«ومَنْ يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى المُلْك» (أس4: 14).
بهذه العبارة ختم مردخاي رسالته الرائعة التي أرسلها لأستير (أس4: 13و14)، كرد على رسالتها له، والتي فيها اعتذرت عن الدخول إلى الملك لتطلب منه إنقاذ شعبها. ولقد توقفنا طويلاً أمام رسالته هذه ورأينا فيها:
-
إله النجاة الذي يشفي من ضعف الإيمان.
-
إله النجاة الذي عنده وحده الأمان.
-
إله النجاة الذي لا يُعدم مكانًا.
وهنا نتوقف أمام هذه العبارة الختامية الرائعة لكي نرى فيها:
إله النجاة الذي يُعد المَنْفَذ قبل الأوان
تأمل معي - عزيزي القارئ - هذه العبارة البديعة، إنها تملأني إعجابًا بقائلها، فهو هنا متألم مسحوق، يتحدث إلى ملكة البلاد. لكن في الواقع، كانت لغته هو لغة الملوك وليست لغتها هي! فبينما كانت لغتها لغة الحيرة والارتباك؛ كانت لغته لغة الفهم والإدراك، لغة الفاهم الذي في عبارة واحدة قصيرة كشف للملكة عن الغرض من أهم حدث في حياتها؛ بل ووضع أمامها الغرض من وجودها. ثم وضعها أمام مسئوليتها. وقد تكون أستير في الأربع سنوات الماضية، اللواتي قضتهن على عرش فارس، ذهبت مذاهب شتى بأفكارها وأحلامها عن دورها كسيدة الإمبراطورية الأولى، من أعمال خيرية وثقافية، وافتتاح مؤسسات وتأسيس هيئات، ورئاسة شرفية لأهم الكيانات الاجتماعية، وغيرها من هذه المهام التي تغرق فيها الملكات نظيرها. لكن مردخاي هنا بعبارة واحدة يسترجعها إلى غرض واحد وحيد تتلخص فيه مسألة المُلك بكل اتساعها وعظمتها. ثم بنفس العبارة يضعها بكل حسم أمام مسئوليتها الحاضرة، التي إذا تممتها حققت الغرض من وصولها للمُلك، وإذا تقاعست عن إتمامها خسرت كل شيء، ولم يعد لمُلكها هذا أي معنى أو قيمة!
وكم هي رائعة لغة الفاهمين المتضعين الذين يجيدون قراءة أعمال العناية الإلهية، ليست فقط تلك التي تحدث الآن، بل والتي حدثت منذ زمان! كم هو رائع اكتشاف المؤمن، أن يد الرب كانت هي العاملة في أمر ما من أمور حياته، والأروع هو فهمه لغرض الله من وراء هذا الأمر!
وعندما تأملتُ هذه العبارة مليًا، رأيتها تضيف لمخزوننا من المعرفة الروحية على الأقل فكرتين هامتين تسهمان بقوة في بنائنا وثرائنا الروحي، بل وتقوية دعائم حياتنا الشاهدة والخادمة للرب.
الفكرة الأولى: ”المَنْفَذ قبل الآوان“، وتدور حول هذا المَنْفَذ الذي يعده لنا إله النجاة قبل دخولنا في التجربة.
والفكرة الثانية: ”الغرض من الإحسان“، وتدور حول غرض الله بصفة عامة من أي إحسان يحسن به إلينا، إذ نرى هنا - في حالة أستير - أن هذا الإحسان العظيم الذي أحسن به الرب إليها منذ سنوات خلت، لم يكن لمتعتها الشخصية، أو لراحتها ورفاهيتها، بل كان أولاً وقبل كل شيء، هو المَنْفَذ الذي أعده إله النجاة لشعبه قبل تعرضهم لهذه البلوى المحرقة.
