حياة تارح في الوحي المقدس، تتلخص في عبارة واحدة: «وَكَانَتْ أَيَّامُ تَارَحَ مِئَتَيْنِ وَخَمْسَ سِنِينَ. وَمَاتَ تَارَحُ فِي حَارَانَ» (تك11: 32). وربما نتساءل: أية غرابة أو إثارة في ذلك؟ فالرجل لم يمت في عمر الشباب، ولا مضى عقيمًا دون أولاد. هذا صحيح، لكن الحقيقة المؤلمة هي أن الرجل عاش ومات دون أن يصل إلى كنعان. وفي الواقع لم يكن تارح إلا مُعطِّلاً «فَأَتُوا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ» (تك11: 31؛ قابل عب4: 1؛ عد32). و“تَارَح” معناه “تعوُّق” أو “تعطُّل”، وقد أكمل مدلول اسمه؛ إذ أنهى أيامه في “حاران”. لقد أمسكته الأشياء الطبيعية بقبضة من حديد، ولو كان عليها طابع الموت. و“حاران” معناها “ملفوح” أو “محروق” ومع ذلك فإلى أن مات تارح قد سكن هناك، وأبرام معه.
يمثل تارح كثيرين ممن يبدأون حسنًا ثم يتوقفون عن السير. والواقع أن تارح، ومَن هم على شاكلته، هم حجر عثرة لأنفسهم وللسائرين معهم. إذا هم وجدوا واحة ظليلة في الطريق مثل حاران تراهم يرغبون في الراحة، وهذا عندهم أفضل من مغالبة البرية والأعداء. لكنها في الحقيقة ليست بواحة على الإطلاق بل الجفاف والموت، فلا هم شبعوا من طعام أور، ولا هم أكلوا من خير كنعان.
يُحكي عن أسطورة يونانية تقول: إن حمار بوريدان اليوناني راح يزحم كتفيه حملان من التبن، وراح كلما وجد تبن آخر وضعه على كتفيه، واحتار من أيهما يأكل، ولم يأكل. وظل ينوء تحت حمليه وهو يتضور جوعًا إلى أن نَفَقَ من الجوع تحت حمليه الثقيلين.
هكذا تارح ومن هم على شاكلته، هؤلاء ليس لهم خير في دنياهم ولا في آخرتهم. ولو أن تأثيرهم اقتصر على أنفسهم، لهان الأمر، لأن ضياع خدمتهم لن ينزل ضررًا كثيرًا بغيرهم، لكن بكل أسف، يمتد ضررهم إلى إخوتهم. لأنهم يشلون اليد والرجل لمؤمن يريد أن ينهض، أو لأخ موهوب على بداية الطريق. وما أكثر ما تتداخل عناصر القرابة الجسدية في أمور كهذه.
من الجائز جدًا أن يكون تارح مؤمنًا حقيقيًا ولو أنه غير متجاوب، أو قد يكون على الأقل معترفًا ظاهريًا بالإيمان، ويحاول الجمع بين الدنيا والآخرة. هذا في الغالب ينتهي طريقه بفقدان الغرضين، تمامًا مثل ذلك الكلب الذي جرى وفي فمه عظمة إلى حافة النهر، ورأى خياله في الماء فطمع في العظمتين، ونبح وهجم ليأخذ العظمة الأخرى، فلم يأخذها وفقد التي معه أيضًا، وصدق عنه القول “إن الطامع في الاثنين يرجع فاقد الجميع”.
يقول أوغسطينوس: “الله لا يقصد أن يتجرد الإنسان من أمواله، لكنه يريد أن يغير مكان الاحتفاظ بها”، لكن تارح تجرَّد مما يملك دون أن يغير من مكان الاحتفاظ به. حدث أن مات واحد من أصحاب الملايين، فسأل واحد صديقًا له قائلاً: كم ترك هذا المليونير؟ فأجابه الصديق: “لقد ترك الكل”.
يمثل تارح كثيرين ممن يبدأون رحله معرفة الله، ويوجهون وجوههم صوب كنعان، وهم مدفوعون بالاستحسان والغيرة والحماس والنشاط، تاركين لا الأهل والصحبة فقط، بل الحياة التي اعتادوا عليها لسنوات طوال، وبعد أن يقطعون شوطًا طويلاً في رحلة من أعظم رحلات الإنسان “من الأرض إلى السماء”، تراهم يتقاعسون في الطريق ويتخلفون عن المسير، أمام أقل تجربة، أو اليسير من الآلام، وشيئًا فشيئًا يستبد بهم اليأس والغضب والتعب والتذمر. وتجدهم يطرحون عصا الترحال عنهم فهم لا يحبون الغربة، ويرفضون الخيمة لأنهم لا يريدونها إلا مكيفةً، ويتركون المذبح لأنهم لا يرغبون في أي تضحية أو عطاء. وأخيرًا يقررون البقاء في أي “حاران” يصادفونها، حتى وان كان في هذا نهاية الحياة أو آخر المطاف.
