أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2019
دروس من حياة يونان
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

هناك بعض قصص في الكتاب المقدس يعرفها جل الناس، حتى أولئك الذين لم يمسوا الكتاب. مثلاً قصة داود وجليات، ومثلها قصة يونان. وهي قصة مُكوَّنة من بضع صفحات قليلة، وتُغطي أقل من شهرين من حياة النبي، إلا أن نبوة يونان ليست بلا مغزى. فالرب نفسه حين واجه الفريسيين دائمي التشكيك، أشار إلى «آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ» (مت ١٦: ٤)، على اعتبار أن الصورة، صورة الموت والقيامة، ستكون كافية لإقناع قلوبهم بهذه الحقيقة. وقصة يونان بما تحتويه من مزيج من الأحداث والأشخاص: البحارة الخشنيين، وأهل نِينَوَى الخطاة، والنبي العاصي، تُقدِّم عددًا من الدروس النافعة لنا.

«قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلَهِكَ!»

بادئ ذي بدء نجد بحارة تُجَّار مُسافرين من يافا إلى ترشيش، وهم أول مَن صحبوا يونان في القصة، ولكن ليس بلا مغزى (يون ١: ٤-١٦). فعندما هددت رحلتهم عاصفة هوجاء، صرخوا إلى آلهتهم، وحاولوا إنقاذ السفينة بطرح أمتعتهم إلى البحر. إلا أن جهودهم باءت بالفشل. ولكنهم يُقدّمون لنا دروسًا تحذيرية نافعة:

أولاً: أدرك البحارة أن للحياة جانب روحي: وذلك على النقيض من كثيرين اليوم ممن يُنكرون أو يجهلون الدائرة الروحية والمُكوّن الروحي، مُركزين النظر فقط على الأمور الطبيعية والمادية. وطلب البحارة من يونان أن يحذو حذوهم، ويطلب إلهه. ثم لم يلبثوا أن ألقوا قرعة لعلهم يعرفون مَن سبب هذه العاصفة، مُقرين ذلك أن ثمة سلطة أعلى منهم، ومن ثم عليهم احترامها. فإلقاء قرعة لصنع قرار يعني فقط أن المُقترع يتوقع نوعًا من الافتقاد والتداخل الإلهي «الْقُرْعَةُ تُلْقَى فِي الْحِضْنِ، وَمِنَ الرَّبِّ كُلُّ حُكْمِهَا» (أم١٦: ٣٣). وعلى الأقل كان من شأن هذا أن يضعهم في السبيل الصحيح نحو إدراك دائرة الروحيات.

ثانيًا: كان البحارة راغبين في العمل: لم تكن تلك العاصفة طبيعية عادية، فضلاً عن أنها كانت تزداد هيجانًا (يون١: ٤، ١١، ١٣). وبإلقائهم الحمولة إلى البحر، برهنوا على أنهم راغبون في القيام بما يُمكنهم من عمل، حتى إنهم جَذَفُوا للوصول إلى البَرِّ، ولكن عبثًا. وقد نُقابل قومًا على العكس منهم، يُسلّمون ويكفون دون أدنى مجهود. ببساطة، ثمة كثيرين كسالى، ينتظرون آخر ليتدخل في أمرهم، بينما يرفضون حتى أن يُحركوا ساكنًا.

وتصرف هؤلاء البحارة يُقدِّم لنا نموذجًا حسنًا: الصلاة أولاً، ثم العمل؛ هما لازمان مهمان. قال أحدهم: “كثيرون يعملون كما لو كانوا لا يؤمنون بالصلاة، ويُصلون كما لو كانوا لا يؤمنون بالعمل”. وكثيرًا ما يُريد الله أن يستخدمنا في العمل الذي صمَّمه لحل المشكلة”.

ورغم بداية هؤلاء البحارة الجيدة، إلا أنها لم تكن كافية؛ كانوا يُصلّون، ولكن لآلهة كاذبة لا حول لها ولا قوة، وعاجزة عن الإعانة والمعونة. وكانوا يعملون، ولكن – فيما يبدو – بالاتكال على ذواتهم وعزمهم وقدرتهم. وأخيرًا أعلن لهم يونان الحل الذي كان يعني موتًا مُحققًا: «خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ» (يون ١: ١٢). ولكن البحارة رفضوا، وعوضًا عن الانصياع لرغبة يونان، حاولوا الوصول إلى الأرض، ولكن هيهات (ع ١٣). والمسيحية أيضًا تُقدِّم الموت كموضوع جوهري؛ موت المسيح نفسه. وكثيرًا من الصالحين، شأن أولئك البحارة، يتكلون على جهودهم، بدلاً من قبول موت المسيح الكفاري، لخلاصهم! هؤلاء يعتبرون أن قبول المسيح يحط من شأنهم، لأنه بمثابة اعتراف بأن جهادهم ومجهوداتهم، قاصرة وغير كافية.

أخيرًا، أدرك البحارة عدم جدوى جهودهم، وألقوا يونان في البحر، وفي الحال: «وَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ» (ع ١٥). وحالاً تحوَّل البحارة بكل قلوبهم للرب يهوه، إله يونان، الحق الوحيد. ويا له من مثال! علينا ألا ننتظر هياج العاصفة لنطلب الرب. ولكن كثيرًا ما لا نفتكر فيه ونلجأ إليه، إلا في أوقات هبوب العواصف. وفي كل مرة نلجأ إليه نجده كفئًا وكافٍ لإنقاذنا. وعندما نتكلَّم عن المسيح مع الآخرين، فربما ينبغي علينا أن ننتظر الله، فربما هم لا يشاؤون قبوله إلا من خلال التجارب العاصفة.

