أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2019
حياة يوسف ... الله هو العامل
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لا تنمو شخصية أي إنسان بسهولة، وإنما في ظروف الضيق والشدة. والمُمحِّص الإلهي يفصل الزَّغَل عن الذهب في بوتقة الضيقات، ودائمًا يستخدم الظروف ليستخرج ما يبحث عنه في الإنسان. وبالنسبة لحياة يُوسُف، فلا شيء في ولادته ولا في نشأته، كان يُنبئ عن العظمة المُقدَّرة له. ولكن كان في فكر الله أشياء عظيمة من جهته، ومياه عميقة كان يجب أن يجوز فيها، قبل أن يصل إلى هذه العظمة.

والعائلة التي وُلِدَ فيها يُوسُف كان قد أضناها وأنهكها التعب والخصام والمنازعات. فأبوه “ِيَعْقُوب” عمل سبع سنوات ليتزوج “رَاحِيل”، ولكنه خُدِعَ في الزواج من شقيقتها “لَيْئَة”، ومن ثم فقد عمل لسبع سنوات أُخَر لأجل “رَاحِيل”. وعندما ثبت أن “رَاحِيل” كانت عَاقِرًا وأن “لَيْئَة” مثمرة، ألزمته “رَاحِيلُ” بأن يكون لها أبناء من جاريتها “بَلْهَة”. ولم تتوان “لَيْئَةُ” أيضًا، وألزمته بأن يكون لها أولاد من جاريتها “زِلْفَة”. وفي جو الشقاق والخصام والمنازعة هذا، بارك الله يَعْقُوب ورَاحِيلُ بولادة يُوسُف.

ثلاثة ملامح شخصية:

تبرز هذه الملامح الثلاث في قصة يُوسُف (تك ٣٧-٥٠). والملمح الأول يتميز بهذه العبارة «وَأَتَى يُوسُفُ بِنَمِيمَتِهِمِ الرَّدِيئَةِ إِلَى أَبِيهِمْ» (تك ٣٧: ٢). لم يُشارك في المنازعات والمثالب وعدم الأمانة التي ميَّزت عائلته. ولم ينغمس في أساليب الخداع والاحتيال التي كانت لإخوته الكبار، ولكنه فقط فعل ما كان مُفترضًا أن يفعله؛ أن يُطعِم قطعان الغنم. ولم يذكر الكتاب مضمون نميمة إخوته، ولكن الأمانة والاستقامة كانتا ملمحان ثابتان ودائمان في حياته.

والملمح الثاني هو أن يُوسُف كان ابن يَعقُوب المُفَضَّل، وميَّزه بقميص رائع مُلوَّن (تك ٣٧: ٣). وكان تفضيل أبيه له هو بذرة الحسد والبغضة، والخيانة والخداع التي لعبها إخوته فيما بعد. ونحن لا نعرف لأي مدى قد تباهى يُوسُف بالكرامة التي أضفاها أبوه عليه، ولكن اللوم على منشأ الكراهية يقع بالطبع على يَعقُوب.

أما الملمح الثالث والأهم فهو أحلام يُوسُف التي أنبأت عن مجده المستقبلي كَسَيِّد في العائلة. هذه الأحلام أشعلت العداوة في قلوب إخوته نحوه، بينما أثارت الدهشة من يعقوب. وهكذا دائمًا تكون الحالة طالما أن الذهن الطبيعي لم يدخل في خطط الله، فإما أن يزدري بها أو يُعارضها. وكلنا نحتاج الإيمان دائمًا لكي ندخل إلى فهم مقاصد الله. وسواء كان يُوسُف حكيمًا في أن يحكي أحلامه لأسرته أو لم يكن، فإنه لم يكن هو الذي فسَّر هذه الأحلام، بل أسرته، التي رأت فيها معنى السيادة والرفعة. وبدلاً من قبول هذه الرسالة باعتبارها من الله لصالحهم، فإن الكراهية والغيرة والحسد قادتهم إلى بيع يُوسُف عبدَا؛ أي أنهم وضعوه في موضع الموت.

هل نستطيع أن نرى التوازي مع حياة الرب يسوع؟ إننا نقرأ في إنجيل يوحنا «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يو ١: ١١)، ومع ذلك قال عن نفسه: «إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ» (يو١٥: ٢٥). وهو الذي لم تكن فيه خطية، رفضه إخوته وسلَّموه ليُصلب بأيدي الأمم المُشاركين في الجريمة معهم، وقالوا: «خُذْهُ! خُذْهُ! اصْلِبْهُ!»، «لاَ نُرِيدُ أَنَّ هَذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا» (يو١٩: ١٥؛ لو١٩: ١٤).

