أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد أكتوبر السنة 2006
شاول الطرسوسي
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

أعمال 9: 1-20

 إن تغيِّير بولس يُعتبر عيِّنة للتغيِّير المسيحي الحقيقي، فهو لم يخلص عن طريق معرفته بمسيح مصلوب فقط, بل أيضًا بمسيح ممجَّد، مثلما يخلص أي خاطئ اليوم. وكل التفاصيل المرتبطة بهذا التغيِّير العظيم مليئة بالدلالات الروحيَّة النموذجية. وتتلألأ هنا النعمة العجيبة في أشدّ لمعان مجدها ، كما صرَّح بولس نفسه بعد ذلك عندما قال: «أشكر المسيح يسوع ربنا الذي قوَّاني، أنه حسبني أمينًا إذ جعلني للخدمة. أنا الذي كنت قبلاً مجدِّفًا ومضطهدًا ومفتريًّا، ولكنَّني رُحمت، لأنِّي فعلت بجهل في عدم إيمان. وتفاضلت نعمة ربنا جدًّا مع الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع» (1تي1: 12-14). إنَّ اختبار شاول الطرسوسي يمثِّل الخلاص الطبيعي لأي خاطئ في تدبير نعمة الله. فهو أوّل إنسان يخلص بدعوة من السماء، دعوة آتية من الرب المرتفع الممجَّد، وهو يصور بذلك كيف يخلص الخطاة، لأنَّ يسوع الناصري المرفوض سابقًا هو الآن في السماء، وقد رفعه الله بيمينه رئيسًا ومخلِّصًا ليُعطي التوبة وغفران الخطايا. ما أعجب هذه القصة! شاول يتحوَّل إلى بولس! وقد سُميَّ شاول - بلا شك - على اسم أوّل ملك لإسرائيل، ذاك الذي كان - من كتفه فما فوق - أطول من كل الشعب. وهكذا كان الذي حمل اسمه؛ فشاول كان متفوِّقًا أدبيًّا وثقافيًّا ودينيًّا على الآخرين في أيَّامه. وقد وصف بولس تفوّقه الأدبي وحماسه الناري اللذين سبقا تغييره في فيلبي3: 4-6. فهو كان رجلاً عظيمًا (في عينيّ نفسه، كما في أعين معاصريه) متكبِّرًا، غيورًا، وعنيدًا. لكن عندما انفتحت عيناه ليرى نفسه كما يراه الله، تغيَّر اسمه إلى بولس، والذي معناه ”صغير“. والآن يُعلن بصدق كونه صغيرًا لأنه قال: «لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً».. «أنا أصغر جميع القديسين».. «الخطاة الذين أولهم أنا». فبعد رؤيته للرب يسوع في مجده ونعمته، انكمش هو نفسه إلى لا شيء، وهذا ما يحدث مع كل نفس تُولد ثانية ولادة حقيقية. فلا بد أن الله يزيد، بينما نحن ننقص. شاول، الذي كان ينفث تهدّدًا وقتلاً على تلاميذ الرب، ذهب إلى دمشق ليفعل هذا، أي لكي يقبض على القديسين ويضطهدهم، وكلمة “ينفث“ تفيد أنه أصبح وحشًا آكلاً لحوم البشر، ومتعطِّشًا للدماء بسبب غيرته العمياء والزائفة لله. ولقد كان في اضطهاده مفتريًّا لا يعرف الرحمة؛ لكن في طريقه للقبض على الآخرين، تمَّ القبض عليه هو شخصيًّا بواسطة يسوع الناصري؛ فقوبلت قسوته برحمة الله. حمدًا لاسمه، إنَّها النعمة التي قبضت على هذا الخاطئ العظيم؛ النعمة التي أصبحت أبدًا موضوع كلامه وكتاباته؛ نعمة رائعة