أشرنا في العدد السابق إلى أربعة أفكار مرتبطة بالخدمة والخادم كلها مذكورة في رسالة كورنثوس الثانية كالآتي:
في 2 كورنثوس3 نرى الخدمة.
في 2 كورنثوس4 نرى الخادم.
في 2 كورنثوس5 نرى دوافع الخدمة.
في 2 كورنثوس6 نرى صفات الخادم الأدبية.
ولقد تحدثنا في العدد السابق عن الفكرتين الأولى والثانية، أعني الخدمة وعن الخادم، ونواصل في هذا العدد بقية الأفكار.
ثالثًا: دوافع الخادم (2كو5): في 2كورنثوس5 نجد ثلاثة دوافع رئيسية للخادم: المجد القادم، كرسي المسيح، ومحبة المسيح.
(1) بالنسبة للمستقبل المشرق والمجد القادم، فقد كان الرسول ممتلئًا باليقين من جهته «لأننا نعلم أنه إن نُقِضَ بيت خيمتنا الأرضيُّ، فلنا في السَّماوات بناءٌ من الله، بيت غيرُ مصنوعٍ بيدٍ، أبديٌّ» (2كو5: 1). فإذا انتهت الحياة فإننا نثق أننا سنتسربل- في الوقت المعين – بالجسد المُمجد، ونكون مثل المسيح. ولكننا لا ننتظر الموت، ولكننا ننتظر المسيح، لكي يُبتَلع المائتُ من الحياة (2كو5: 4). إننا ننتظر التغيير المجيد عند تحقيق الرجاء المبارك، وهذا أيضًا ما كان ينتظره الرسول بولس ويتوقعه. إنه لم ينظر إلى مجيء الرب على أنه أمر بعيد. لقد كانت هذه صفة العبد الرَّدِيء الذي قال في قلبه: سَيِّدِي يُبطىء قُدُومَهُ (مت24: 48)، ولم يكن هكذا الرسول بولس. صحيح أنه عندما كتب إلى تيموثاوس في رسالته الثانية، لم يتكلم هكذا، ولكن ذلك كان لأن الرب أعلن له أنه سيموت من أجله، وسيكون من ضمن الراقدين عند مجيئه، وهذا عين ما فهمه الرسول بطرس من كلام الرب له.
عندما أعدنا الله للمجد كان غرضه – عندما بدأ يعمل في أرواحنا – أن يجعلنا بالتمام مثل ابنه. لقد سبق فعيننا لنكون مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرًا بين إخوةٍ كثيرين (رو8: 29). وفي الوقت نفسه لقد أعطانا عربون الروح، وهكذا امتلأنا يقينًا أننا إذا رقدنا فإننا نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب. كل هذا كان محرِّضًا للرسول على الخدمة «لذلك نحترص أيضًا – مستوطنين كُنَّا أو متغربين – أن نكون مرضييِّن عنده» (2كو5: 9). فكيف لا يخدم الرسول ربًا كهذا؟ فإن يكن مُعدًا للمجد، وأن يتيقن في الوقت ذاته سكنى الروح القدس، فإن هذا كان كفيلاً أن يملأ الرسول بالامتنان والتعبد للرب، حتى إنه كان يُسَرُّ ويرضى أن يُنفِق ويُنفَق من أجل الرب.
(2) ثم يأتي أمر آخر وهو دور كرسي المسيح «لأنه لا بدَّ أننا جميعًا نُظهر أمام كرسي المسيح» (2كو5: 10). إن جميع البشر، مؤمنين وخطاة، سيقفون أمام كرسي المسيح، وإن كان ذلك سيكون على وقفتين مختلفتين، كل في دوره، لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع، خيرًا كان أم شرًا. والغرض من ظهور المؤمن أمام كرسي المسيح هو أن ينال المؤمن المكافأة التي تناسب خدمته الأمينة للرب. إن صفة كرسي المسيح، بالنسبة للمؤمن، هي للإعلان وليس للدينونة، لأن المسيح لا يدين عمل يديه. وليست المسألة هنا خطايا المؤمن، والتي بواسطة عمل المسيح قد سُدد حسابها. وفي معرفة هذه الحقيقة، فإن المؤمن تصبح له ثقة عظيمة في يوم الدينونة (1يو4: 17). إنه يستريح بثقة كاملة في يقين كلمة الله التي تخبره بأنه «لا يأتي إلى دينونة» (يو5: 24 ؛ رو8: 1). ولكن أعمال المؤمن (2كو5: 10)؛ عمل الخدمة للرب (1كو3: 9 – 15)، والدوافع (1كو4: 4, 5؛ رو2: 15, 16)، جميعها ستُقيَّم أمام عيني الرب يسوع المسيح الفاحصة المقدسة ، وكل شيء في حياة المؤمن سيستعلن في ذلك اليوم، وستُكشف لنا قصة النعمة كاملة، في صبرها، والمحبة التي بلا حدود في حياة المؤمنين، وسيباركون اليد التي قادت، والقلب الذي وضع الخطط، وسينال كل منا المكافأة التي تناسب خدمته الأمينة للرب. ولكن كم هو أمر صعب بالنسبة للبعض أن يقف أمام المسيح في هذا الوضع، فكم من الخجل سيصيب البعض أثناء تلك الوقفة!