نحن لا نعرف على وجه التحديد سبب خروج تارح من أور الكلدانيين مع ابنه أبرام والترحال نحو كنعان. من الجائز أن يكون سبب الخروج هو الاستحسان البشري، أو ربما الإعجاب الوقتي. جميل أن نستحسن الأشياء، لكن الأضمن لنا أن يكون الاستحسان أو الإعجاب مدفوعًا ومصحوبًا بعنصر إلهي فعال، ألا وهو “الإيمان”.
الاستحسان لا يصلح أبدًا للاستمرارية وإكمال الطريق. ربما ينفع للبداية، لكنه لا يُعطي القوة والطاقة على إكمال المسير وتخطي الصعوبات والعقبات التي تواجهه في الطريق، لا سيما إذا كانت الرحلة من أور إلى كنعان، أو بالأحرى “من الأرض إلى السماء”.
افتقر خروج تارح من أور لعنصر الإيمان فتوقف عن إكمال المسير وتخلف في منتصف الطريق. لم يمكث في أور، ولا هو بلغ أرض كنعان، وأخيرًا نقرأ «وَمَاتَ تَارَحُ فِي حَارَانَ».
من هذه الزاوية يُشبه تارح “المزروع على الأماكن المُحْجِرة”، حيث لم تكن له تربة كثيرة، فنبت حالاً، إذ لم يكن له عُمق أرضٍ، ولكن لما أشرقت الشمس احترق، وإذا لم يكن له أصل جفَّ. ذلك الشخص هو الذي حين يسمع الكلمة حالاً يقبلها بفرح، ولكنه ليس له أصل في ذاته، بل هو إلى حين. فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة، فللوقت يعثر (مر4: 2-20).
كان تارح سطحيًا وقلبه خاويًا من الإيمان، ومليئًا بالتربة المُحْجِرة. تخلف عن المسير بعد بداية الرحلة وبعد أن سار أكثر من منتصف الطريق. بينما كان قلب الابن أبرام عميقًا وقلبه مليئًا برؤيا إله المجد العظيمة. دفعه وشجعه عنصر خفي فعَّال “الإيمان”، فبدأ الرحلة وأكمل الترحال وسار في الطريق حتى وصل كنعان. وهذا هو ببساطة الفارق بين الاستحسان، وبين ما يعمله الإيمان.
ولست أظن أن هناك قصصًا كثيرةً يمكن أن تتحدث عن بطش العالم وقسوته، وطغيان العالم في ديانته، أكثر من قصة تارح أبي إبراهيم. إنها قصة الشيخ الذي ترك الكل، الأرض والأهل والأصدقاء، وقرر الرحيل من أور إلى كنعان، وأخذ يضرب الأرض بعصاه وهو يعبر في الفيافي والقفار، قاطعًا شوطًا طويلاً (حوالي خمسمائة ميل)، وهي أكثر من نصف المسافة. ولكن ما أن وصل إلى حاران، ورأى عبادة القمر التي تركها هناك، ارتد عن الله، وحن إلى الماضي، ورجع إلى القديم، ففضل المكوث في حاران على مواصلة السير نحو كنعان، وأخيرًا مات دون أن يصل إلى مبتغاه .
نحن لا نعرف ما هو السبب الذي جعل تارح يفضل حاران عن الرغبة على المواصلة حتى كنعان. من الجائز أن يكون التعب الجسدي أو الإعياء النفسي. فطالما فعل التعب والإعياء فعلهما في كثير من الخطاة والمؤمنين. ولطالما كثف الشيطان - عدو كل بر - هجومه ورمى بكل سهامه الملتهبة وقت التعب والألم والاكتئاب. فالسهم الذي لا يصيب في وقت الراحة والهدوء، كثيرًا ما ينجح - وقت التعب والإرهاق - في الإصابة بالفشل واليأس والإحباط.
ذكر أحدهم أن الذئب أشد ضراوة من الأسد، وذلك للفارق بين طريقتي الانقضاض على الفريسة، الأسد ينقض على فريسته من أول حركة، إذ تكون الفريسة في أشد المقاومة له، وربما تنجح في مصارعتها له وتنجو من الافتراس. أما الذئب فهو لا يهاجم الفريسة من أول حركة، بل يطاردها كثيرًا، وحين يرى أنها أُصيبت بالإعياء والتعب والإجهاد ينقض عليها بسرعة دون أية مقاومة منها، فتكون بذلك لقمة سائغة له.
هذا عين ما يفعله إبليس مع الخطاة والمؤمنين على حد سواء. ولطالما أخبرنا الكتاب المقدس عما فعله التعب والإعياء ومن ورائهما الشيطان. فعيسو باع بكوريته واحتقرها حين أتى من الحقل وهو قد أعيا قائلاً: «هَا أَنَا مَاضٍ إِلَى الْمَوْتِ فَلِمَاذَا لِي بَكُورِيَّةٌ؟» (تك25: 32).