لا نهائية ومنقطعة النظير! لقد أبرق حوله نور من السماء، وتكلَّم إليه صوت. كان بإمكانه أن يفتخر بكونه بلا لوم من جهة البرّ الذي في الناموس، لكن حفظه للناموس وجهه التوجيه الخاطئ، جعله مضطهدًا لمخلِّص الخطاة الوحيد! فالناموس يغلق السماء أمام الإنسان، لكن شاول سمع كلمات النعمة من سماء مفتوحة: إنَّ مجد النعمة، يُشرق في وجه المخلِّص، يُخبر الخطاة من أعلى، الله نور والله محبة. وظلَّت النعمة بعد ذلك افتخار بولس ومجده، فقد تكرَّرت كلمة النعمة حوالي125 مرة في العهد الجديد، استخدمها بولس وحده أكثر من 100 مرة! اقرأ غلاطية1: 15؛ رومية3: 24؛ 5: 15 ؛ 2كورنثوس8: 9؛ أفسس2: 8-9؛ 1كورنثوس15: 10..إلخ وسوف تجد كيف يفتخر بولس بنعمة الله. ولقد أرسل الرب حنانيا لشاول، والذي يحكي اسمه القصة الجميلة نفسها، لأن معنى اسمه ”حنان الرب“. كان شاول يرفس مناخس، وهو ما تفعله الثيران عندما تتمرَّد على أمر حارث الأرض. وبفعلها هذا لا تُؤذي وتجرح إلا نفسها، لأنَّها ترفس بأرجلها أسياخ الحديد الحادَّة التي خلفها؛ فكان بولس، بمقاومته عمل روح الله فيه، يُؤذي نفسه. ويمكننا أن نفهم هذا بأن الله كان قد سبق وتكلَّم إلى ضميره من قبل؛ ربَّما في حادثة رجم استفانوس، عندما رأى وجهه كأنَّه وجه ملاك؛ لكنَّه الآن - بعدما خَلَصَ - أصبح مثل الثور الطائع، يقبل حمل النير من أجل ربه. وجده حنانيا في زقاق يُقال له ”المستقيم“. كان شاول قبل ذلك يحرث أخاديد معوجَّة، أمَّا الآن فهو في طريق مستقيم ضيق. من الآن فصاعدًا أصبح له غرض في الحياة، وقد عبَّر عنه بكلماته الخاصة: «أفعل شيئًا واحدًا»... «أسعى نحو الغرض» ... «لا أنا بل المسيح». لقد وُجد شاول في زقاق يُقال له المستقيم عند بيت يهوذا، وماذا كان يفعل؟ لقد كان يصلي. إن شاول الذي كان ينفث قتلاً، ها زفيره الآن يُخرج صلوات وحمدًا، وهو في بيت يهوذا الذي معنى اسمه ”حمد“. وفي الواقع إن الصلاة والحمد هما من العلامات البارزة للنفس التي تغيَّرت تغيِّيرًا حقيقيًّا، وكلاهما كانا بارزًا في حياة بولس بعد ذلك. فكثيرًا ما نسمع بولس يصلي، وكثيرًا ما نسمعه يفيض بأهازيج الحمد. ففي وسط خلافات معقَّدة أو رسائل مثيرة، نجده يقطعها بالتسابيح، كما في رومية11: 33 ؛2كورنثوس9: 15 ؛1تيموثاوس1: 17 ؛ أفسس1: 3 ..الخ. ثم نجده بعد ذلك يكرز (ع20)، طالبًا من الناس أن تنتقل من الظلمة إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله. وأخيرًا نراه مُضطَّهَدًا (ع23-25). من مضطهِد ينفث تهددًا وقتلاً، نراه مطروحًا على وجهه أمام الرب في الطريق، ثم مصليًّا، ومسبِّحًا، وأخيرَا كارزًا مُضطَّهَدًا!! ولقد أخذه برنابا (ع27-28)، الذي كان اسمه الأوّل ”يوسف“، بمعنى ”يضيف“ (أع4: 36)، إلى التلاميذ في أورشليم، الذين قبلوه إثر إطراء برنابا