(1) الحياة الأبدية نوعية حياة الله الأبدي (تابع)
تحدثنا في المقال السابق عن الحياة الأبدية في أول معانيها؛ حياة الله الأبدي، وسنتابع في هذا المقال نفس الفكر لنرى هل هي لنا فقط أم أيضًا فينا؟ وإن كانت هي حياة الله، فهل هي اللاهوت؟ وإن كانت هي فينا فهل هي المولود من الله بداخلنا؟
سادسًا: الحياة الأبدية لنا وفينا
1- الحياة الأبدية لنا
- هناك سباعية جميلة في إنجيل يوحنا ترينا أن لنا حياة أبدية، وفي سداسيه منها نرى أن هذه الحياة تتسلمها يد الإيمان (3: 15، 16؛ 3: 36؛ 5: 24؛ 6: 40، 47؛ 10: 28). وهنا نجد أن الإيمان هو الشرط لنيل الحياة الأبدية: الإيمان بمرسل الابن، والإيمان بابن الله ذاته، والإيمان بابن الإنسان المقام (5: 24؛ 3: 14، 16).
- ومن هنا نرى أن الحياة الأبدية هي عطية الله للإيمان القلبي (والذي لا بد أن يكون مصحوبًا بالتوبة - وإلا لما كان قلبيًا). ولا علاقة لها إطلاقًا بأعمالنا، فأعمالنا أضعف من أن تضمن لنا حياة زمنية أرضية تُرضي الله، فكم بالحري الحياة الأبدية. وإن كان الإيمان هو الشرط لنيل الحياة الأبدية، ولكن الحياة الأبدية هي هبة مجانية من الله بالنعمة المطلقة «أما هبة الله فهي حياة أبدية بيسوع المسيح ربنا» (رو6: 23).
2- الحياة الأبدية فينا
(ا) تأكيدات غير مباشرة
- يؤكد الوحي بطريقة غير مباشرة أن الحياة الأبدية هي فينا بالقول: «أنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه» (1يو3: 15). ويؤكد الرسول يوحنا ذات الفكرة «إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم». (يو6: 53). وبمقارنة عدد54 من نفس الإصحاح نرى أن الحياة هنا هي الحياة الأبدية.
(ب) تأكيدات الرب
- بالإضافة إلى ما سبق نجد أن الرب قد ميَّز بين ملكيتنا للحياة الأبدية «من يؤمن بالابن فله حياة أبدية» (يو47:6) وبين إعطائها لنا «وأنا أعطيها حياة أبدية» (يو28:10). فإن كانت لنا في المسيح فقط وليست فينا، فما هي قيمه تعبير أعطيها؟ في هذه الحال كان يكفي أن يقول وأنا أضمن لها حياة أبدية فيّ.
- أضف إلى هذا أن الرب نفسه قد ميَّز بين إعطائه الحياة الأبدية لقديسيه كرعية واحدة (كجماعة) في قوله أعطيها حياة أبدية (يو28:10)، وبين إعطائه للحياة الأبدية لكل من يعطيه الآب فردًا فردًا «ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته» (يو2:17). فلو كانت الحياة الأبدية لنا في المسيح فقط، أوحتى في الكنيسة كجماعة فقط، لفقدت هذه الطلبة أيضًا مجدها وجمالها.
- ولا يمكن أن نتجاهل ما قاله الرب بفمه الكريم في إنجيل يوحنا ص17 «وأكون أنا فيهم» (يو26:17) باعتباره الحياة الأبدية.
ولكن لنحذر أن نظن أننا نمتلك الحياة الأبدية في ذواتنا بالاستقلال عن ابن الله، مصدرها العظيم، وضامنها الوحيد. فرغم أنها فينا ولكن ليس بالاستقلال عن السيد له المجد. والوحي يؤكد دائمًا أن «هذه الحياة هي في ابنه» (1يو11:5).
إنها فينا وليست منا
- ولنشرح هذا بمثال بسيط معروف: انظر إلى ورقة الشجرة الخضراء في جمالها ونضرتها، أنها مالكة للحياة. أن الحياة تدب فيها بداخلها. إن لها حياة في ذاتها ولكن هذه الحياة ليست من ذاتها. إنها ليست بالاستقلال عن الشجرة. لو قطعنا ذات الورقة من الشجرة لفقدت خضرتها ونضارتها وجمالها وأصبحت جرداء. فالورقة لا تحمل حياة مستقلة في ذاتها، بل حياة الشجرة في الورقة. وحياة الورقة من الشجرة. وذات الأمر نجده في أجسادنا. فاليد لها حياة في ذاتها، إنها تمتلك حياة ولكن هذه الحياة ليست من ذاتها، ليست بالاستقلال عن الجسد والرأس.
سابعًا: هل الحياة الأبدية هي الولادة الثانية ؟
- إن كانت الحياة الأبدية فينا ولنا فهل هي المولود من الله بداخلنا؟ الإجابة:لا.
- إن المولود من الله، هو من الله، أما الحياة الأبدية فهي ليست منه ولكنها هي ذات حياته.
- في لقاء الرب مع نيقوديموس، تحدث له المجد عن الولادة ثانية بالمقارنة مع الحياة الأبدية، فأوضح أن المسافة بين الأرضيات والسماويات هي ذات المسافة بين الولادة من فوق والحياة الأبدية، وللتوضيح نقول:
- إن الولادة الجديدة: هي الأهلية لملكوت الله. أما الحياة الأبدية فهي الأهلية لبيت الآب.
