم يتشكك حبقوق ليقول: “هل حقًا جاوبني الله، أم أنني أتخيل ذلك؟” إن الله لا يرسل الإجابات مُشَفَّرة! بل كان الجواب الذي أعطاه لحبقوق في غاية الوضوح حتى يمكن كتابته ونقله لآخرين. في الواقع، أراد الله إذاعة الجواب دون أي مضيعة للوقت (٢: ٢).
حبقوق سَائِرًا
هذا هو الجواب الذي أعطاه الله لحبقوق حيال مسألة الشر المحيرة: إن الشر موجود بالفعل، هو ليس تخيلات وأوهام. لكنه موجود لفترة زمنية محددة ومُعيَّنة من قِبَل الله. إن التاريخ ليس عشوائيًا، بل يتحرك نحو هدف، ويستحيل أن يفشل قصد الله. لكن بالتأكيد يسير حسب جدوله الزمنى (٢: ٣). عندما اقْتَبَس الرسول بولس عدد ٣ في عبرانيين ١٠: ٣٧ غيَّر “الرُّؤْيَا” إلى “الآتِي”. إن هدف التاريخ متمركز حول شخص الرب يسوع المسيح، الذي سيقهر كل شر، ويكون رب للكل.
ماذا يفعل المؤمن في الوقت الحاضر؟ عليه أن “يَحْيَا بِإِيمَانِهِ” (٢: ٤). ربما لا نفهم كيف لإله قدوس أن يحتمل وجود الشر، ويصبر عليه! ولماذا يحصل الإنسان الخطأ على أفضل الأنصبة! ولكن على الإنسان البار أن يسلك بالإيمان.
هناك مبادئ عامة مُتضمَّنة في الخمسة ويلات المنطوقة على الكلدانيين: شهوة العدوان، والطمع، والاستغلال، والخزي، والوثنية (٢: ٥-١٩). إن الله يؤكد لنا أن كل شر له دينونة إلهية. وبذرة تدمير الذات موجودة في نفس الإنسان غير المستقيم قدام الله (٢: ٤). إن الدينونة النهائية لا بد آتية، لكن في الوقت الحاضر على المؤمن أن “يَحْيَا بِإِيمَانِهِ” (٢كو ٥: ٧).
حبقوق سَاجِدًا
في الأصحاح الثالث من نبوة حبقوق نجد النبي ساجدًا للرب. هذا ما يجب أن يكون نتيجة كل صراع مع الله، لكننا غالبًا ما نشعر بالمرارة والغضب لأننا لا نرغب في الانتظار والترقب والمثابرة. إن سجود حبقوق بدأ بالفعل في ٢: ٢٢ «أَمَّا الرَّبُّ فَفِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. فَاسْكُتِي قُدَّامَهُ يَا كُلَّ الأَرْضِ». لقد تعلم أن يخضع بصمت لحكم الله وقضائه الإلهي؛ وكان هذا سجودًا. وأدرك أن اقترابه الوحيد لله كان طلبًا للرحمة (٣: ٢)؛ وكان هذا سجودًا. لقد شعر بهيبة حضور مجد الله (٣: ٣، ٤)؛ وكان هذا سجودًا. وطفق يتأمل في أعماله العظيمة على مر التاريخ (٣: ٥-١٥)؛ وكان هذا سجودًا. لقد ارتجف لأنه مر باختبار روحي عميق إذ تعرف على حقيقة الله الحي الذي سيأتي بالقضاء (٣: ١٦)؛ وكان هذا سجودًا. وابتهج إذ علم أنه بالرغم من الأوقات العصيبة والصعوبات التي هي نتيجة الشر والخطية، لم يزل الرب هو قوته وخلاصه (٣: ١٧-١٩)؛ وكان هذا سجودًا. "فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ" (٣: ١٨). هذا النوع من السجود لا يفيض إلا من قلب الذي ينتظر ويصارع ويراقب ويسير مع الرب.