قارئي العزيز، يا مَنْ تتابع معنا الدراسة في سفر هوشع، ويا مَنْ تجد في التجوال في رحاب الكلمة وأعماقها وفرةً وسخاءً، ثروةً وعزاءً، هلمّ نستكمل حديثنا، وتمتد أعناقُنا، وتُحلق أبصارُنا، في هذا السفر النفيس. ولكنك ربما تتساءل في تلقائية شديدة: في أي مجال أُحلق ببصري وأغوص بقلبي؟ أفي بشع المناظر التصويرية التي تبرز لنا شر هذه الأُمة؟ أم في الحتميات القضائية التي استجلبتها لنفسها؟ أليست هذه المناظر بعينها هي التي جعلت إرميا النبي في يومه يتلوى قائلاً: «أحشائي أحشائي. تُوجعُني جدران قلبي، يئنُّ فيَّ قلبي، لا أستطيع السكوت؛ لإنكِ سمعتِ يا نفسي صوت البوق، وهتاف الحرب» (إر4: 19).
ولكن مهلاً يا أخي، فلا يمكن أن تكون هذه آخر محطة في رحلة المعرفة والتأمل، وإلاَّ فمن حقك أن تتساءل: وأين سلامة الوصول إذًا؟ ولكن استلفت نظرك أن في وسط هذه المناظر أيضًا نطق إرميا بالوحي: «إنه من إحسانات الرب أننا لم نفنَ، لأن مراحمه لا تزول. هي جديدة في كل صباح. كثيرة أمانتك. نصيبي هو الرب قالت نفسي من أجل ذلك أرجوه، طيب هو الرب للذين يترجونه للنفس التي تطلبه» (مرا3: 22-25).
والآن هلم معي قارئي العزيز، لنقف أمام بعض من هذه المناظر التصويرية الأخرى في السفر.
2) بقرة جامحة:
«إنه قد جمح إسرائيل كبقرةٍ جامحةٍ. الآن يرعاهم الرب كخروف في مكان واسع» (4: 16).
البقرة الجامحة: هي كناية أو تصوير عن التهور وغياب اللجام والزمام، وفعل الإرادة الذاتية، والإطاحة بكل الروادع، سواء كانت روحية أو حتى أخلاقية، وكثيرًا ما يظن الإنسان في حماقته، أن في فعل إرادته الذاتية، سيجد حرية موفورة، ولكن هوشع يسوق بالوحي الآية اللاحقة لهذه الصفة، أقصد: (البقرة الجامحة)، «أفرايم موثقٌ بالأصنام. اتركوه» (4: 17)، فما ظنه الإنسان حرية ورفاهية، إذ به يجده أغلالاً ثقيلةً، تسلبه قواه، وتحني كواهله، وتمنع عنه صفاء ابتسامة السيد التي كان سينعمُ بها إن حاز رضاه. أليس هذا هو التحريض الذي قدمه لنا داود بعد سقطته الشنعاء، يوم أن جمح كبقرة جامحة، ثم أعاده الرب إلى صوابه، فقال: «أُعلمك وأرشدك الطريق التي تسلكها، أنصحك، عيني عليك. لا تكونوا كفرسٍ أو بغلٍ بلا فهم. بلجامٍ وزمامٍ زينته، يُكمُّ لئلا يدنو إليك» (مز32: 8، 9).
