أولاً: أحداث القبض على يسوع
من دراستنا السابقة عرفنا أن إنجيل يوحنا يقدم لنا شخص المسيح في مجده الأزلي باعتباره ابن الله؛ وفي موته فوق الصليب يقدمه لنا كالمحرقة.
وإذ نتحدث عن موت المسيح، فإننا نشير إلى أن سفر اللاويين يحدثنا في مطلعه عن أربع ذبائح دموية كانت تقدم لله هي: المحرقة، ثم ذبيحة السلامة، ثم ذبيحة الخطية، وأخيرًا ذبيحة الإثم. الترتيب هنا هو ترتيب أدبي إلهي، فالمحرقة هي أهم الذبائح، وكانت تقدم بتمامها لله؛ تليها ذبيحة السلامة، وهي نظير المحرقة أيضًا من ذبائح رائحة السرور، ولو أنها بالإضافة إلى ذلك تتحدث عن الشركة، فلم تكن كلها لله، بل كان للإنسان فيها نصيب، إذ كان يأكل منها الكاهن، كما يأكل منها مقدم الذبيحة وأصدقاؤه أيضًا، وعليه فإنها لم تكن تصعد بتمامها إلى الله. وأما الذبيحتان الأخيرتان فلم تكونا من ذبائح رائحة السرور، لأنها تقدم للتكفير عن الخطية أو الإثم. والترتيب هنا نجد فيه وجهة نظر الله لجوانب موت المسيح، حيث إن سفر اللاويين هو سفر السجود في العهد القديم. وأما البشائر الأربع، فإذ إنها تعنى بتقديم الخبر السار للخطاة، لذا فإنها سلكت الطريق العكسي، فبدأت من ذبيحة الإثم في بشارة متى، إلى ذبيحة الخطية في بشارة مرقس، إلى ذبيحة السلامة في بشارة لوقا، منتهيًا بالمحرقة في إنجيل يوحنا. في المحرقة نرى مقاصد الله وفي ذبيحة السلامة نرى قلب الله، وفي ذبيحة الخطية نرى طبيعة الله، وأخيرًا في ذبيحة الإثم نرى حكومة الله.
والجدول التالي يساعدنا على تذكر ما قلناه سابقا:
الإنجيل |
جانب موت المسيح |
الجانب الإلهي في الموضوع |
إنجيل متى |
ذبيحة الإثم |
حكومة الله |
إنجيل مرقس |
ذبيحة الخطية |
طبيعة الله |
إنجيل لوقا |
ذبيحة السلامة |
قلب الله |
إنجيل يوحنا |
المحرقة |
مقاصد الله |
وبتتبع قصة الصليب في البشائر الأربع في ضوء هذه الفروق، سنجد أن إنجيل متى الذي يكلمنا عن المسيح ملك اليهود، ويحدثنا أيضًا عن المسيح كذبيحة الإثم، يبرز رفض أمته له، وينفرد بذكر صرختهم البائسة: «دمه علينا وعلى أولادنا» (متى 27: 25).
وإنجيل مرقس الذي يحدثنا عن المسيح كالعبد المتألم، وكذبيجة الخطية، يركِّز أكثر من غيره على آلام المسيح.
بينما البشير لوقا الذي يحدثنا عن المسيح كالإنسان الممتلئ نعمة، والذي يحدثنا عن موته فوق الصليب كذبيحة السلامة، يظهر لنا لمحات النعمة العجيبة في مشهد القبض عليه، وفي مشهد الصليب.
وأخيرًا فإن إنجيل يوحنا الذي يحدثنا عن الله الذي ظهر في الجسد، وعن موته فوق الصليب كالمحرقة، يُبرز مجد المسيح وسموه، حتى وسط مشاهد الهوان.
ودعنا الآن نتتبع أحداث الصليب كما وردت في إنجيل يوحنا
أحداث القبض على يسوع بحسب إنجيل يوحنا:
- صلاة المسيح في بستان جثسيماني ترد في كل الأناجيل عدا إنجيل يوحنا فقط، رغم أن يوحنا هو الوحيد من بين كتبة البشائر الذي كان شاهد عيان لما تم في البستان. وأما سر عدم سردها في إنجيل يوحنا فهي أنها لا تتناسب مع طابع الإنجيل الذي يقدم المسيح كالمحرقة، التقدمة الاختيارية. فلا نقرأ في إنجيل يوحنا صلاة المسيح: «يا أبتاه: إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس»
- ينفرد البشير يوحنا (الذي يتكلم عن المسيح باعتباره ابن الله) بذكر حادثة لم ترد إلا فيه، وتؤكد أنه ليس مجرد إنسان، فيقول يوحنا: «فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم (أي للجند والخدام) من تطلبون؟ أجابوه يسوع الناصري». والشخص العالم بكل ما يأتي عليه هو الله الذي ظهر فى الجسد.
