«ولما رأى إخوة يوسف أن أباهم قد مات، قالوا: لعل يوسف يضطهدنا ويرُّد علينا جميع الشر الذي صنعنا به. فأوصوا إلى يوسف قائلين: أبوك أوصى قبل موته قائلاً: هكذا تقولون ليوسف: آه! اصفح عن ذنب إخوتك وخطيتهم ... فبكى يوسف ... فقال لهم يوسف: .. لا تخافوا. أنا أعولكم وأولادكم. فعزَّاهم وطيَّب قلوبهم» (تك50: 15- 21).
لقد خلَّص يوسف إخوته خلاصًا عظيمًا (تك45: 7)، وأعطاهم مُلكًا في أفضل أراضي مصر (تك47: 11)، وعالهم بطعامٍ على حسب أولادهم (تك47: 12). ولمدة سبعة عشر عامًا كانوا موضوع كَرَمه ورعايته الحُبية وعنايته، وهكذا عرفوا شيئًا عن عظمته ومجده. لقد عرفوا عمله العظيم الذي أتمه، وعرفوا أيضًا أن كل بركة تمتعوا بها هي من نتائج عمله وما له من مكانة عظيمة. ولكنهم، للأسف، لم يدركوا ولو نذرًا يسيرًا عن شخصه وفكره وقلبه، فكان لسان حالهم: ”نحن نعرف ما قد فعل لأجلنا، ولكننا لا نعرف شعوره من نحونا“ .. ولذلك عندما حلَّت الكارثة، موت أبيهم، لم تكن لهم الثقة فيه، وتوجسوا خيفة أن يعاملهم يوسف كما سبق أن عاملوه. لقد استرجع ضميرهم ما فعلوه بيوسف من شر، ولذلك قالوا: «لعل يوسف يضطهدنا ويرُّد علينا جميع الشر الذي صنعنا به» (تك50: 15). لقد حكموا على فكره بحسب فكرهم، وعلى قلبه بحسب قلوبهم، وعلى أعماله بحسب أعمالهم.
وا أسفاه. أ لسنا الآن، معشر المؤمينن، مثل إخوة يوسف في القديم؟! فنحن نعرف بعض الشيء عن مجد شخص المسيح، ونُدرك بعض الإدراك كفاية عمله وما أنتج من ثمار وبركات. ولكن عندما يلوح شبح المصاعب: ماذا نحن فاعلون؟! هنا تظهر ضحالة معرفتنا بشخصه وقلبه، ومن ثم ضآلة ثقتنا فيه. إننا نفتقر إلى المعرفة الوثيقة بشخصه وفكره. قد يستطيع الواحد منا أن يقول: ”إنني أعرف ما فعله لأجلي“، لكننا نفتقر إلى الثقة فيه والتي تُمكّن الواحد منا من القول: ”إنني أدرك حقيقة عواطفه ومشاعره تجاهي“، ومن ثم فعندما تأتي التجربة، فإننا ـ مثل إخوة يوسف ـ نضطرب ويعترينا الخوف. وحسنٌ أن نسعى بحماس واهتمام لمعرفة المكتوب، ولكن هل لنا نفس الغيرة لمعرفة ربنا المبارك معرفة شخصية، حتى لا يصيبنا ما أصاب إخوة يوسف من خوف وشك.
إن قصور معرفة إخوة يوسف بقلبه، وافتقارهم إلى الثقة في شخصه، أثمرا هذه الرسالة التي أرسلوها له. لقد حاولوا إخفاء عدم ثقتهم به وشكّهم بنواياه، بادعائهم أن هذه هي وصية أبيهم الراحل ليوسف. فمع أن يوسف قد صفح عنهم، وغفر لهم ماضيهم الرديء، ورغم كل المحبة والنعمة التي أظهرها يوسف من نحوهم، إلا أن ضمائرهم القلقة كانت ما زالت تؤرقهم بفكرة أن يوسف يضمر ضدهم عداوة.
وهذا عينه يمكن أن يحدث معنا. فإذا لم نكن في شركة وثيقة دائمة مع المسيح، فإننا قد نظن، أثناء سقوطنا وفشلنا وإهمالنا، أن المسيح ضدنا بسبب ما نكون قد وقعنا فيه، ومثل إخوة يوسف، فإن خطايانا وآثامنا وعدم تدقيقنا، هذه كلها تنخس ضمائرنا، فتبتدئ تؤرقنا. وإذا لم نكن على معرفة وثيقة بقلب ربنا المعبود، فقد يقودنا ذلك الاعتقاد بأن الله ضدنا، فنحاول أن نستميل قلبه ونطلب الغفران.
ولكن مهما يكن مقدار فشلنا جسيمًا، فإن غفران الله للمؤمن الحقيقي هو حق أبدي لا يقبل الريب. وهكذا فنحن مدعوون لأن نعترف بخطايانا حتى يمكن أن نسترد شركتنا معه، وساعتها سنجد المسيح يقول لنا، نظير ما قد يكون يوسف قاله لإخوته: ”أنا أعرف شر قلوبكم من نحوي، ولكن ثقوا أنه لا يوجد في قلبي سوى المحبة لكم“. وهكذا يزيل ما قد يعترينا من خوف من جهة الماضي، أو من قلق بشأن المستقبل، بل ويضيف أيضًا، مثلما قال يوسف: «فالآن لا تخافوا. أنا أعولكم وأولادكم» فيعزي ويطيّب قلوبنا. وعندئذ لا نعود نعرف ما قد عمله لأجلنا فقط، ولكننا نعرف أيضًا محبة قلبه من نحونا. فيا لنعمة إلهنا!! يا لسموها!! يا لغناها!!