أولا: المَنْفَذ قبل الآوان
بينما كان الرسول بولس يحذر إخوته في كورنثوس من تعريض أنفسهم للتجارب، لئلا يسقطوا في خطايا مختلفة قد تصل إلى عبادة الأوثان، ويشجعهم على الهروب منها، ذكر لهم هذه العبارة البديعة التي كانت، وما زالت، وستظل إلى مجيء الرب مصدر عزاء هائل لكل القديسين المجربين، سواء كانوا هؤلاء الذين يجربهم العدو بالمزايا والإغراءات، أو الذين يجربهم بالآلام والضيقات. فقال: «لم تصبكم تجربة إلا بشرية، ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا» (1كو10: 13).
أي أن، وعلى الرغم من كون أية تجربة سيحاول العدو أن يجربنا بها، هي تجربة بشرية، بمعنى أنها عامة، وحدوثها بين البشر أمر متوقع ومنتشر، أي أننا لسنا أول ولا آخر من جُرب أو سَيُجَرب بها، وبالتالي فهي محدودة بقدر محدودية الطاقة البشرية، لكن مع هذا فالله الأمين لا يدعنا نُجرَّب فوق ما نستطيع، بل سيجعل مع كل تجربة منفذًا لكي نستطيع أن نحتمل!
وكلمة المنفذ التي استعملها الوحي هنا هي في الأصل اليوناني EK-BASIS ، وهي تتكون من مقطعين، الأول EK ويعني مخرج أو خارج وهو الذي منه تأتي الكلمة الإنجليزية: EXIT . والثاني BASIS ويعني خطوة أو حركة. والكلمة بمقطعيها تعني طبقًا لقاموس ”سترونج“: مخرج أو نهاية أو طريق هروب. وقد استعملها الروح القدس مرة أخرى فقط في كل العهد الجديد في عبرانيين 13: 7 وتُرجِمت هناك ”نهاية“. وعليه يمكننا القول:
أنه مع كل تجربة سيحاول العدو أن يجربنا بها، سواء كانت إغراءات يريد أن يجذبنا بها للبعد عن طاعة إلهنا، أو كانت ضيقات يريد أن يقودنا بها للشك في صلاح إلهنا، فإن إله النجاة في هذه وتلك لن يتركنا للعدو وتجاربه المختلفة ليفعل فينا ما يشاء، لكنه سيجعل لنا مع كل تجربة منفذًا، أي مخرجًا يضع حدًا ونهايةً لها. وكأنه في كل تجربة يريدنا أن ندير أعيننا في المكان بحثًا عن كلمة EXIT”“ أي باب الخروج عند الطوارئ، وحتمًا سنجده. فإن كان كود المباني في البلاد المتقدمة لا يسمح بأي بناء بدون EXIT أي مخرج للطوارئ، كذلك كود التجارب عند إلهنا لا يسمح للعدو ببناء أي تجربة لنا دون EXIT أي منفذًا آمنًا منه نجد النجاة. هذا يجعلنا واثقين ومطمئنين مهما اشتدت وطأة التجربة، فلكل تجربة نهاية، ومع كل تجربة منفذ!!
هذا ما فهمه مردخاي عندما استرد إيمانه عافيته، إذ أدار عينيه بسرعة في موقع التجربة الأليم بحثًا عن كلمة EXIT فوجدها مكتوبة على جبهة أستير، فأرسل إليها بسرعة رسالته الرائعة يخبرها فيه أن وصولها للملك هو المنفذ الذي أعده إله النجاة.
وهنا أتوقف معك عزيزي القارئ عند أمرين يبرزان روعة إله النجاة، هما:
-
زمن إعداد المَنْفَذ.
-
كيفية إعداد المَنْفَذ.