وأمام منظر التهور والعناد هذا، يعلن النبي القضاء المحتوم والذي كان وشيكًا أن يحدث، «الآن يرعاهم الرب كخروف في مكان واسع» والقارئ لهذه الكلمات دون فهم معناها في القرينة، يظن لأول وهلة وكأنها تحمل معانٍ إيجابية. ولكن ليس بالضرورة كلما قرأنا كلمة ”يرعاهم“ أوثم ”في مكان واسع“، أنها تحمل لنا معانٍ إيجابية. صحيح بالنسبة لنا هذه الكلمة الغالية تُذكرنا بأسمى معاني رواية الحب، موت سيدنا بصفته الراعي الصالح (يو10: 11)، كما تُذكرنا بفائض اعتناء واهتمام ربنا يسوع المسيح بنا كل الطريق، لتكميلنا في كل عمل صالح، بصفته راعي الخراف العظيم (عب13: 20). فهذا هو الشخص الفريد الذي هتف له داود بأُنشودته المأثورة: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء» (مز23: 1)، وأما في بعض المواضع الأخرى فالكلمة ”يرعاهم“ تعلن القضاء، بل وتحطيم الأعداء، أيضًا نذكر منها: «فولدت ابنًا ذكرًا عتيدًا أن يرعى جميع الأُمم بعصًا من حديد» (رؤ12: 5 انظر أيضًا رؤيا 19: 15). وهذه الآية مُقتبسة من المزمور المسياوي الأول، نقصد المزمور الثاني، ولكن مع توضيح كلمة يرعاهم في معناها السلبي «تحطمهم بقضيب من حديد، مثل إناء خزَّاف تكسرهم» (مز2: 9).
«الآن يرعاهم الرب كخروف في مكان واسع» فهذه البقرة الجامحة التي طالما تصلَّبت على القدير، وأظهرت فرط جنوحها إلى الارتداد عنه، استجلبت لنفسها هذا القضاء، وماذا كان القضاء؟ نجد الإجابة في هذه الآية التي تحمل معنى التسمين لغرض الذبح، وطردهم إلى مكان واسع، لا بمعنى مكان رحيب، حيث ينساب خرير مياه الراحة، ولكن مكان واسع، كناية عن التيهان والضلال، ولكن إلى متى يا ترى؟ هل إلى النهاية؟ كلا، فإن كانت نبوة هوشع تحكي لنا عن شر الأسباط العشرة، وعن القضاء الذي وقع عليهم، متمثلاً في السبي الأشوري، ولكنها تحكي عن مشاعر يهوه تجاه هذا الشعب، والبركة المستقبلية المخزونة لهم في قلبه، التي سيتمتعون بها في أزمنة رد كل شيء، فسوف يعود ويجمعهم من التيهان، ومن المكان الواسع، بل سيعود ويرعاهم لافي مكان واسع بالمعنى الذي ذكرناه، ولكن على ضفاف مياه الراحة. قارئي العزيز: تذكر معي هذه الوعود الصادقة التي من نصيب هذا الشعب: «لايجوعون ولا يعطشون ولا يضربهم حرٌّ ولا شمسٌ، لأن الذي يرحمهم يهديهم، وإلى ينابيع المياه يوردهم، وأجعل كل جبالي طريقًا، ومناهجي ترتفع. هؤلاء من بعيد يأتون، وهؤلاء من الشمال ومن المغرب، وهؤلاء من أرض سينيم. ترنمي أيتها السماوات، وابتهجي أيتها الأرض، لتشد الجبال بالترنم، لأن الرب قد عزَّى شعبه، وعلى بائسيه يترحَّم» (إش49: 10-13).
3) جفنة ممتدة
«إسرائيل جفنة ممتدة: يُخرج ثمرًا لنفسه، على حسب كثرة ثمرهِ قد كثَّر المذابح، على حسب جودة أرضه أجاد الأنصاب» (هوشع 10: 1).
الجفنة هي شجرة العنب أي الكرمة، وهذا التشبيه، نقصد تشبيه إسرائيل بالكرمة، وهو شائع في الكتاب: (إش5: 1-7؛ مز80: 8-16 ... إلخ). والمتأمل في هذه الفكرة عبر الكتاب يرى بكل أسف تدرجًا وخيمًا نحو الأسوأ في حالة هذه الكرمة، ففي البداية، عندما أخرجهم الرب من أرض مصر، أثمروا له وإن كان قليلاً، وكم كان يعتز الرب بهذا الثمر لنفسه، فها الرب يرسل إرميا مناديًا في أذني أورشليم قائلاً: «قد ذكرت لكِ غيرة صباكِ، محبة خطبتكِ، ذهابكِ ورائي في البرية في أرض غير مزروعة. إسرائيل قدس للرب، أوائل غلته، كل آكليه يأثمون، شرٌّ يأتي عليهم يقول الرب» (إر2: 2، 3).