موضوعان رئيسيان

رغم أن إخوة يُوسُف قد ظنوا أنهم قد أنهوا موضوع يُوسُف، إلا أن الله لم يُنهه. ويا لها من رسالة هامة: الله لم يُنه الموضوع. قد نفقد الأمل في شخص ما كحالة لا أمل فيها، أو نعتبر الظروف بالغة القتامة فلا تُحتمل، ولكن الله موجود، ولا ينتهي الموضوع ما لم يقل الله ذلك. ولذا فقد أمسك الله بقضية يُوسُف بين يديه.

لم تكن ليُوسُف القدرة على أن يُغيِّر حياته. لقد ككان في أيدي الآخرين تمامًا. هل يُمكن أن يسمح الله بمثل هذه القسوة، خاصة أنه قد أعطى وعودًا كبيرة؟! هنا يظهر الإيمان في المشهد. إنها ليست حياة يُوسُف، بل هي أمور تخص الله. وليس لكتلة الطين أن تتشكك وتتساءل بخصوص مهارة الخزَّاف وقدرته على اتخاذ القرارات. ومع أننا لا نستطيع أن نعرف ما كان يدور في ذهن يُوسُف إلا تخمينًا، إلا أنه يُمكننا أن نرى الاستناد على الله وعلى أمانته.

هذان هما الموضوعان الرئيسيان اللذان نجدهما في أصحاح ٣٩ من سفر التكوين. لقد بيع يُوسُف لِــ“فُوطِيفَارُ خَصِيُّ فِرْعَوْنَ رَئِيسُ الشُّرَطِ”، الذي سرعان ما لاحظ أن الله أنجح كل ما فعله يُوسُف. الله هو الذي ضمن ذلك، وليس يُوسُف. فحيثما يُوجد الإيمان والاستناد على الله في حياة المؤمن، فإن الله ينال الإكرام من هذه الحياة. أما إذا كانت الإرادة الذاتية حاضرة، فإن المرء يسعى لإكرام نفسه.

وبعد ذلك نرى أمانة يُوسُف. فعندما سعت امرأة فُوطِيفَار لإغرائه ليقع في سقطة أخلاقية، كانت إجابته: “حَاشَا لِلَّهِ”، هي دليل قداسته. إنه لم يقل: “كيف استُدرِجتُ إلى هذا؟ وإلى أي مدى يُمكنني أن أذهب؟” فالقداسة ليست فقط أن تتجنب الشر، ولكن أيضًا أن تستبشعه وتشمئز منه. وقبل أن يعهد الله لإنسان ما بمسؤولية، فإن أمانته يجب أن تُختَبَر. وفي بعض الحالات يجري هذا الاختبار علنًا، ولكن الله عادة يُنقي الشخصية في السر.

هكذا كانت الحالة مع الرب يسوع. ففي نشأته لم تتسلط عليه الأضواء. وعندما جاء وقت الخدمة، اُقتيد إلى البرية، وجُرِّبَ أربعين يومًا. فالشخصية يجب أن تُختَبَر داخليًا وخارجيًا، قبل أن تبدأ الخدمة. وبالنسبة لربنا يسوع، لم يكن فيه زغل ليُنقى، بل كان كاملاً من كل وجه، ومع ذلك – كإنسان – قد جُرِّب ليظهر هذا الكمال.

لقد مارس إخوة يُوسُف الكراهية والرفض نحوه، ثم اتُهِمَ زورًا، وأُلقي في السجن. وهكذا دخل يُوسُف في أحلك أيامه. وبالتأكيد لا يلومه أحد على رثاء النفس. ولكن ماذا نقرأ عنه: «وَلَكِنَّ الرَّبَّ كَانَ مَعَ يُوسُفَ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ لُطْفًا، وَجَعَلَ نِعْمَةً لَهُ فِي عَيْنَيْ رَئِيسِ بَيْتِ السِّجْنِ» (تك ٣٩: ٢١). ويا له من نصيب مُضاعف ما تلقاه يُوسُف في السجن: حضور الرب، وإظهار رحمته. وليس لأي قدر من البركة الأرضية أن يُبادل حضور الله في صفقة عادلة. ولقد تعلَّم يُوسُف هذا الدرس في السجن.