- الولادة من الروح: تعطي طبيعة روحية جديدة في الداخل. والحياة الأبدية تأخذنا أساسًا خارج العتيق لتمتعنا بالمسيح في المجد، وتستحضر المجد إلى قلوبنا، فمسيحيتنا مؤسسة على إنسان في المجد لأجلنا، وينبوع أبدي بداخلنا.
- الولادة الثانية: أعادت القديسين مرة ثانية للشركة مع الله بعد أن أضاعها أدم. ولكن الحياة الأبدية تأخذنا إلى أعماق شركة واعية في النور مع الآب والابن بقوة الروح القدس (مع أقانيم اللاهوت) حسب مقاصد الله الأزلية في المسيح.
- الولادة من فوق: أخذت القديسين إلى السماء، إذ سار أخنوخ مع الله، ولم يُوجد لأن الله أخذه. ولكن الحياة الأبدية فتحت السماء لمسكين على الأرض وهو يرجم (استفانوس)، ليرى ابن الله جالسًا عن يمين العظمه. لقد فتحت السماء لاستفانوس، ليس لتقبله فقط كأخنوخ، بل السماء مجتمعة تنظر إنسانًا مسكينًا مثلنا، الله ينظر الحياة الأبدية التي في البشر في المسيح. واستطاع استفانوس ليس أن يسير مع الله فحسب، بل أن يُمسك بالحياة الأبدية متشبهًا بسيده فختم حياته مصليًا بل جاثيًا على ركبتيه، طالبًا الغفران لقاتليه.
ثامنًا: إن كانت الحياة الأبدية هي حياة الله الأبدي فهل هي اللاهوت؟
(أ) ليست اللاهوت
- لقد ميَّز الرسول يوحنا تمامًا بين اللاهوت والحياة الأبدية حينما قال: «هذا هو الإله الحق (الإله الحقيقي) والحياة الأبدية» (1يو20:5). ومن هنا نرى أن الحياة الأبدية (نوعية حياة الله) مميزه عن اللاهوت.
- كذلك المسيح كإنسان أعطى حياة أبدية (يو5: 26)، ولكنه طلب من أبيه أن يأخذ أمجاد اللاهوت في الناسوت «مجدني عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم»(يو5:17)، ولو كانت الحياة الأبدية هي اللاهوت لما طلبه.
- أضف إلى ذلك أن اللاهوت له عدم الموت (1تي6: 16). ولكن الحياة الأبدية يمكن أن تجتاز الموت. وإلا لما مات المسيح ولما مات أيّ من قديسي الكنيسة.
(ب) اللاهوت والحياة الأبدية
- رغم أن الحياة الأبدية ليست هي اللاهوت (فاللاهوت هو اللامحدود – السلطان المطلق، القوة المطلقة، العلم المطلق، الوجود المطلق ..) ولكن من خلال الحياة الأبدية في المسيح نستطيع أن ندخل إلى العواطف الخاصة، والأفكار بل والإرادة الإلهية التى بين أقانيم اللاهوت «وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به» (يو17: 26) ونعيها ونتذوقها كما يشاء الله أن يعلن لنا. وبدون أن تكون لنا الحياة الأبدية فإننا لا نستطيع أن نفهم شيئًا من هذا، لا عواطفه ولا مقاصده وطرقه.
رأينا الجانب الأول من معاني الحياة الأبدية.
إنها نوعية حياة الله ذاته التي فينا ولنا.
وفي هذا الجانب لا يشارك مؤمني الكنيسة أحد، لا من القديسين قبلنا ولا بعدنا.
وإذ إن هذه الحياة ليست بالاستقلال عن الابن
فبدون عمق شركة وانكسار حقيقي يتناسب مع منسوب الحياة الأبدية في اتضاعها في المسيح، وبدون اختبار لإرادته دون إرادة ذاتية، لن يتدفق فيضان الحياة فينا. فالحياة الأبدية هي في المسيح وبدون التصاق أدبي حقيقي بالرأس الكريم فلن نتمتع إطلاقًا بجمال وروعة وهدوء وقداسة الحياة الأبدية.
أخوتي الأعزاء:
إن كان المجد قديمًا قد أسر قلب إبراهيم فقطع كل علاقاته بالأرض نهائيًا، وسار في خضوع عظيم لله (معظم حياته).
فماذا عسانا نحن نفعل، ولدينا الفرصة لا لنرى إله المجد مرة ومرات فقط، بل أن نختبر طعم المجد في قلوبنا واستقرار هذا المجد في إنساننا الباطن؟
أيها الاحباء.. أخبروني ماذا عسانا أن نفعل، ومن حقنا أن نختبر حياة المجد نازلة من عرش الله إلى قلوبنا وصاعدة من قلوبنا إلى أقداس الله أبينا في سجودنا؟
كثير علينا أن نحمل الصليب وراء المصلوب لنتذوق ذات مجده ونطعم ذواتنا على مشيئته؟
كثير علينا أن نتعلم مبدأ النعجة الصامته لنتقاسم معه سروره بمشيئته في حياتنا والتي هي أرضية المجد لنا؟
ليساعدنا إلهنا ليرخص الكل أمام قلوبنا ونقدر الأبديات حق قدرها ونسعى إليها حاملين الصليب.