قايين وهابيل أخوان، لكنهما يمثلان قصة حياتين تختلف كلاً منهما عن الأخرى تمام الاختلاف. فقايين يمثل مَسار الإنسان الطبيعي على الأرض وهو في خطيته. وهابيل يمثل مَسار المتألم على الأرض من أجل بره. هابيل وذبيحته يرمزان للمسيح في آلامه وليس في مجده. في هابيل نرى المسيح المتألم من يد الإنسان لأجل بره ـ آلام حتى الموت، بينما في ذبيحته نرى المسيح المتألم من يد الله لأجل خطايانا. في موت هابيل نرى شر وحسد الإنسان من ناحية، ومشورة الله المحتومة من الناحية الأخرى. حين كان الإنسان يضع يده على المسيح ويقتله، كان هو مُسلَّمًا بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق (أع2: 32).
موت هابيل لنا فيه من الدروس ما هو نافع ومفيد:
(1) حياة الإنسان وسيرته لا تنتهي من الأرض بانتهاء حياته، فهو «وإن مات يتكلم بعد» (عب11: 4).
(2) إنه لمن الضلال، بل وأشر الضلال في الاختبارات اليومية، أن نحكم على الفضيلة والصلاح والتقوى والإيمان بمقياس النجاح الظاهري في الحياة. فهل قُتل هابيل لافتقاره للإيمان، أو لعدم الطاعة؟!
(3) هناك حياة آتية فيها تُصحح الأخطاء وتُعدّل الأحكام، فليست الفضيلة دائمًا تُكافئ، ولا الرذيلة دائمًا تُعاقب في هذه الحياة، ولهذا فإن حكم الإنسان غالبًا ما يفتقر إلى الصواب.
(4) إذا أردنا أن نبيِّن سبب آلام هابيل وقتله، علينا أن نتحول من الرمز إلى المرموز إليه، ومن الظل إلى الحقيقة، ومن الإنسان إلى المسيح، حينئذٍ تنكشف الحقيقة ويظهر السبب بكل بيان. حياة ربنا يسوع المسيح تحيِّر الكثيرين، فهي أروع وأمجد حياة ظهرت هنا على الأرض، وليس في كل التاريخ كمال إنساني ظهر سوى في شخصه. حياة اتكلت تمامًا على الله، وعملت كل ما هو مُقرر لها من قِبَل السماء. الحياة التي أحبت الخطاة، وشَفت السُقماء، فرَّحت التعساء وشجعت الضعفاء، حياة على طول الخط أرضت قلب الله، لكن ماذا كانت النهاية حسب الظاهر؟
حفنة من الصيادين العاميين تبعوه، وعند اقتراب الخطر تركوه! واحدٌ منهم باعه وأسلمه، وآخر أنكره. على أن مشهد النهاية كان رهيبًا: ثياب تُنزع، إكليل من شوك على الرأس يوضع، وقصبة بدل الصولجان في اليد تُمسك، وصليب من خشب عليه يُرفع، وآخر الكل قبر مُستعار فيه يدفن! وأمام هذه النهاية لا نجد سوى كلمة كيف؟ كيف لهذه الحياة أن تنتهي بهذه الصورة؟!
مهلاً مهلاً يا أخي الحبيب، فالزمان ما هو إلا جزء صغير جدًا من الأبدية، وما اختل شأنه في هذه الحياة، لا بد وأن يُصحح وضعه عما قريب هناك!
وموت المسيح من وجهة النظر هذه فيه عزاء كثير لكثيرين من المظلومين والمسحوقين، حسب الظاهر يحصدون الريح ونصيبهم التعيير والتجريح، هؤلاء لهم في آلام المسيح عزاء لأنهم ليسوا منه بأسوأ حال.
من خلال هذه المآسي الفاحصة والمظالم القاسية الساحقة، جاز المسيح أروع نصر، أكثر كثيرًا مما لو جرّد اثني عشر جيشًا مُظفرًا لينتزع النصر في أشرس المعارك. فهو الأسد الغالب الذي أُعطى أن يفتح سفر مقاصد الله (رؤيا 5). مع أن يوحنا التفت ليرى هذا الأسد الغالب، إذا به يرى خروفًا قائمًا كأنه مذبوح.
أخي الحبيب .. هذا هو طريق ومسار يسوع المسيح، فطريق النُصرة والغلبة هو طريق الألم والدم.