مقام المسيحي: في المسيح
في الأصحاح الثامن، وفي الأعداد الثلاثة الأولى، نجد ملخصًا لِما يذكره الرسول في الأصحاحات الثلاثة السابقة. إن الأصحاح الثامن يكشف المقام الجديد الذي للمسيحي «إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع». ولا يوجد شيء أكثر كمالاً من هذا. إنه لا يقول “لا شيء من الدينونة على الذين يؤمنون بالمسيح يسوع”. صحيح أن الشخص ينبغي أن يؤمن بالمسيح يسوع، لكن ليست تلك هي الطريقة التي يضعها الرسول هنا. إن بيت القصيد هو أن المؤمن هو في المسيح. وإذا كنتُ في المسيح يسوع، فيجب أن أكون حيث يوجد المسيح يسوع. وأين هو؟ على الجانب الآخر من الموت ـ في الحياة، في البر، في القيامة، في القبول. هل أمسكتَ بالحق المُدهش المتعلق بكونك «في المسيح يسوع»؟ «إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع». لماذا؟ لأنه لم يُترَك شيء لكي يُدان. إني أعرف البركة والفرح الناتجين عن هذا التقرير. إنه لم يُترَك شيء لكي يُدان ويُحكم عليه. لا شيء فيَّ يُدان؟ نعم لا شيء، إذا كنتُ في المسيح يسوع.
إن الحق الخاص بالإنجيل هو هذا: أنه عندما كان الرب يسوع على الصليب، لم يكن فقط يحمل خطايانا، لكن هناك جعله الله خطية، ووقف متحدًا مع كل ما كان عليه الإنسان الأول، واحتمل دينونة الله على الإنسان الأول. وبذلك نرى نهاية الإنسان الأول تحت دينونة الله. لقد انتهى تاريخ الإنسان الأول أمام الله وبالنسبة للإيمان، في موت الإنسان الثاني. لقد دين كل شيء في الصليب، ولم يُترك شيء ليُدان كما يقول بولس هنا «لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه، في ما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد».
إن الله لم يَستهن بالخطية. لقد حمل المسيح خطايانا، ومحاها عنا، لكن أكثر من ذلك، قد جُعل خطية، ونزل إلى أعماق الدينونة الناتجة عن الخطية، ثم قام من تلك الأعماق. لقد أصبح حياتي. إنني فيه، وبالتالي في استحالة مطلقة لكي تقع الدينونة علي، كما هي مستحيلة أن تقع عليه.
إن الخطية في الجسد لم تُغفر، لكن الله دانها. إن الله لا يغفر الخطية إطلاقًا. إنه يغفر للخطاة، ويسامحهم على خطاياهم، ماحيًا إياها بدم المسيح. ولكن مبدأ الخطية الشرير ـ “الخطية في الجسد” ـ المبدأ غير المُحتمل، والعديم الشفاء، والمقاوم لله، الله ينهيه فقط بالدينونة، سواء في بحيرة النار للخاطئ غير التائب، أو في صليب المخلِّص للشخص الذي بالنعمة يؤمن به.
إذا كنت مؤمنًا، فأنت في المسيح أمام الله، ولذلك لا توجد ولا يمكن أن تكون هناك دينونة عليك، لأن مكانك هو في الشخص الذي خرج من الدينونة، وترك خلفه كل ما يتعلق بخطاياك. لذلك يأتي التحدي في ختام الأصحاح الثامن «مَن هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله، الذي أيضًا يشفع فينا (أو لأجلنا)» (عدد34). وهل هو مزمع أن يدين أولئك الذين مات لأجلهم، والذين لأجلهم تألم، والذين لأجلهم هو نفسه قد دين؟ مستحيل!
تبارك اسمه الفريد. نستطيع إذًا أن نقول بكل يقين «إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع». أما العبارة المُكملة للعدد الأول فمن المهم أن نلاحظ أنها مُقحمة وغير موجودة في النص الأصلي حيث أن تعبير «السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح» يأتي في مكانه الصحيح في عدد4. إن كل النسخ القديمة مسجل فيها هذه العبارة، ليس في العدد الأول، لكن في العدد الرابع حيث مكانها الصحيح.
لكن الآن نأتي إلى سبب آخر، لماذا لا يوجد «شيء من الدينونة»؟ «لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت. لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه في ما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد». إن الناموس لا يستطيع أبدًا أن ينتج برًا. إنه يستطيع أن يُملي مطاليب الله على الخاطئ، وأن يدينه إذا لم يفعل ما يطلبه، لكنه لا يقدر أبدًا أن ينتج برًا. إن الناموس لم يعطِ أبدًا حياةً أو قوة أو غرضًا. لكن الإنجيل يعطي الثلاثة أشياء كلها. إنه يعطيك الحياة في ابن الله، ويعطيك غرضًا في شخص المسيح، وقوة بالروح القدس الذي يأتي ويسكن في المؤمن لكي يضعه في الحالة المسيحية الحقيقية. لذلك نقرأ «ما كان الناموس عاجزًا عنه في ما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد» (عدد3). إن تاريخ الإنسان الأول، والخطية في الجسد التي تصف حالته أمام الله، قد انتهيا بالصليب. لأي غرض؟ «لكي يتم حكم (المطاليب البارة) الناموس فينا، نحن السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح». هنا نجد خليقة جديدة. فأنت لك حياة جديدة، طبيعة جديدة، وقوة جديدة. لقد صرت تعيش بطبيعة جديدة من الله، وهي دائمًا تُسَر بما يوافق الله. إن الناموس لا يستطيع أبدًا أن يُنتج ما ينتجه الإنجيل تلقائيًا وطبيعيًا، حيث يقول عنا: «السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح». بعد ذلك نجد أن كل عدد في الأصحاح يُحضر أمامنا الحق الخاص بروح الله، سواء كالحياة أو القوة.