ولكن يا للحسرة، في ذات الإصحاح يلوم الرب على هذه الكرمة التي تحوَّل مسطارها إلى سمٌّ ناقعٍ فيقول: «لأنكِ على كل أكمةٍ عاليةٍ، وتحت كل شجرة خضراء أنتِ اضطجعتِ زانية، وأنا قد غرستكِ كرمة سُورَق، زرعَ حقٍّ كلَّها، فكيف تحوَّلتِ لي سروغ جفنةٍ غريبةٍ» (إر2: 20، 21) وكأن العريس بلغة سفر النشيد، نزل إلى جنتهِ ليأكل ثمرها النفيس، فإذا بالنفائس قد تحوَّلت إلى بخائس، والمنعشات إلى مُكدِّرات، والصافيات إلى مُكدَّرات، وعوضَ أن يتلذذ بهم ككرمة سُورَق (أفضل أنواع الكرم)، تحولوا عنه، فتحولوا إلى سروغ جفنة غريبة!
قارئي العزيز: أتتذكر ما جاد به قلبُ الجواد الأعظم إلى هذا الشعب ناظرًا إليه كالكرمة؟ فهوذا آساف يشهد عن هذا في واحد من مزاميره: «كرمة من مصر نقلت، طردت أُممًا وغرستها، هيَّأت قدامها فأصَّلت أُصولها، فملأت الأرض. غطى الجبال ظلها، وأغصانها أرز الله، مدَّت قضبانها إلى البحر، وإلى النهر فروعها
بل تذكر معي أيضًا ما كتبه إشعياء عن عناية السيد بهذه الكرمة، وإحاطته لها بكل أنواع الحماية واللطف، ولكن في النهاية نقرأ هذا التصريح المرعب: «إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل، وغرس لذَّته رجال يهوذا، فانتظر حقًا، فإذا سفكُ دمٍ، وعدلاً فإذا صراخٌ» (إشعياء 5: 7)، بل واقرأ معي نظرة السيد نفسه، وتقديره لهذه الأُمة، فهوذا هوشع في نبوته موضوع دراستنا، يُصور لنا هذا التقدير قائلاً: «وجدت إسرائيل كعنب في البرية. رأيت آباءكم كباكورة على تينةٍ في أولها، أما هم فجاءوا إلى بعل فغور، ونذروا أنفسهم للخزي، وصاروا رجسًا كما أحبوا» (هوشع 9: 10). وهنا يطرح السؤال نفسه، وأين المقاصد الإلهية تجاه هذا الشعب؟ هل ضاعت أدراج الرياح وبلا رجعة؟ وهل فشل الله فيما قصد؟ كلا. البتة، فالله لا يفشل، وهو المكتوب عنه بالارتباط بقضية هذا الشعب بصفة خاصة، بل وفي كل طرقهِ ومقاصدهِ بصفة عامة: «لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة» (رو11: 29). ولا بد أن يثمر هذا الشعب لا لنفسه كما ورد في سفر هوشع «إسرائيل جفنة ممتدة: يُخرجُ ثمرًا لنفسه»، ولا يصنع عنبًا رديًّا (إشعياء 5) بل في أكرم المناظر، وأروع الشهادات من فم العريس نفسه، سيثمر هذا الشعب للرب في جو البركة، وستتم كلمات العريس نفسه: «قد دخلت جنتي يا أختي العروس، قطفت مُري مع طيبي، أكلت شهدي مع عسلي، شربت خمري مع لبني، كُلُوا أيها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباء» (نش5: 1)
فهذا هو حقد الشيطان بل وشر الإنسان من ناحية، ولكن من ناحية أخرى، هذه هي دروس الأزمان، تتلألأ على جبين مَنْ يسيرون على درب الإيمان، بثمار مبروكة تؤكد للقلب أننا نتعامل مع الله صاحب الإحسان.