- ينفرد يوحنا أيضًا في أحداث القبض على المسيح بذكر ما حدث للذين أتوا للقبض عليه في البستان، إذ لما سألهم الرب من تطلبون، وأجابوه يسوع الناصري، يستطرد البشير قائلاً: «فلما قال لهم إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض» (18: 4 – 6). وهذا معناه أنه ليس فقط كلي العلم بل أيضًا كلي القدرة!
- ونحن لا نعتقد أن كلمة ”أنا هو“ تعني معناها البسيط الظاهر التي يمكن أن يقولها أي واحد منا في ظروف كهذه، وإلا فما معنى أن هذه الكلمة جعلت هذا الجمع الحاشد الذي أتى للقبض عليه يرجعون إلى الوراء ويسقطون على الأرض؟! بل إننا نفهمها في ضوء ما وردت في باقي الإنجيل، وهي بالمناسبة وردت 21 مرة. فالمسيح مثلاً قال في يوحنا 8: 24 «إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم». هذه الكلمة لا يمكن أن يقولها مجرد إنسان ولا حتى مجرد نبي. بل إن هذه الكلمة، في الأصل اليوناني، هي بعينها العبارة التي قالها المسيح لليهود في آخر الأصحاح عينه: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن، فتناول اليهود حجارة ليرجموه». فعبارة ”أنا كائن“، ومثلها ”أنا هو“ التي ذكرت مرتين في ذلك الأصحاح (8: 24، 28)، هي الكلمة اليونانية ”إجو آيمي“. وتعني أنا يهوه، أو أنا الرب الأزلي.
- لقد خرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، كما أنه طرح إلى الأرض الجمع الآتي للقبض عليه. وهذا يفيد (بالإضافة إلى مجد لاهوت المسيح) أنه لم يُجبَر على الصليب، ولو أراد أن يستعفي لفعل، لكنه ذهب إليه باختياره (بما يتناسب مع كونه المحرقة).
- بعد هذه الحادثة، كرر المسيح عليهم سؤاله، وهم كرروا عليه أنهم يطلبون يسوع، فقال لهم: «قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون». وهو هنا يُرى باعتباره الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف، والذي في رعايته بالغنم لا يسمح بضياع أحد خرافه. لذلك فكم هو عجيب أن المسيح يُعطي أمرًا للآتين للقبض عليه، بأن يمضي تلاميذه طلقاء. ولم يكن عليهم سوى الطاعة صاغرين. فلم يُقبض على التلاميذ الذين كانوا في رفقته، ومضى هو وحده إلى الصليب. ويعلق البشير على ذلك قائلاً: «ليتم القول الذي قاله إن الذين أعطيتني لم أهلك منهم أحد». لقد قال، ولم يكن ممكنًا سوى أن يتم ما نطقت شفتاه به. وهو كان قد قال هذا الكلام قبل ذلك بساعات قليلة معدودة، في صلاته للآب في يوحنا 17. ولكن ما أن خرجت الكلمة من فمه، كان لا بد لها أن تتم (قارن مع إشعياء 45: 23).
- ولما حاول بطرس الدفاع عنه، فإنه لم يشر - كما فعل في إنجيل متى - إلى إرسال الآب اثنى عشر جيشا من الملائكة للدفاع عنه، ولا إلى حتمية إتمام الكتب؛ بل إننا نستمع من فم الرب يسوع إلى عبارة أخرى قالها، وقد انفرد أيضًا البشير يوحنا بتسجيلها، قالها المسيح في تسليم فريد وكامل، باعتباره المحرقة: «الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟».
***
بعد ذلك أُخذ المسيح إلى المحاكمة. محاكمة أمام حنان، تلتها محاكمته أمام بيلاطس. وفي المحاكمة أمام بيلاطس لا تجد في البشائر سموًا للمسيح أعظم من السمو الذي يوضحه البشير يوحنا. ولكن قبل أن نتحدث عن هذا الجانب فإننا نشير إلى تعليق قاله البشير بصدد عرض قضية المسيح على بيلاطس، فيقول البشير:
«فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟» أَجَابُوا: «لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَداً». لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ».
كان يمكن لليهود أن يرجموا يسوع كما حاولوا أن يفعلوا قبل ذلك مرارًا، وكما فعلوا بعد ذلك مع استفانوس، الشهيد الأول في المسيحية. لكن هذا لم يحدث. وهناك العديد من الأسباب لذلك، لكن يوحنا يركز على أن سبب مباشر وجوهري، وهو أن المسيح قال ذلك.
فهو أولاً قال إنه سوف يُسَلَّم إلى أيدي الأمم، ولن يكون اليهود بمفردهم مسؤولين عن قتله.
وثانيًا أنه قال إنه سيموت مصلوبًا. وموت الصلب لم يكن في سلطة اليهود أن بمارسوه مع أحد، وكان يتحتم إصدار الأمر بصلبه من الوالي الروماني.
(يُتبَع)