إن الأعداد الأحد عشر الأولى من الأصحاح تقدم روح الله في الحياة، أو كقوة الحياة التي لنا في المسيح. إنه روح الله، منظورًا إليه كالحياة (انظر عدد 9) التي يمتكلها المؤمن. أما من عدد 12 فنجد الروح القدس شخصيًا يسكن في المؤمن. في الأعداد الأحد عشر الأولى، نجد الصفات المُميزة، أو الأوصاف الأدبية للحياة في الروح، أو كما هو مُسجل هنا عن أولئك «السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح. فإن الذين هم حسب الجسد، فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح فبما للروح، لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام». هذه هي الحالة المسيحية الحقيقية: حياة وسلام. كثيرون من أولاد الله الأعزاء هم في شك، وعدم يقين، واضطراب، بسبب أنهم لا يعرفون هذا الحق المبارك للخلاص، ومن كونهم أمام الله هم «في المسيح». لكن الله يدرب هذه النفوس، لكي يُخرجها من العبودية إلى الحرية، ولكي يتحققوا من مقامهم أمامه في المسيح.
المؤمن ليس «في الجسد»، بل «في الروح»
كم هو مبارك أن نتعلم أن «اهتمام الروح هو حياة وسلام. لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله، لأنه أيضًا لا يستطيع. فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يُرضوا الله». ماذا يعني بقوله «الذين هم في الجسد»؟ إن كوني «في الجسد» هو حالتي ومركزي أمام الله كما أنا في آدم ـ كائن مسؤول يسير إلى الموت والدينونة. هذا ما يعنيه كوني «في الجسد». أما كون الجسد فينا، فهذا شيء مختلف تمامًا. فنحن لا يزال الجسد فينا، وهو عُرضة لأن يثور وينطلق إلا إذا كنا سالكين بالروح. «وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكنًا فيكم». إنه حق مُطلق أن المؤمن «ليس في الجسد، بل في الروح» إذا كان روح الله يسكن فيه. كما أنه حقيقي بالمثل أن الجسد، مبدأ الشر، هو فيه وعُرضة لأن يتفشى ويثور، إلا إذا سلك بالحكم على ذاته أمام الله.
تفكروا في هذه الكلمات: «وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح الله ساكنًا فيكم». إنني لا أشك في أن هناك كثيرين من المسيحيين الذين تعلموا بوضوح أن روح الله يسكن فيهم، رغم ذلك، إذا سألت واحدًا منهم: هل أنت في الروح؟ وهل تلك هي حالتك أمام الله؟ فإنه سيجد صعوبة في أن يقول نعم، لأنه في ذاته يشعر بأن له خطية وزلات، وهذه غالبًا ستقوده إلى القول: إنني لست في الروح. لاحظوا أن الذي «في الروح» هو عكس الذي «في الجسد». أما عندما أتكلم عن كوني «في المسيح» فأنا أفكر في المكان الذي يوجد فيه المسيح كالإنسان الذي هو حي من الأموات. كما أني إذا كنت «في الروح» فأنا أفكر تلقائيًا في حالتي هنا في الأرض، الحالة المُلازمة لذلك المكان.
«في الروح» هو ما يعبر عن الحالة الحقيقية للمسيحي الآن. فأنا أمام الله مُميَّز بعلامة خاصة هي سُكنى الروح القدس، وذلك على أساس عمل الفداء، وهذا مُكمِّل للتعبير السابق «في المسيح». فإذا نظرت نحو السماء فأنا «في المسيح»، وإذا نظرت نحو الأرض فأنا «في الروح» إذا كان روح الله ساكنًا فيَّ.
لقد ذكرت في حديثي السابق، أن الحق العظيم الذي يتضمنه سفر أعمال الرسل، هو أن الروح القدس حلَّ على المؤمن. لقد كان من امتياز جميع أولئك الذين آمنوا ونالوا غفران خطاياهم بواسطة الرب يسوع المسيح، أن يقبلوا الروح القدس. كما أنهم كان عليهم أن يعرفوا إذا كانوا قد قبلوا الروح القدس. وهنا يضيف الرسول تقريرًا مُشابهًا إلى حد ما. «إن كان أحد ليس له روح المسيح، فذلك ليس له» (عدد9). هذا البيان أو التقرير يجعل بعض الناس يخافون. لماذا يخافون؟ إذا لم يكن لك روح المسيح، فأنت لست من خاصته. إنها الصفة المُميِّزة للشخص الذي له المسيح. إذا كنت أنا في المسيح كمركزي أمام الله، فإن الروح القدس هو فيَّ كالقوة لهذا المركز أو المكان، كما أني أنا «في الروح»، وهو في الحقيقة “روح المسيح” الذي بقوته عاش المسيح، وسلك، وتكلم، وقدَّم نفسه، والذي به أيضًا أُقيم من بين الأموات. لقد كانت حياته كلها مُعبِّرة عن الروح. إذا كان أي واحد ليس له روح المسيح ـ ليست له قوة الحياة الروحية التي أُظهرت في المسيح، والتي كانت بواسطة الروح القدس، فهو ليس للمسيح، وليس له الخاصية المُميِّزة للمسيح.
لكن «إن كان المسيح فيكم، فالجسد ميت بسبب الخطية، وأما الروح فحياة بسبب البر». ويا له من أمر مُدهش وعجيب! أن المسيحي الآن هو أمام الله «في المسيح» وكمَن هو «في الروح» له الروح القدس كقوة الحياة. وما الذي يميِّزه الآن؟ إنه في الروح والروح فيه، ساكنًا في تلك الطبيعة التي بها يعيش الآن أمام الله (يتبع)