استخدام اللغة الرمزية والمجازية في الكتاب المقدس أمر واضح، وله أغراض كثيرة منها:
(1) شد الانتباه: فينجذب الانتباه إلى الرموز والتشبيهات أكثر من العبارات الصريحة.
(2) الشرح والتوضيح: المواضيع الكتابية التي رأى الروح القدس أن يشرحها بالتشبيهات والصور الرمزية، سهَّلت على الذهن الفهم والاستيعاب.
(3) الترسيخ والتثبيت: التوضيح بالأمثلة والرموز والتشبيهات يثبت المواضيع في الذهن فلا تُنسى ولو بعد عشرات السنين، بل ربما تبقى العمر كله عالقة بالذهن البشري.
وبالإضافة إلى ما تقدم فإن استخدام هذه اللغة في كثير من الأحداث الكتابية يضيف إليها جمالاً أكثر يؤثر في القارئ وينعشه. وهذه السِمَة الأخيرة يمكن أن نعتبرها نتيجة أكثر منها غرضًا.
هذه اللغة استُخدمت أكثر ما استُخدمت في الكتاب المقدس في العهد القديم (عهد الطفولة الروحية). فالملوك والرعاة، الكهنة والأنبياء، المذبح والذبائح، الانتصارات والهزائم، المُجازاة والعقاب، الآلام والأمجاد ـ كل هذه تحوي رموزًا ونماذج وتشبيهات لأحداث وأمور روحية تُعتبر الآن (في ضوء العهد الجديد) عهد البلوغ الروحي، مثل النجوم البرَّاقة التي تنساب في مداراتها الكاملة، والتي سوف يغمرها نور النهار الكامل حين يغطي مجد الرب الأرض كما تغطي المياه البحر.
والحقيقة أن هذه الصور والرموز هي مصدر انتعاش لقلوبنا وأرواحنا لأنها تحولنا من الرمز إلى المرموز إليه، ومن الصورة إلى الحقيقة، ومن الأرضي إلى السماوي ـ شخص ربنا يسوع المسيح، في شخصه أو عمله. فشخص المسيح هو ”روح النبوة“ (رؤ19: 10)، وشخصه يملأ الكل في الكل.
فدارس الكتاب المقدس لا يستطيع أن يمر على ما يراه في المكتوب دون أن يرى المسيح وعمله. فالنجم والجبل، الباب والحجر، الأسد والحَمَل ـ كل هذه وإن كانت تبدو أشياء بسيطة، لكنها تُستخدم في أسلوب مجازي وتصويري لتُشير إلى أعظم الحقائق الروحية وأجّلها، والتي تخص شخص المسيح وعمله.
الحية
في بداية الكتاب قدَّم الوحي المقدس لنا عدو كل بر باعتباره الحية. ذلك لأن هذا العدو قدم الخطية إلى الإنسان في أسلوب خادع وجذاب «يوم تأكلان منه … تكونان كالله» (تك3: 5). وقد بلع الإنسان الطُعم، وأُمسك بالشَرَك، فأخذ وأكل وأصبح عارفًا الخير ولا يستطيع أن يفعله، وعارفًا الشر ولا يستطيع تجنبه. وتغيَّر كل شيء في لحظة من الزمان، فإشراق الجنة الأرضية سرعان ما تلاشى وحلّ بدلاً منه النزاع والنشاذ والكآبة.
تعب ووجع، لعنة وعرق، شوك وحسك. لقد دخلت الخطية إلى العالم، وظهر الموت في المشهد.
أشهر صور الشيطان هما الحية والأسد، الحية تمثل الخصم والمُضل ـ مصدر الخطية والمُسبب للموت. جذابة هي ولكنها ماكرة، ناعمة الملمس ولكنها قاتلة، طريقها باستمرار الخداع والقسوة (كذب وقتل). أكثر الكائنات مراوغة، وتتوارى بخبث حتى تبث سمومها التي تسبب الموت لضحاياها. كانت في العهد القديم ضمن الأوثان التي انتشرت في كل العالم، عُبدت بطريقة شنيعة، هذه العبادة لها سِمَتها الواضحة لأن رمزها شيء مكروه ومُخيف.
يُقال إن بعض الشعوب قديمًا جسّدوا الحكمة الإلهية في الحية، فربطوا أنفسهم وعبادتهم بالشيطان. لعنها الله لعنة أبدية، حتى في المُلك الألفي حين تُعتق الحيوانات، يُذكر «أما الحية فالتراب طعامها» (إش65: 25).
والأسد يمثل الشرير والمقاوم ـ المهيِّج والمدمر ـ يجول مُلتمسًا مَن يبتلعه هو (1بط5: 8). طريقه باستمرار التدمير العنيف.
في الصورة السابقة (الحية) رأينا التدمير الماكر. وهنا (في الأسد) التدمير العنيف. كثيرًا ما يبدأ الشيطان كالأسد (العنف)، وإذا فشل فإنه يُغيِّر أسلوبه إلى الحية (المكر). وهو – عادة - إذا لم ينجح كالأسد، يفلح كالحية.
والشيطان قبل سقوطه خُلق بكيفية عجيبة. فليس فقط هو أرقى طبقات الملائكة وأعظمها، لكنه الأقرب منهم إلى عرش الله ”الكروب المظلل“ (حز28: 16). ملآن حكمة وخاتم الكمال وكامل في طرقه، بين حجارة النار كان يتمشى. لكنه لكثرة حكمته وغناه تكبَّر وارتفع قلبه لبهجته وأُفسدت حكمته لأجل بهائه. قال في قلبه أصعد إلى السماوات، أرفع كرسيّ فوق كواكب العلي، أجلس على جبل الاجتماع. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلي. تكبر فسقط! «كيف سقطت.. يا زهرة بنت الصبح؟» و«كيف قُطعت إلى الأرض ... يا قاهر الأمم؟» (إش14: 12). وفي يومٍ قادم جميع الذين يتطلعون إليه سيقولون «أ هذا هو الذي زلزل الأرض وزعزع الممالك؟» «الذي جعل العالم كقفر وهدم مدنه». ارتفع فانحدر إلى الهاوية إلى أسافل الجُب، هناك هوى «وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا» (رو16: 20).
(يتبع)