عندما كان ربنا يسوع في أشد الساعات قتامة في جثسيماني، والصليب أمامه، فإنه وضع نفسه في يد الآب قائلاً: «لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ» (مت ٢٦: ٣٩). يا لتسليم النفس! وحياة يُوسُف تُمثِل بعضًا من ذلك.

درسان

لقد لعبت الأحلام وتفسيرها دورًا في رفض إخوة يُوسُف له: «هُوَذَا هَذَا صَاحِبُ الأَحْلاَمِ قَادِمٌ. فَالْآنَ هَلُمَّ نَقْتُلْهُ ... فَنَرَى مَاذَا تَكُونُ أَحْلاَمُهُ» (تك ٣٧: ١٩، ٢٠). ولا عجب في أن الأحلام لعبت أيضًا دورًا مفتاحيًا في رفعته ومجده. ومهما كان تفسيره لحلمي الساقي والخباز مدهشًا وعجيبًا، إلا أن الدرس ليُوسُف كان أن «لِلَّهِ التَّعَابِيرُ» (تك٤٠: ٨). فلو كان لحلم تفسير، فتعبيره يأتي فقط من الله. وكان على يُوسُف أن يتعلَّم دائمًا الاستناد على الله وحده.

وإن كنا لا نستطيع أن نلومه لرغبته في أن يُطْلَق سراحه، ولتوسله للساقي أن يذكره عند فرعون عندما يُطْلَق حرًا، إلا أنه كان عليه أن يتعلَّم درسًا آخر: إن الله ليس متعجلاً. لقد بقي حلم أعظم ليُفسره، ليرتفع رفعة عظيمة، أكبر من مجرد إطلاق سراحه من السجن. ورغم أنه كان عليه أن ينتظر سنتين بعد ذلك، فإن نتيجة الانتظار كانت تفوق كثيرًا أي شيء يمكن أن يتخيله يُوسُف. وهكذا كان الأمر مع الرب يسوع: «الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ» (عب١٢: ٢). هل ترغب في الفرح الأعظم؟ اسمح إذًا لله أن يُجيزك في مثل ذلك الاختبار.

ولقد حدث حُلمان لفرعون أزعجاه، فأرسل ودعا جميع سَحَرَة مصر وجميع حكمائها، ليُفسرهما. وعندما لم يتمكن السَحَرَة والحكماء من ذلك، فقد تمَّ وضعهم تحت التحفظ. وإذ كان أقوى رجل في العالم قد واجه هذا العجز الفاضح لمعرفة ومعلومات العالم، فعندئذٍ يلمع الإيمان. لقد تذكَّر الساقي يُوسُف، فتكلَّم إلى فرعون عنه. ولخطورة وأهمية الموقف، فقد أسرع المسؤولون بحلق يُوسُف، وإبدال ثيابه، وأحضروه إلى فرعون.

وماذا قال يُوسُفُ لفرعون؟ «لَيْسَ لِي. اللهُ يُجِيبُ بِسَلاَمَةِ فِرْعَوْنَ» (تك٤١: ١٦). لم يكن ذلك تواضعًا زائفًا، بل كان إقرارًا أمينًا بالحقيقة. لقد اضطر السَحَرَة والحكماء لأن يروا أن الأمور كانت خارج نطاق معرفتهم وإدراكهم. ولم ينسب يُوسُف لنفسه حتى كونه مجرد قناة للتفسير. لقد تعلَّم يُوسُف أن يُنكر نفسه ويتخلى عن ذاته، وأن يثق بالله خلال هاتين السنتين اللتين فاقتا كل ما حدث معه قبلاً في السجن.