له. وبذلك أُضيف بولس إلى القديسين، ليتمتعوا معًا بامتياز الشركة المسيحية، فكانت تعزية عظيمة (كمعنى اسم ”برنابا“) له ولهم! كلَّم الرب شاول الخاطئ من السماء، وقال له: «لماذا تضطهدني؟». في الواقع كان شاول يضطهد القديسين، لكن الرب بكلماته هذه أوضح أنه هو وقديسيه واحد!! وهذا هو حق الكنيسة المبارك، جسد المسيح، والذي رأسه الرب؛ السرّ الذي كان على بولس أن يكشفه بعد ذلك بطريقة رائعة. ومثل سيِّده المبارك، أطعم بولس الكنيسة واهتمّ بها؛ وبصورة أقل، بذل نفسه لأجلها. وهناك بعض الأفكار العمليَّة التي تفرض نفسها في تغيِّير هذا الخادم العظيم، خادم المسيح. وكل ما يتعلَّق بهذا التغييِّر رائع، سواء كان الإنسان الذي خلص، أو طريقة خلاصه، أو النتائج التي هزَّت العالم على إثر هذا الخلاص: 1. من الممكن أن يكون الإنسان خاطئًا بشكل مخيف، ومع ذلك يشعر في الوقت نفسه أنَّه في قمة الصواب. فإن الدين له تأثير مخدِّر غريب على الناس. 2. أكثر الحالات الميئوس منها ما زال لها رجاء. فقد شعر حنانيا أن شاول الطرسوسي خارج متناول الله، لكن تبين حقًا أن الإنجيل هو ”قوة الله“. 3. تبرز فجائية أو لحظيَّة التغيير الحقيقي .. ففي لحظة كان شاول مضطَّهِدًا مجنونًا، واللحظة التالية كان تائبًا متواضعًا! 4. ينكشف تفاهة الإنسان وضآلته! فاتَّضَح في النهاية كم هو صغير هذا الشاول المنتفخ. لقد سقط الرجل الفخور على الأرض لا حول له ولا قوَّة، يرتعش في خوف ودهشة. لقد تحول في لحظة من متغطرس ذي غيرة ناريَّة، إلى إنسان خائف مسكين وضعيف. حقُّا كم الإنسان صغير جدًّا عندما يُوجد في حضرة الله! 5. تجلّت نعمة الله العجيبة، فلا نقرأ كلمة توبيخ، ولا تذكير لهذا الخاطئ بذنبه القبيح، بل مجرَّد سؤال رقيق كشفه، وجعله يتواضع. فرؤيته ليسوع الناصري (الذي كان يظنَّه محتالاً) في عرش الله في السماء، حطَّمت تمامًا كل شكوكه السابقة. 6. تعلَّم شاول أنَّه في مقاومته لله كان يعيق بركته الشخصية. لقد أدرك أنَّه صعب عليه أن يرفس مناخس. لقد قال الله: «من يخاصمني؟» (إش50: 8). 7. من المحتمل أن كانت هذه الفرصة هي الأخيرة لشاول. ولو كان قد رفضها، فلربَّما كانت قد فاتته للأبد، لكن بولس لم يكن معاندًا للرؤيا السماوية. صحيح إنَّنا الآن عادة لا نبصر رؤيا، كما رأى شاول، ولكن ليس ثمة احتياج ملِّح لذلك، فنحن نملك الكتاب المقدس وكل ما دوِّن فيه من حقائق مؤكَّدة صار لنا. فالذي كان معلَّقًا مرة على الصليب هو الآن جالس في عرش الله، وهو الذي ستركع أمامه كل ركبة. 8. هذا التغيير يؤكد مطلق سيادة الله. فقد خلَّص الرب في هذه المناسبة رجلاً واحدًا فقط، فبولس هو الوحيد الذي سمع الصوت متكلِّمًا إليه، وهو الوحيد الذي عماه النور. فعندما يتكلَّم الرب إلى نفسك لن تفشل في تمييز صوته. 9. كان على بولس أن