قارئي العزيز، إني أحسب نفسي سعيدًا، إذ يُستخدمُ قلمي بمعونة الروح القدس وإرشاده، لأُقدِّم خواطر في سفر هوشع. أُقدمها لمتقي الرب، المفكرين في اسمه، الذين يبتهجون بكلامه كمن يجدون غنيمة وافرة، الذين لا يكتفون بالمياه فقط إلى الكعبين، ولا حتى إلى الركبتين، ولا يتوقفون وإن اندفقت المياه حتى إلى الحقوين. أولئك هم الغواصون في بحر النغم، الطامحون في العمائق، حيث تطمو المياه، مياه السباحة والأنهار التي لا تُعبَر. وأُقدِّمها أيضًا للأطفال المولودين الآن، الذين يشتهون اللبن العقلي العديم الغش لكي ينموا به. وإذا سألتني: وكيف يُناسب هذا الطعام كل عائلة الله، رغم اختلاف مستويات مداركهم الكتابية؟ أُجيبُك: بأن المعلم الأمين الذي عليه نعتمد، كتب عنه أليهو في سفر أيوب: «لأنه يجذب قِطارَ الماءِ، تسُحُّ مطرًا من ضبابها. الذي تَهطِلهُ السحب وتقطره على أُناس كثيرين» (أي36: 27، 28)
ولعلك يا قارئي العزيز، تستلفت الطبيعة نظرك ومنها تتعلم. فعندما يرسل القدير مطرًا على وجه الأرض، فقد ترى قِطارَ الماء، ثم هطول المطر، ثم القطرات مرة أخرى، وربما يحدث ذلك في تعاقبٍ وتتابعٍ سريع جدًا. وفي نفس هذا المثال، عندما يفتح الربُّ فاه ويُعلِّم فإنك تجد مَنْ يستمتعون بهطول المطر وآخرين ينتعشون بقطراته. وهكذا فإن أليهو الناطق بهذه الكلمات في الوحي يقول: “تَهطِلهُ السحب وتقطره”، فإننا نسأل مَنْ هو “ساهر على كلمته ليُجريها” أن يملأ قلوبنا بالثقة، أن في دراسة كلمة الله يجد كل مخلّص شبعه مع اختلاف سعتهِ.
كثير من المؤمنين يهملون دراسة أو حتى قراءة الأسفار النبوية، ومن ضمنها سفر هوشع، وذلك بسبب ما تحمله هذه الأسفار من آيات عسرة الفهم، ومن أفكار تحتاج من القارئ إلى جهادٍ كثيرٍ لاستيعابها، ولكن مهلاً يا صديقي، فإن كتاب الله ليس للكسلان، ولا لمَنْ يَضِنُّ بجُلِّ أوقاته وطاقاته عليه، بل هو مخزنٌ موفورٌ بالنفائس، يُثري كل مَنْ يقصده باحثًا عن كنوزه المخبوءة.
عزيزي القارئ، لنحذر من شر الكسل ومن انحسار تخومنا، وضيق المدارك الذي يترتب عليه. فبينما يُحذرنا الحكيم من الشراهة أمام الموائد الدنيوية قائلاً: «إذا جلست تأكل مع متسلطٍ، فتأمل ما هو أمامك تأملاً، وضَع سِكينًا لحنجرتك إن كنت شرِّهًا. لا تشتهِ أطايبه لأنها خبز أكاذيب» (أم23: 1-3). ولكن هو نفسه يلوم مَنْ يتباطأون ويتكاسلون في التغذي قائلاً: «الكسلان يُخفي يده في الصحفة ويشقّ عليه أن يردها إلى فمه» (أم26: 15).
وإذا اعترضتني يا أخي بأن السبب ليس هو الكسل ولكن صعوبة الكلمة وما تحمله من مبهمات، أُجيبك بما قاله الحكيم أيضًا: «مجد الله إخفاء الأمر ومجد الملك فحص الأمر» (أم25: 2).
فهناك صبغة من الكرامة والمهابة تجدها تحيط بأُناس الله الأفاضل، الذين ينفقون الأوقات الطويلة للفحص والتفتيش في كلمة الله، وإن كلَّت أياديهم في الحرب، تلصق يدهم بالسيف، فيصنع الرب بهم خلاصًا عظيمًا آنذاك.
والآن هيا معي قارئي العزيز، لنقترب بمعونة الرب من هذا السفر النفيس، الذي في أول حديثنا عنه، أُقدم لك فقط مجرد نظرات استهلالية.