مهيأ للخدمة

كانت استجابة فرعون سريعة وغامرة. لقد رفَّع يُوسُف للمنصب الثاني للرئاسة في مصر «ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: بَعْدَ مَا أَعْلَمَكَ اللهُ كُلَّ هَذَا، لَيْسَ بَصِيرٌ وَحَكِيمٌ مِثْلَكَ. أَنْتَ تَكُونُ عَلَى بَيْتِي، وَعَلَى فَمِكَ يُقَبِّلُ جَمِيعُ شَعْبِي. إِلَّا إِنَّ الْكُرْسِيَّ أَكُونُ فِيهِ أَعْظَمَ مِنْكَ» (تك٤١: ٤٠). وفي هذا المركز الرفيع - بعد أن رفضه إخوته – قد أُعطيَّ اسمًا وزوجةً «وَدَعَا فِرْعَوْنُ اسْمَ يُوسُفَ: صَفْنَاتَ فَعْنِيحَ. وَأَعْطَاهُ أَسْنَاتَ بِنْتَ فُوطِي فَارَعَ كَاهِنِ أُونَ زَوْجَةً» (تك٤١: ٤٥). وهكذا الأمر أيضًا مع ربنا يسوع المسيح؛ لقد رُفِضَ من إخوته حَسَب الجسد «لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ» (في٢: ٩)، وأُعطيَّ أيضًا عروسًا؛ الكنيسة (أف٥: ٢٢-٣٢).

وهكذا بدأ يُوسُف العمل الذي هيأه الله له. لقد كان لا بد أن تمر تسع سنوات قبل الترفيع الثاني له في حياة يُوسُف. لقد استخدم يُوسُف سبع من هذه السنوات ليُخزن قدرًا كافيًا من الطعام ليُطعِم العالم. ولما تفاقمت المجاعة، وخلت كل المخازن الشخصية للناس، بدأ يُوسُف في بيع الطعام. لقد أتاح له منصبه فرصة هائلة للفساد والمحاباة والرشوة. إلا أن يُوسُف ظل أمينًا إزاء هذه الفرصة. وأية قوة على الحياة والموت كانت له عندما وصل مَن خانوه وغدروا به وباعوه!

فمن بين الجموع التي لجأت إلى مصر أثناء المجاعة، عشرة رجال لم يكونوا متميزين بأية صفة خاصة؛ فقط حفنة من الأفواه الأخرى الجائعة التي جاءت لتحصل على الطعام، وتعود. ولقد كان يُوسُف يُراقب بيع القمح شخصيًا (تك٤٢: ٦). وهكذا أصبح في مركز أتاح له أن يتعرف على إخوته، رغم أنهم لم يتعرفوا هم عليه. ترى ماذا كانت الفكرة الأولى ليُوسُف؟ لا شك أن الانتقام هو رد الفعل الطبيعي، إلا أن يُوسُف كان له فكر الله: «فَتَذَكَّرَ يُوسُفُ الأَحْلاَمَ الَّتِي حَلُمَ عَنْهُمْ»، الأحلام التي أعطاه الله إياها عن السيادة على إخوته (تك٤٢: ٩؛ ٣٧: ٥-١٠).

قلوب تغيَّرت

لا يجوز لنا مطلقًا أن نعتبر أنفسنا مركز خطط ومشورات الله. وإنما الرب يسوع دائمًا هو المركز. والآن فيُوسُف له السلطة أن يُرغِم إخوته أن يُتمّموا الأحلام التي جرت قبل ٢١ عامًا، إلا أنه عرف أن الكثير جدًا ما زال على المحك. لقد عرف العمل العظيم الذي عمله الله في قلبه، فهل له الإيمان ليُصدق أن الله سيعمل عملاً في قلوب إخوته؟ وكيف يُمكنه أن يعرف متى يعمل الله ذلك؟ لقد كان المفتاح هو: كيف يشعرون من نحوه، وأيضًا من نحو أخيه بنيامين.

وإذ كان يتكلَّم إليهم من خلال تُرجمان، فقد أرادهم أن يُحضروا بنيامين إلى مصر قبل أن يحصلوا على مزيد من القمح، ولذا وضعهم في السجن. وإذ أطلق سراحهم بعد ثلاثة أيام، فقد أنصت إلى ما كان يحتاج أن يعرفه: «قَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: حَقًّا إِنَّنَا مُذْنِبُونَ إِلَى أَخِينَا الَّذِي رَأَيْنَا ضِيقَةَ نَفْسِهِ لَمَّا اسْتَرْحَمَنَا وَلَمْ نَسْمَعْ. لِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الضِّيقَةُ» (تك٤٢: ٢١). كان الله في العمل فعلاً. وكم بكى يُوسُف إذ سمع ذلك. نعم، لم يكن قد صدر اعتراف بعد، ولكن على الأقل مؤشرًا أن قلوبهم لن تتقسَ، بل لانت.