يتألَّم كثيرًا من أجل اسم يسوع (ع16) ، وبالنسبة لنا قد وُهب لنا لأجل المسيح لا أن نؤمن به فقط بل أيضًا أن نتألَّم لأجله (في1: 29). وأحب أن أذكر أن شاول هذا الذي تغيَّر حديثًا (والذي عُرف بعد ذلك ببولس)، مثل كل الخدَّام الذين يستخدمهم الرب في خدمته، يحتاجون إلى وقت من التفرُّغ للتأمّل، للصلاة والشركة مع الله، فقد يظنّ أحدٌ بعد قراءته لأعمال9: 20 أن بولس بدأ يكرز بعدما خَلَص مباشرة، لكن غلاطية 1: 17 توضِّح غير ذلك. فهو ذهب إلى العربية لمدَّة ثلاث سنوات، وعاد من هناك إلى دمشق. ففي ضوء غلاطية1: 17 نفهم أنَّ السنوات الثلاث تقع بين أعمال9: 19 وأعمال9: 20. فبعدما عاد بولس من العربية إلى دمشق بدأ يكرز هناك كما نقرأ في أعمال9: 20. وبعد هروبه من هذه المدينة، بناءً على التهديد بقتله (ع23)، ذهب إلى أورشليم. وما يُؤكِّد هذا أنَّ بولس أخبرنا في غلاطية1: 18 أنَّه لم يذهب إلى أورشليم إلاَّ بعد ثلاث سنوات من التغيير الذي حدث له. فإذا كان خادم المسيح الموهوب هذا احتاج الدخول في هذه المدرسة، فهذا ينطبق على كل المبشرين اليوم. فكثيرون في تمام الاستعداد ليبدأوا في إخبار الناس قبل أن يعرفوا هم حقيقة أنفسهم. فموسى قضى 40 سنة تدريب في البرية؛ وانتظر أليشع في تواضع العبد، سيِّده إيليا، حتى يكون لائقًا أن يحلّ محلَّه. وإيليا نفسه سار 40 يومًا وحيدًا ليتعلَّم بعض الأشياء. والكارز الأعظم قضى 30سنة في الخفاء. دعنا نُلقي نظرة أخرى على تغيِّير شاول كالتالي:  قُبض عليه (captured): لقد اعتقلته المحبة الإلهية. وذاك الذي اضطَّهَد الناس حتى الموت، طاردته المحبة لتمنحه حياة أبدية. وبدلاً من وضْع الآخرين للموت، وَضِع مخلِّص بولس ومخلِّصنا، نفسه للموت، من أجل خطايانا. لقد وضعت المحبة يدها على شاول الطرسوسي وقالت: ”لقد قبضت عليك، ومن الآن فصاعدًا أنت سجين الرب، أسير المحبة“.  أُخضع (conquered): لقد تم القبض على كثير من المجرمين وأودعوا السجون، ولكن لم يتم إخضاع العدد الكبير منهم، ولم تُخضَع إرادتهم. لكن بولس قال: ”لم أكن معاندًا للرؤيا السماوية“. ويمكنه أن يقول مثل سيده: «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت».  سُبيَّ (captivated): فقد رُبح قلب بولس. فمحبَّة ذاك الذي خلَّصه استحوذت على نفسه بأكملها. فكلّ ما كان يفتخر به قبلاً يحسبه الآن من أجل المسيح خسارة، فهو لم يجد في يسوع فقط السعادة الفائقة في المعرفة التي تتحدَّى العقل، لكن محبة أشبعت كل شهوة نفسه المفديَّة.  تُحكِّم فيه (controlled): أجبرته محبة المسيح من ذلك الوقت فصاعدًا ألا يعيش لنفسه، بل من أجل الذي مات لأجله وقام، فأصبح شغله الشاغل أن يجلب المجد والكرامة للمسيح. اُملك يا رب طريقي، املأني بروحك، حتى يرى الجميع، المسيح وحده يعيش فيَّ دائمًا.