ما هو التوقيت وفي أي ظروف كُتِبَ سفر هوشع؟
ولكي نُجيب عن هذا السؤال، أود أن أرجع بك أيها القارئ إلى الوراء قليلاً، فمعظمنا يعرف أن شعب إسرائيل كان يتكوَّن من اثنى عشر سبطًا، ونعرف أيضًا أن هذه الأسباط نُطق عليها بحكم الانقسام والتمزيق، في أيام سليمان الملك، يوم أن «مال قلبه عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين» (1مل11: 9). ولقد أخبره الرب بهذا القضاء، على أنه أُرجِئ تنفيذه لأيام رحبعام ابنه. ولقد تمزَّقت المملكة بالفعل في أيامه، عندما ارتزّت حجارة الإجابة الحمقاء في جبهتها فانكسرت. أقصد الإجابة التي أجابها رحبعام على مَنْ التمسوا منه قائلين: «إن أباك قسَّى نيرنا، وأما أنت فخفِّف الآن من عبودية أبيك القاسية ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا فنخدمك» (1مل12: 4).
ومن هنا تمزّقت المملكة وانقسمت إلى قسمين. فمَلَك شخص شرير، على الأسباط العشرة اسمه يربعام بن ناباط، الذي ما أن يذكره الوحي، إلا ويتبعه بتعريف مؤسف للغاية “الذي جعل إسرائيل يخطئ”. فتكوَّنت مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة.
وأما رحبعام فملك على سبطي يهوذا وبنيامين، فتكوَّنت مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم.
والقارئ لتاريخ هذا الشعب، يعرف أن كل ملوك مملكة إسرائيل كانوا أشرارًا للغاية، وربما قبل أن أصل بك يا قارئي إلى مثالٍ واضح، تكون قد سبقتني فوصلت أنت إليه. أقصد: أخآب بن عمري الذي يُسجِّل عنه الوحي: «وعمل أخآب بن عمري الشر في عيني الرب، حتى اتخذ إيزابل ابنة أثبعل ملك الصيدونيين امرأة، وسار وعبد البعل وسجد له، وأقام مذبحًا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة، وعمل أخاب سواري وزاد أخاب في العمل لإغاظة الرب إله إسرائيل أكثر من جميع ملوك إسرائيل الذين كانوا قبله» (1مل16: 30-33). وأما ملوك مملكة يهوذا، فكان البعض منهم أخيارًا مثل يهوشافاط، يوشيا... إلخ. والبعض الآخر أشرارًا مثل يهورام بن يهوشافاط، أخزيا ابنه. وإذا رجعت معي يا أخي إلى الإصحاح الأول من نبوة إشعياء، تستطيع أن تفهم مدى فساد هذا الشعب؛ فلقد فسد هذا الشعب على كل الصُعُد، سواء كان أدبيًا أو دينيًا أو سياسيًا، فهوذا إشعياء يذكر:
- على الصعيد الأدبي: «ويلٌ للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين، تركوا الرب استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى وراءٍ» (إش1: 4).
- على الصعيد الديني: «لماذا لي كثرة ذبائحكم، يقول الرب؟ اتخمت من محرقات كباشٍ وشحم مسمَّنات، وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أُسرُّ. حينما تأتون لتظهروا أمامي مَنْ طلب هذا من أيديكم؟ أن تدوسوا دوري؟ لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة. البخور هو مكرهة لي. رأس الشهر والسبت ونداء المحفل. لستُ أُطيق الإثم والاعتكاف» (إش1: 11-13).
- على الصعيد السياسي: «تعلموا فعل الخير اطلبوا الحق. انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة» (إش1: 17).
يا لهول هذه الصورة المخزية التي كان عليها هذا الشعب، الذي قال له موسى في مرة «قد كنتم تعصون الرب منذ يوم عرفتكم» (تث9: 24). بل ويا لشدة الحسرة! فهذا الشعب الذي أفرط في عصيانه، ليس منذ يوم أن عرفهم موسى فقط، بل وظل هكذا حتى تورط في أكبر جريمة شنعاء تحت الشمس. فإن كان هذا تقرير موسى عن الشعب في يومه، فماذا عما فهم دانيآل في رؤياه عنهم؟ فهوذا الرجل جبرائيل يُفهمهُ ويتكلم معه قائلاً: «سبعون أسبوعًا قُضِيَت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة، لتكميل المعصية وتتميم الخطايا... إلخ» (دا9: 24). يا لها من لهجة شديدة يستخدمها الروح القدس لوصف ليس معصية هذا الشعب فحسب، بل لتكميل المعصية أيضًا، أي وصوله للذروة وللرقم القياسي في سباق الركض إلى فيض المعصية.. “تكميل المعصية”. أ ليس هذا ما قاله الرب للكتبة والفريسيين: «فاملأوا أنتم مكيال آبائكم. أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم؟» (مت23: 32، 33). أَوَليس هذا ما قاله استفانوس في حديثه لأولئك الوحوش الردية: «يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائمًا تُقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم. أيّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار، الذي أنتم الآن صرتم مسلّميه وقاتليه. الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه» (أع7: 51- 53). وما إن سمعوا هذه الكلمات الناخسة للقلوب، والتي من شأنها أن تجعل التوبة ملاذًا وملجأً، بل ومن شأنها أيضًا أن تجعلهم “يرجعون إلى الرب بكل قلوبهم وبالصوم والبكاء والنوح ويمزقون قلوبهم لا ثيابهم”، لكنهم استشاطوا عليه غضبًا، فصبّوا عليه ما لديهم من سموم ناقعة، حانقين عليه بقلوبهم، وصارِّين عليه بأسنانهم راجمين إياه، مظهرين ضراوة وشراسة شعب سبق فوصل “لتكميل المعصية”.
