ذكرنا في الأعداد السابقة أن داود رجل الله، ولو أنه في بعض الأحيان لم يستشر الرب، إلا أنه كان بصفة عامة يستشير الرب. ونستطرد الآن الحديث عن المرة الرابعة التي فيها استشار داود الرب
(4) «فسأل داود من الرب قائلاً: إذا لحقت هؤلاء الغزاة فهل أُدركهم؟ فقال له الحقهم فإنك تُدرك وتُنقذ» (1صم30: 8)
مكث داود في أرض الفلسطينيين، وسكن في صقلغ لمدة 16 شهرًا (1صم27: 7)، وكاد أن يتورَّط ويحارب مع الفلسطينيين ضد شعب الرب، إلا أنَّ الرب تدخَّل ولم يسمح له بذلك، غير أنَّه عندما عاد إلى صقلغ وجد أنَّ العمالقة قد غزوها وأحرقوها بالنار وسبوا النساء والأولاد، فبكى داود والشعب الذين معه حتى لم تبقَ لهم قوَّة للبكاء. وأمام مشهد الخراب والدمار هذا، ماذا كان بوسعه أن يفعل؟ هل يحاول هو ومن معه أن يلحق بهؤلاء الغزاة؟ أم يستسلِّم للأمر الواقع ويقبل ما لحق به من خسارة فادحة؟
نسمع هنا تعبيرًا حلوًا عن داود: «وأمَّا داود فتشدَّد بالرب إلهه. ثمَّ قال لأبياثار الكاهن ابن أخيمالك قدِّم إليَّ الأفود. فقدَّم أبياثار الأفود إلى داود. فسأل داود من الرب ...» (1صم30: 6، 7).
بدايةً لم يكن سهلاً على داود في هذا الموقف الحرج أن يرجع إلى الرب ويسأله، وهو الذي ظلَّ 16 شهرًا بلا أيَّة علاقة معه. فهل بعد كل هذه الفترة يمكن للرب أن يتنازل إليه ويُجيبه عن تساؤلاته؟
لقد كان داود يرغب حقًّا في اللحاق بالغزاة رغم صعوبة ذلك، وكان يريد أن يتحقَّق من الرب مدى نجاح مسعاه، وهل سيستعيد النساء والأولاد أم لا؟
فهناك مخاوف كثيرة يمكن أن تراوده، منها:
- إن ما أحدثه الغزاة بصقلغ يدل على مدى شراستهم وبطشهم، فهل يمكن أن يكون هو ومن معه من الرجال ندًّا لهم، وهل سيستطيع أن يُلحق بهم هزيمة ويرد ما سلبوه؟
- إنَّه لا يعلم بالتحديد ما الذي أحدثه الغزاة بالأنفس، وهل فعلوا بهم ما فعلوه بالمدينة من خراب ودمار، وما جدوى ملاحقتهم آنذاك؟
- إن حالة الرجال الذين معه لا تصلح لمنازلة الغزاة، إذ كانوا في إعياء شديد، حتى أنَّ مائتين منهم لم يستطيعوا فعلاً أن يعبروا وادي البسور (1صم30: 10). فكيف يُحارب برجال نفوسهم خائرة هكذا؟
- لا يعلم أي طريق يسلك، فهو يجهل مسالك هؤلاء الغزاة ودروبهم. أوَ ليس من الحماقة أن يحاول اللحاق بهم وهو لا يعرف أي طريق يسلك؟ صحيح لقد رتَّب الرب له بعد ذلك العبد المصري الذي عن طريقه استطاع أن ينزل إلى الغزاة (1صم30: 11-16)، إلاَّ أنَّ داود في البداية لم يكن يعلم أنَّه سيلاقي هذا العبد.
- ألا يلمس فيما حدث له يد الله التأديبيَّة، فلقد تمَّ تدمير كل ما اكتنزه خلال الستة عشر شهرًا التي قضاها في أرض الفلسطينيين. فهل يجب عليه أن ينحني خاضعًا لما سمح به الرب من خسارة وإن كانت فادحة، ولا يُفكِّر في محاولة استردادها؟
لكن شكرًا للرب، الذي أبدًا لا يخزى منتظروه (إش49: 23). والذي ترنَّم داود نفسه عنه – في ظرف مشابه - قائلاً: «نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل» (مز34: 5). لقد طمأن الرب عبده داود بكلمات حاسمة قاطعة: «الحقهم، فإنك تُدرك وتُنقذ». فما أروع إلهنا المحب، الذي يشجعنا على الدوام أن نقترب منه، وأن نسأله، وهو تبارك اسمه يسمع لنا ويُجيبنا عن كل حيرتنا وتساؤلاتنا مهما كانت حالتنا، ألا يِّذكرنا هذا بكلمات الرب الرائعة لتلاميذه: «مهما سألتم باسمي فذلك أفعله ليتمجَّد الآب بالابن. إن سألتم شيئًا باسمي فإني أفعله» (يو14: 13، 14)؟
(يُتبَع)