أولاً: زمن إعداد المَنْفَذ
لقد فهمنا من الرسول بولس أن إلهنا يجعل مع التجربة المنفذ عندما قال: «بل سيجعل مع التجربة أيضًا المَنْفَذ»، أي أنه أشار إلى زمن ظهور المنفذ، إنه ”مع التجربة“، لكنه لم يُشِر إلى زمن إعداد المنفذ. والسؤال الذي تفرضه علينا معرفتنا بطبيعة إلهنا، وما يليق به من صفات الإلوهية الحقة، هو:
هل الله يعد المنفذ بعد دخولنا في التجربة؟ أم في نفس وقت دخولنا فيها؟
أم أنه يعده قبل حدوث التجربة؟
على قدر فهمي أرى أنه حتمًا ولا بد أن يكون قبل دخولنا في التجربة. هذا ما نتعلمه من الكتاب المقدس بصفة عامة، وما نتعلمه من قصة أستير بصفة خاصة، وتؤكده لنا اختبارات إخوتنا المؤمنين.
كما أن هذا ما تحتمه طبيعة الله، إذ هل من المعقول أن ينتظر الله حدوث التجربة لكي يدبر لنا منفذًا بعدها؟ أو حتى معها؟ ألا يكون في هذه الحالة كمن فوجئ بالحدث؟ أولا يكون فعله في هذه الحالة مجرد رد فعل لما يفعله المُجرِّب؟ أي أن إبليس يعمل التجربة فيرد الله بإيجاد المَنْفَذ؟! فهل يُعقَل أو يُقبَل هذا؟ حاشا لله.
حاشا له أن يكون مثلنا؛ يُفاجأ بالأحداث نظيرنا. نحن لا نعرف المستقبل، وبالتالي نُفاجأ بالأحداث، لكن هو لا يُفاجأ بالأحداث، فهو الذي قال عن نفسه: «أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات. هوذا الأوليات قد أتت، والحديثات أنا مخبر بها، قبل أن تنبت أنا أعلمكم بها» (إش42: 8و9). «فبمَنْ تشبهونني فأساويه يقول القدوس؟» (إش40: 25).
وحاشا له أن تكون أفعاله مجرد ردود أفعال فهو: «الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف1: 11)، وليس كرد فعل لفعل آخر، أيًا كان هذا الفاعل! لأن: «الرب عال فوق كل الأمم. فوق السماوات مجده. من مثل الرب إلهنا الساكن في الأعالي؟ الناظر الأسافل في السماوات وفي الأرض» (مز113: 4-6). إذاً حاشا لله أن تكون أفعاله مجرد ردود أفعال لما يفعله البشر، أو لما يقرره الشيطان. حتمًا ولا بد أن يكون هو البادئ والمُبدِئ، إذ إنه هو الأول والآخر. وحاشا له أن يُفاجأ بالأحداث بل لا بد أن يظهر التفوق الحتمي للخالق على المخلوق حتى ولو كان هذا المخلوق هو الشيطان نفسه! فالشيطان لا يعلم المستقبل، ولا يعرف ما في داخل قلوب البشر. وإن حدث وعرف شيئًا فهو فقط من قبيل الاستنتاج، لكثرة خبرته وحدة ذكائه، أما الإله العليم فهو يعرف خبايا القلوب ويرى كل الدهور! لذلك نراه يعلم ما سيفكر فيه الشيطان من البداية! ويعلم ما سيجتاز فيه شعبه من تجارب من البداية كذلك! وعندما تأتي التجربة لشعبه، نجده ليس فقط يجعل معها المنفذ، بل نراه قد سبق وأعد المنفذ قبل التجربة! لكي يُفاجأ المُجرَّب بالإحسان، ويُفاجأ المُجرِّب بالخسران!!
لذلك أقول بكل إيمان لكل مؤمن مجرَّب:
ثق عزيزي أنه قبل أن يفاجئك العدو بالتجربة كان ربنا إله النجاة قد سبق وأعد لك EXIT أي المنفذ! سواء كانت هذه التجربة ضيقًا مريرًا، أو كانت إغراءً خطيرًا. وكل ما عليك، حين تبغتك التجربة، هو أن تهرع إليه، وتلقي بنفسك عليه، ليفتح عينيك على المنفذ الذي سبق وأعده لنجاتك.
(يُتبَع)