ولكن أود يا عزيزي أن أستطرد في شرح هذه الفكرة، وإن طال حديثنا عنها، وذلك لأن عمق الشر الذي وصل إليه هذا الشعب، كان هو السبب في توقيع القضاء عليه، وهذا هو موضوع أغلب الأسفار النبوية، وبالتبعية سفر هوشع، ولكنني سأرجئه إلى مقالتنا القادمة، إن شاء الله.
وأمام شر هذا الشعب، لم يكن ممكنًا لساكن الأبد، القدوس اسمه، أن يقف مكتوف الأيدي، بل إن جاز لي أن أقول إن هذا الشعب، صلب الرقبة، اضطر الرب أن يقوم للقضاء. ولِمَ أقول اضطر الرب؟ أقولها بجرأة مقدسة لأن الكتاب المقدس نفسه، يُرينا أن القضاء هو عمل الرب الغريب. فها إشعياء النبي يُسجِّل هذه العبارات المؤثرة جدًا في نبوته: «لأنه كما في جبل فراصيم يقوم الرب، وكما في الوطاء عند جبعون يسخط، ليفعل فعله، فعله الغريب، وليعمل عمله، عمله الغريب» (إش28: 21)، ثم يستطرد محذرًا: «فالآن لا تكونوا متهكمين لئلا تُشدَّد رُبُطكم، لأني سمعت فناءً قُضيَ به من قِبَل السيد رب الجنود على كل الأرض» (إش28: 22).
وما تنبأ به إشعياء حدث بالفعل، فأرسل الرب على الشعب سبيين:
- السبي الأول: هو سبي الأسباط العشرة أو مملكة إسرائيل الشمالية، فبينما كان هوشع بن أيلة آخر ملوك إسرائيل يملك على الأسباط العشرة، صعد عليه شلمنأسر ملك أشور، فصار له هوشع عبدًا، ودفع له جزية، غير أن شلمنأسر وجد فيه خيانة، إذ أرسل رسلاً إلى سوا ملك مصر. وكفّ عن أن يؤدى له الجزية حسب كل سنة، فقبض عليه ملك أشور وأوثقه في السجن، وصعد ملك أشور على كل الأرض، وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين، وفي السنة التاسعة لهوشع بن أيلة أخذ ملك أشور السامرة، وسبى إسرائيل سنة 722 ق.م (2مل17: 1-6).
- السبي الثاني: هو سبي يهوذا، وقد تم هذا السبي على يد نبوخذناصر في أربع مراحل في عام 605 ق.م، 597 ق.م، 587 ق.م، ثم في عام 582 ق.م؛ فأخذ نبوخذناصر عظماء البلاد، ومنهم دانيآل ورفاقه، والصُّناع والأقيان (الحدادين) كما أخذ آنية الهيكل، وأخربه بعد ذلك (2أخ36).
والآن يا صديقي، إذ اظلمَّت الصورة بهذا المقدار، وقعقعت السيوف، واشتدت المعمعة، قضاءً وتأديبًا لشعب قد اتخذ العصيان منهجًا، وإغاظة الرب سبيلاً ودربًا منتهجًا. أذكر لك آية تلخص ما حدث في عبارة، وإن كان الذي حدث طويلاً في مداه، عميقًا في أساه، فها إرميا النبي يقول: «إسرائيل غنم متبددة، قد طردته السباع، أولاً أكله ملك أشور ثم هذا الأخير نبوخذ راصر ملك بابل هرس عظامه» (إر50: 17).
فأين نبوة هوشع إذًا من هذه القصة؟
إذا عرفنا أن هوشع تنبأ في أيام الملك يربعام الثاني ملك إسرائيل، وملوك يهوذا من عزيا إلى حزقيا، وكان هذا بالتحديد بين عام 790-722 ق.م، وعرفنا مما سبق أن السبي الأشوري وقع سنة 722 ق.م، ومن دراستنا للسفر نفسه، نعرف أن هوشع بن أيلة هو نبي الأسباط العشرة، فموضوع نبوته: القضاء المريع الذي كان وشيكًا أن يقع عليهم. وفي نبوته يصف فساد هذا الشعب في أبشع صورِه، والقضاء في أجلى بيانه، والبركة المستقبلية بعد رد هذا الشعب إلى صوابه.