إن بولس لا يتحدث هنا، فقط، عن رعب الله لغير المخلَّصين، بقدر ما يتكلم عن “رهبة جلال الرب” التي فيها سعى الرسول لكي يخدم الرب خدمة مرضية، لكي ينال منه المكافأة أمام كرسيه. ومجرد التفكير في هذا الأمر حرك دوافع الرسول بولس، وكان حافزًا آخر للخدمة والكرازة، خاصة أن هناك أيضًا وقفة للأشرار أمام العرش العظيم الأبيض للدينونة، ويُطرحَون بعدها إلى الويل والهلاك الأبدي «فإذ نحن عالمون مخافة الرب نُقنع الناس» (2كو5: 11). فإذ نحن ندرك دينونة الله المخيفة على الخطية، وأهوال الجحيم، فيجب علينا أن نسعى لإقناع الناس بضرورة قبول الإنجيل.
هل هذه هي الحال بالنسبة لنا أيها الإخوة الأحباء؟ من المؤكد أن الشيطان يحاول جاهدًا أن يبعد أنظارنا عن هذه الدوافع للخدمة. لم يسبق أن مشاهد رعب الدينونة كانت خابية مثل أيامنا الحاضرة، وربما كانت مهملة تمامًا. ولكن أن نخفف من هول الدينونة فهذا معناه أننا نخدع الناس، بل ونكون أداة في يد الشيطان. كان الرسول بولس يرى مشهد الدينونة بكل ما فيه من هول ورعب أمام عينيه، وهذا ما زاد من حماسته وغيرته على ربح النفوس، وخدمة المسيح.
(3) أما الدافع الثالث للخدمة فهو محبة المسيح، وهو وإن كان أقلها إلا أنه مصدرها جميعا «لأن محبة المسيح تحصُرُنا» (2كو5: 14). لقد تفكر الرسول في المسيح كمن جاء إلى أرضنا طالبًا المصالحة مع الإنسان، ثم مضى إلى الصليب ليغلق تاريخ الإنسان الأول، ويضع أساسًا من البر للمصالحة، وللخليقة الجديدة. هذه المحبة العجيبة ملأت قلب الرسول بولس، وكانت لها قوة محاصرة، لذلك فقد دفعته ليذهب إلى العالم الأممي، كسفير للمسيح الغائب الآن، بإرساليته المباركة عن المصالحة، مكلمًا الناس، مطالبًا عن المسيح، أن يتصالحوا مع الله (2كو5: 20).
وما أقل قيمة الخدمة التي لا تنبع من المحبة! إن خدمة الرق والعبيد لا تُشبع المسيح. ولكن ما الذي لا تتحمله المحبة؟ وما الذي لا تفعله المحبة لتتميم غرضها؟
رابعًا: صفات الخادم الأدبية (2كو6): والآن نأتي أخيرًا إلى الصفات الأدبية التي يجب أن تميز خادم المسيح (2كو6). والرسول يطلب، هو وشركاؤه في الخدمة، من الكورنثيين، أن لا يقبلوا نعمة الله باطلاً (2كو6: 1). في الأصحاح الخامس تكلَّم إلى الخطاة طالبًا منهم أن يتصالحوا مع الله (2كو5: 20)، والآن هو يتحدث إلى القديسين ويحرضهم على أن يسلكوا بالحق ولا يجعلوا عثرة في شيء لئلا تُلام الخدمة، ويجلبوا العار على اسم الرب (2كو6: 3). والرسول يوحنا يُعبِّر عن الفكرة نفسها في رسالته الأولى «والآن أيها الأولاد، اثبتوا فيه، حتى إذا أُظهِرَ يكون لنا ثقةٌ، ولا نخجل منه في مجيئه» (1يو2: 28)، وأيضًا في رسالته الثانية «انظروا إلى أنفسكم لئلا نُضيع ما عملناه، بل ننال أجرًا تامًا» (2يو8).
أما بالنسبة لبولس نفسه، كيف تصرف؟ اسمعه يقول: «ولسنا نجعلُ عثرةً في شيءٍ لئلا تُلامَ الخدمةُ. في كل شيءٍ نُظهر أنفسنا كخدَّام الله» (2كو6: 3, 4). كان الرسول مهتمًا جدًا أن يكون بلا لوم، ويُظهر صفات الخادم الحقيقي الذي مقياسه هو المجد الإلهي. ويا له من شخص أمين حقًا! إنه لم يُقدِّم الحق بفمه فقط، لكنه كان مثالاً للحق في كل طرقه. إن قيمة تعليمنا لا تكون في يوم من الأيام أكثر مما تقدمه حياتنا.
والصفة الأدبية الأولى هي «في صبرٍ كثيرٍ» (2كو6: 4). وهذه الصفة نراها في المرتبة الأولى في أصحاح 12 أيضًا. وقد امتُحن هذا الصبر «في شدائد، في ضروراتٍ، في ضيقاتٍ». لم يتحمل أحد ما تحمله الرسول بولس في خدمته للمسيح. لكن هل لم يعد هناك مجال لخدمة كخدمة الرسول بولس في أيامنا الحاضرة لعدم وجود اضطهادات؟ بالتأكيد هناك مجال. إن خدمة الأيام الأخيرة في كنيسة الله تواجه الكثير من أسباب الإحباط واليأس والمفشلات، حيث قد بردت المحبة من كل جانب، والعالم قد دخل باهتماماته الفارغة، ولم يعد هناك تشبث بحقوق المسيح. وبالتأكيد يحتاج الخادم الروحي الأمين إلى «صبر كثير».
ليتنا ندرس هذا الأصحاح (2كو6)، بكل ما يحمل من معان، وليت الروح القدس يثمر فينا بكل هذه الأمور لمجد اسمه.