وعندما رجعوا إلى أرضهم، تكدَّر يعقوب كثيرًا من أجلهم، ومن أجل إلزام بنيامين بأن يذهب إلى مصر. وربما كان يُوسُف يُفكِر في إخوته وقلوبهم إذ سألهم من جهة بنيامين، ولكن الله كان له العمل النهائي ليعمله في حياة يعقوب. كم كان الإيمان الذي اختبره يعقوب قليلاً إلى هذا الحد! وإلى أي حد يستطيع أن يعهد إلى الله بأثمن ما يمتلكه؟ أما يهوذا – الذي كانت فكرته في المقام الأول أن يُباع يُوسُف عبدًا – فقد تقدَّم إلى أبيه، وتعهد بأن يضمن بنيامين بنفسه. وعندئذٍ سمح لهم يعقوب بأن يعودوا إلى مصر (تك٤٣: ٨-١٠).

وحينما رأى يُوسُف إخوته متجمعين معًا، لم تكن له أية فكرة نحو ما جرى لإحضار بنيامين إلى مصر. ولكن ماذا كان موقف قلوبهم نحو بنيامين؟ هل كان هو الغيرة أم المحبة؟ وعندما أعطى لبنيامين موضع ونصيب الشرف، لم تكن لديهم لمحة من الغيرة (تك٤٣: ٣٤). وحينما دبر وسيلة لإلزام بقاء بنيامين في مصر بدونهم، فإن معنويات إخوته تحطمت تمامًا واستولى عليهم اليأس. لقد أحبوا أباهم، ولم يرغبوا له وجع القلب عندما لا يرى بنيامين مرة أخرى. وهكذا فإن يهوذا أخبر يُوسُف بكل الرواية الكاملة عما حدث، وكيف أجبرتهم الظروف لإحضار بنيامين إلى مصر، وحتى أنه عرض أن يبقى هو، بدونهم، عبدًا، لإمكان إعادة بنيامين حرًا إلى أبيه وإلى بيته «لأَنِّي كَيْفَ أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَالْغُلاَمُ لَيْسَ مَعِي؟ لِئَلَّا أَنْظُرَ الشَّرَّ الَّذِي يُصِيبُ أَبِي!» (تك٤٤: ٤٣).

انسحق يُوسُف تمامًا ولم يعد يضبط نفسه. لقد وجد ما كان يسعى إليه؛ لقد غيَّر الله إخوته، ولم يعد بحاجة لأن يخفي مشاعره. لقد تخلى تمامًا وترك جانبًا كل أفكار الانتقام والمرارة. وأخبرهم أن الله هو الذي أرسله إلى مصر، وليست مؤامرتهم هي التي أرسلته. لقد كان لله قصدًا في كل ما جرى «لأَنَّهُ لِاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ ... فَالْآنَ لَيْسَ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمُونِي إِلَى هُنَا بَلِ اللهُ» (تك٤٥: ٥، ٨).

وإذ أدركوا وتحققوا تمامًا ما فعلوه، وبناءً على إقرارهم، فقد أصبح يُوسُف حرًا في أن يُظهِر المحبة لإخوته. ونرى في هذا جانبين من الغفران: فمن ناحية فيُوسُف قد سامحهم، وقد تحرر من المرارة ومن الاستياء. ومن ناحية أخرى، فبعد أن اعترفوا وبرهنوا أن اعترافهم حقيقي، فإن يُوسُف عاملهم كإخوة كما كان من قبل. وعندما مات يعقوب بعد ذلك بسبع عشرة سنة، فإن يُوسُف ذكَّرهم بقوله: «أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا» (تك٥٠: ٢٠).

تذكار

لقد أدت كل ظروف حياة يوسف إلى نمو أمانته وإيمانه واستناده على الله. وهو يقف صورة للرب يسوع المسيح، ومثالاً لكل مؤمن. وعند سن المائة والعشرة، وقد اقترب من الموت، فقد طلب مطلبُا أخيرًا واحدًا لا غيره. هو لم يفقد قط رؤية مقاصد الله. ولذلك استحلف إخوته أن يأخذوا عظامه معهم عندما يخرجوا من مصر. وعلى مدى ٤٣٠ سنة بعد ذلك، ظلت عظامه كتذكِرة صامتة أن الله لم يُنهِ عمله بعد، وأن أشياء عظيمة تنتظرهم. ليت حياة كل مؤمن منا تكون تذكَّرة مستمرة أن الأفضل من لدن الله لم يأتِ بعد.


جيب واريك