- يا أبانا الصالح، كم نشكرك ونسجد أمامك لأنك تُسَر أن تُطلع مساكين نظيرنا على لمحة بسيطة من صفحات الأزل البعيد، فتتخطى قلوبنا حدود الزمان والمكان لترى الله المثلث الأقانيم في الأزل، قبل كل الوجود، حينما لم يكن هناك مخلوق.
- في هذا الزمان المليء فقط بالإلهيات، كان لكل أقنوم حياة في ذاته، فكانت لك أيها الآب حياة (يو5: 26)؛ وكذلك الابن الأزلي “فيه كانت الحياة” (يو1: 4)؛ وكذلك الروح القدوس، فمكتوب عنه «وأما الروح فحياة» (رو8: 10).
- هناك كانت الحياة الأبدية نشطة، فالحب كامل من جانبك أيها الآب، ونقي جدًا وفياض، بما يتناسب مع قلبك المحب. وكان ابن المحبة المدرك لحبك شبعانًا جدًا بمحبتك. فقلبه لا يستقبل سوى محبتك. وكانت العلاقة متجانسة وكاملة ككمال الأقانيم الإلهية.
- ولم يكن يعيق جريان الحب شيء، فالنبع فائض، والمنسوب عالٍ جدًا، والمستقبل كامل وهو ابن محبتك، والمبادلة عجيبة بينك وبينه يا أبانا.
- حقًا كان ابن محبتك غرضًا عظيمًا لمحبتك وما أسماه!! ولكنه كان أيضًا المستقبل والمستودع الواعي والمقدِّر لهذه المحبة. وعلى قدر فيضان حبك كانت سعة قلبه.
- ولم يكتف بأن يكون غرضًا لمحبتك، مستقبلها ومستودعها، لكنه كان التعبير الكامل عن حبك أيها الآب. وكان تعبيرًا كاملاً عن طبيعة وحقيقة المحبة.
- ومن فرط سرورك يا أبانا بابنك أردت أن تملأ بيتك بمشابهين صورته (رو8: 29)، ليس فقط فى هيأتهم الخارجية في المجد قريبًا (1يو3: 2)، بل يشابهونه داخليًا، بأن تكون لهم حياته ذاتها، فأعطيته وعد الحياة الأبدية هناك في الأزل البعيد (2تي1: 1).
- وكما كان هو المُستقبل والمستودع لمحبتك في الأزل، والتعبير الكامل عن حبك في الزمان، أردت أن توجد من يكونون مستودعًا لحبه وحنانه، ومعبِّرين عنه وعنك يا أبانا.
- وكم نشكرك أيها الآب، إذ قصدت أن تتمم هذا في الإنسان (لا في الملائكة). ففي ابن المحبة كانت الحياة والحياة كانت “نور الناس”. «لأنه حقًا ليس يُمسك الملائكة، بل يُمسك نسل ابراهيم» (عب2: 16). لقد سررت أيها الآب أن تعظم ذاتك، وتعظم ابنك في الإنسان (هذه الفئة من الخليقة التى ُخلقت على صورة الله، لنكون في تكويننا من البداية) رغم دخول الخطية - ملائمين لقصدك النهائي - أن تعطينا الحياة الأبدية. وهذا لنستطيع أن نستقبل الحب الذي بينك وبينه.
- وما أمجدك يا رب وأنت تجعلنا مستودعًا لذات المحبة الأزلية التي بينك وبين أبيك، والتي طالما كنت أنت يا رب مستودعها. وما أجودك وأنت تعطي كل واحد من قديسيك القدرة ليستقبل المحبة التي تستقبلها أنت، تلك المحبة المتدفقة بينك وبين الآب من الأزل «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به» (يو17: 26). ولولا أنك أنت أخبرتنا بهذا بفمك الكريم، من كان يجرؤ أن ينطق به؟
- وقد أتممت هذا بإعطائنا ذات حياتك الأبدية فينا «وأكون أنا فيهم» (يو17: 26. فأنت فينا كالحياة الأبدية المستقبل لمحبة الله، بل والموصِّل لها إلى قلوبنا المسكينة التي أصبحت أنت ساكنًا فيها كالحياة. كما أنك أنت سيدنا القوة لنا للتمتع بهذه العواطف الإلهية ووسيلة التمتع بها. وكل هذا يأخذ مجراه (إن جاز لنا أن نقول هذا) في قلوبنا، بفضل الحياة الأبدية. كما نتجاسر ونقول إنه قد أصبح لنا (من امتيازنا) نفس كمال استقبالك أنت وتمتعك أنت بغمر الإلهيات. ما أجودك!!
- وكما وجد حب الآب مستقره وراحته في قلبك من الأزل، نقول (بكل خشوع) إنه سيجد فينا الشبع والاكتفاء والسرور طالما الحياة الأبدية نشطة فينا «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم».