وعماليق في حربه مع إسرائيل قطع من مؤخره كل المستضعفين «كَيْفَ لاقَاكَ فِي الطَّرِيقِ وَقَطَعَ مِنْ مُؤَخَّرِكَ كُل المُسْتَضْعِفِينَ وَرَاءَكَ، وَأَنْتَ كَلِيلٌ وَمُتْعَبٌ، وَلمْ يَخَفِ اللهَ» (تث25: 18).
وإيليا ذلك البطل العملاق حين استبد به التعب والإعياء الجسدي والنفسي، «سَارَ فِي الْبَرِّيَّةِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، حَتَّى أَتَى وَجَلَسَ تَحْتَ رَتَمَةٍ وَطَلَبَ الْمَوْتَ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: قَدْ كَفَى الآنَ يَا رَبُّ. خُذْ نَفْسِي لأَنِّي لَسْتُ خَيْراً مِنْ آبَائِي» (1مل19: 4).
وداود رجل الإيمان حين أعْيَا من مطاردة شاول المستمرة له، التجأ هاربًا إلى أرض الأعداء قائلاً في قلبه: «إِنِّي سَأَهْلِكُ يَوْمًا بِيَدِ شَاوُلَ, فَلاَ شَيْءَ خَيْرٌ لِي مِنْ أَنْ أُفْلِتَ إِلَى أَرْضِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، فَيَيْأَسُ شَاوُلُ مِنِّي فَلاَ يُفَتِّشُ عَلَيَّ بَعْدُ فِي جَمِيعِ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ, فَأَنْجُو مِنْ يَدِهِ» (1صم27: 1).
وأخيتوفل حين أعطى مشورة لأبشالوم ليقضي على داود، كانت مشورته: «دَعْنِي أَنْتَخِبُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَأَقُومُ وَأَسْعَى وَرَاءَ دَاوُدَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَآتِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتْعَبٌ وَمُرْتَخِي الْيَدَيْنِ فَأُزْعِجُهُ، فَيَهْرُبَ كُلُّ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ، وَأَضْرِبُ الْمَلِكَ وَحْدَهُ، وَأَرُدُّ جَمِيعَ الشَّعْبِ إِلَيْكَ» (2صم17: 1- 3).
بسبب هذا أرسل الرسول ابنه تيموثاوس إلى المؤمنين في تسالونيكي لكي يثبتهم ويعظهم كي لا يتزعزعوا في ضيقتهم قائلاً: «لِذَلِكَ إِذْ لَمْ نَحْتَمِلْ أَيْضًا اسْتَحْسَنَّا أَنْ نُتْرَكَ فِي أَثِينَا وَحْدَنَا. فَأَرْسَلْنَا تِيمُوثَاوُسَ أَخَانَا، وَخَادِمَ اللهِ، وَالْعَامِلَ مَعَنَا فِي إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، حَتَّى يُثَبِّتَكُمْ وَيَعِظَكُمْ لأَجْلِ إِيمَانِكُمْ، كَيْ لاَ يَتَزَعْزَعَ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الضِّيقَاتِ ... مِنْ أَجْلِ هَذَا إِذْ لَمْ أَحْتَمِلْ أَيْضًا، أَرْسَلْتُ لِكَيْ أَعْرِفَ إِيمَانَكُمْ، لَعَلَّ الْمُجَرِّبَ يَكُونُ قَدْ جَرَّبَكُمْ، فَيَصِيرَ تَعَبُنَا بَاطِلاً» (1تس3: 1- 5).
لنتحذر أيها الأحباء من أن نبدأ عملاً بالاستحسان البشري، فالاستحسان لا يستمر دون دافع الإيمان. ولنتحذر من أي قرار يُتخذ وقت التعب والإعياء، فغالبًا قرار مثل هذا لن يكون صوابًا. وأيضًا لنتجنب الحنين الى الماضي، فكم اضر هذا السهم الملتهب وأودى بحياة الكثيرين.
ولنتحذر أيها الأحباء من نهاية تارح، فهي مأساة، وهو من أقدم الرجال الذين وصفهم بطرس الرسول بالقول: «لأَنَّهُ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ لَوْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ الْبِرِّ، مِنْ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا، يَرْتَدُّونَ عَنِ الْوَصِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُسَلَّمَةِ لَهُمْ. قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي الْمَثَلِ الصَّادِقِ: كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ، وَخِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ الْحَمْأَةِ» (2بط2: 21، 22).
إن أشد ما روّع إسكوت وهو في رحلته في القطب الجنوبي، إذ كان يسير فوق الجليد المتكاثر، أن يبصر ورفاقه المتعبون معه، شيئًا يلوح من بعيد، علمًا أسود رُفع على بقايا ضحايا من الرحالة الذين سقطوا في الطريق، وهم لم يبلغوا الغرض المنشود! وهكذا منذ آلاف السنين، ارتفع علم أسود فوق قبر قديم، في أرض حاران، لرجل تعثر في الطريق، ولم يبلغ أرض كنعان، ومات هناك، عليه رخامة كلماتها محزنة مُحذرةً: «وَمَاتَ تَارَحُ فِي حَارَانَ».
(يتبع)