- ما أجودك سيدنا وأنت تضعنا في ذات مكانك في العالم. فكما كنت أنت التعبير عن محبة الله للعالم فنحن علينا أن ندرك مسؤوليتنا «ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم» (يو17: 11). إننا من الآن التعبير عنك في هذا العالم، وذلك بأن نعرض الحب الذي نستقبله ونتمتع به في الحياة الأبدية في قلوبنا. وكما فاض الحب من قلبك إلى قلوبنا، فلا بد أن يفيض من قلوبنا إلى مساكين حولنا من خلال الحياة الأبدية التي فينا.
أيها الاحباء هذه هى حياة الله، وهذا هو حب السماء. وقد أعطانا الله إياها لكي نستوعب المحبة الأزلية بين أقانيم اللاهوت وندخل إلى أعماق أفكار الله ومقاصده في النور، ليس فقط لنستوعبها ونعيها بل لنحياها ونعبِّر عن صاحبها من تركنا هنا لنعبر عنه في العالم.
- وسنبدأ بمعونة الرب في هذه السلسلة بالحديث عن معاني الحياة الأبدية. ونتبع هذا بمقالين عن إعلان طبيعة الحياة الأبدية؛ حياة الله التي فيه والكائن هو فيها، وقد ظهرت كاملة في نورها ومحبتها في كلمة الحياة له المجد.
- ثم نلقي ضوءًا بسيطًا على اجتياز هذه الحياة للموت (خبز الحياة). ذلك الموت الذي كنت أرقد أنا فيه بالطبيعة يوم وجدتني الحياة. الموت الذي من خلاله استطاع فادينا المجيد أن يحُصل للآب ولنا مجدًا لانظير له. وبعدها نتأمل في شهادة الله وشهوده الثلاثة الروح والماء والدم، أولئك الشهود بأن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي فى ابنه.
الحياة الأبدية في معانيها
- إن الحياة الأبدية هي حياة الله. إنها حياة سرمدية في زمانها، أبدية في مجدها لأنها تنتمي إلى الله الأبدي. إنها ترتبط بعالم الأبديات؛ عالم الأمور التي لا تُرى «وأما الأمور التي لا تُرى فأبدية» (2كو4: 18). إنها حياة السماويات ولا علاقه لها بالأرضيات. إنها حياة بيت الآب، ولكنها تُعاش على الأرض بقوة النعمة.
- كثيرًا ما كثرت المناقشات حول السؤال عما إذا كانت الحياة الأبدية هي نوعية حياة الله فينا ولنا؟ أم أسلوب حياة نحياه هنا وفي الأبدية. ولكن إذا تأملنا في محضر الله نستطيع أن ندرك أن الحياة الأبدية لها ثلاثة معانى في كلمة الله.
(1) نوعية حياة الله السرمدي
كما أنها
(2) مناخ وحالة الأبدية ومقدمتها فى المُلك.
وأخيرا أنها
(3) أسلوب وطابع حياة علينا أن نتبعه هنا وسيكمل نهجه في الأبدية.
ولنلاحظ أن استخدام كلمة حياة في لغتنا العامة ليس بعيدًا عن هذه المعاني، فمثلاً:
- نقول حياة النبات وحياة الحيوان، حياة الإنسان وحياة الملائكة، كذلك حياة الله الأبدي. وهنا نرى استخدامنا لكلمة حياة بمعنى نوعية حياة.
- ولكن إذ نقول حياة المدينة أو حياة القرية فنحن نتحدث عن مناخ الحياة. فالمناخ في ريف إحدى القرى بهوائه العليل وخضرته اليانعة وهدوئه الجليل وحياته البسيطة، يختلف تمامًا عن جو المدينة بضوضائه وتلوث هوائه وسرعة حركته. وهكذا يختلف المناخ والحالة في المدينة عنه في القرية، فبانتقالي من المدينة إلى القرية لا أحتاج إلى نوعية حياة جديدة، ولكن سأعيش في مناخ جديد بمميزاته وعيوبه، وحالة أكون أنا فيها وليست هي في.
- وإذ نستخدم تعبير حياة الخيام أو حياة الخيامين فنحن نعبر عن أسلوب حياة. فإذا اُلزم أى منا أن يعيش في الخيام سواء في رحلة استكشافية أو صيد أو نزهة، فهو لن يحتاج نوعية حياة جديدة، فهو كإنسان يستطيع أن يفعل هذا، كما أنه لا يحتاج إلى مناخ جديد، إذ يمكنه أن يعيش فى الخيام في صحراء المدينة أو في خضار القرية. ولكنه يحتاج إلى أسلوب حياة جديد لتوقيت نومه خاصة إذا كانت الشمس محرقة. وأسلوب خاص لاستحمامه وادخاره للمياه بما يتناسب مع حياة الخيام. وهكذا فإنه يحتاج إلى أسلوب جديد تمامًا.
ومن هنا نرى أن كلمة حياه يمكن استخدامها على الأقل في هذه المعاني الثلاثة كنوعية حياة فينا، وحالة ومناخ الحياة التي نقيم نحن فيها، أو أسلوب للحياة والمعيشة.