ربما الله يَرِقُ ويَلِينُ!

كانت دعوة الله ليونان أن يُنادي على نينوى، مُعلنًا عن دينونة مُزمعة أن تنصب على هذه المدينة العظيمة؛ عاصمة أشور، لسبب شرورهم في حق الله، وحق إسرائيل شعب الله. وعندما اضطلع يونان أخيرًا بهذه الدعوة، كانت النتيجة مدهشة. وعكس البحارة الذين في البداية قاوموا طريق الله للخلاص، قَبِلَ أهل نينوى الدعوة في الحال. وهذا أمر لافت للغاية، خصوصًا عندما نعرف أن الرسالة كانت: «بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى» (يون ٣: ٤). ولم تكن الرسالة تتضمن أدنى تلميح أن توبتهم سَتُقْبَل. ولكنهم تابوا بالفعل! وكانت التوبة شاملة: مِن رجل الشارع، وصولاً إلى الملك الذي «قَامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ (عرشه)، وَخَلَعَ رِدَاءَهُ (ثيابه الملكية) عَنْهُ، وَتَغَطَّى بِمِسْحٍ وَجَلَسَ عَلَى الرَّمَادِ (الاتضاع)» (ع ٦)، وطلب مِن جميع الشعب أن «يَصْرُخُوا إِلَى اللَّهِ بِشِدَّةٍ، وَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيئَةِ وَعَنِ الظُّلْمِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ» (ع ٨)، إعلانًا عن أن الله العظيم كفاية لأن يُجري الدينونة، هو أيضًا عظيم كفاية لأن يُسبِغ رحمته، إذا أراد.

هذه هي استجابة الإيمان التي لا يمكن لله أن يتجاهلها. فدينونته كانت ستنصب على شرهم (يون ١: ٢)، والآن ها هو يرى ثمرة توبتهم (يون ٣: ١٠؛ أع ٢٦: ٢٠)، مُقترنة بتقديرهم لشخصه. ترى هل كانت هناك قلوب بين شعب الله نظير قلوب شعب نينوى التائب؟!

وهكذا “رَقَّ” الله أو “نَدِمَ”؛ «نَدِمَ اللَّهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أَنْ يَصْنَعَهُ بِهِمْ، فَلَمْ يَصْنَعْهُ» (يون ٣: ١٠). وهذا في حد ذاته أمر مُعتَبَر له وزنه. والسؤال: هل الله مُتقلِّب الأطوارـ يُغيِّر فكره حسب الظروف؟ أَلم يُقرِّر الكتاب «ليْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَل يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلمُ وَلا يَفِي؟» (عد ٢٣: ١٩)، «وَأَيْضًا نَصِيحُ إِسْرَائِيلَ لاَ يَكْذِبُ وَلاَ يَنْدَمُ، لأَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَاناً لِيَنْدَمَ» (١صم ١٥: ٢٩). هناك الكثير من المواقف في الكتاب تغيَّرت فيها خطط الله (تك ٦: ٦؛ خر ٣٢: ١٤؛ ١صم ١٥: ١١). فماذا تُعلن هذه المواقف:

أولاً: نعلم أن طرق الله لا تتغير أبدًا نتيجة أخطاء من جانبه، فطرقه دائمًا كاملة «اَللهُ طَرِيقُهُ كَامِلٌ» (مز ١٨: ٣٠).

ثانيًا: الله لا يعمل أبدًا عشوائيًا أو بلا فهم، فهو «الإِلَهُ الْحَكِيمُ وَحْدَهُ» (١تي١: ١٧).

ثالثًا: الله لا يهدف أبدًا لأن يخدع أحدًا، كأن يقول شيئًا ويفعل شيئًا آخر. فهو صادق وأمين، حتى وإن كان كل العالم ليس كذلك «لِيَكُنِ اللهُ صَادِقًا وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبًا» (رو ٣: ٤).

ولكن الله يستجيب لتصرف خليقته، ليس أنهم يتحكمون فيه، ولكنه هو يُلاحظ أعمالهم وقلوبهم. فلكونه عادلاُ وبارًا، لا يتغاضى ولا يتغافل عن الخطية، ولكونه محبة، فهو – تبارك اسمه – يُغدِق البركة. وهذه البركة تتأتى سواء نتيجة لقلوب الناس التائبة، أو التزامًا بعهود سالفة قطعها على نفسه، وهكذا يبدو أحيانًا أنه بصدد التغاضي عن خطط للنقمة (١مل ٢١: ٢-٢٩؛ ٢مل ٨: ١٩). وفي موضوعنا هنا، فإن توبة أهل نينوى سمحت له أن يحجز دينونته، ويشملهم بالرحمة. ونجد تصويرًا لذلك في يعقوب ٢: ١٣ «الرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْحُكْمِ».

وتكتمل صورة نينوى عندما تشمل الصورة سفر ناحوم، والذي كُتِبَ بعد أحداث سفر يونان بنحو ١٠٠ عامًا. فقد ارتدت نينوى وأشور إلى طرقهما الردية. وتنبأ ناحوم عن هلاك نينوى حوالي سنة ٦١٢ ق. م. وفي هذا درس جيد لنا، علنا نُدرك أن الخطأ لا يمكن أن يمر دون مساءلة. فكثيرًا ما يتحمل الله ضعفنا وقتًا أطول مما نفتكر، وهذا في حد ذاته درس جيد! إلا أن صبره واحتماله لا يُمثلان رخصة للخطأ (مز ٥٠: ١٦-٢١).

«هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ؟»

أخيرًا دعونا ننظر إلى يونان نفسه. فذكره في الكتاب المقدس لهو دليل لا يُدحض على صحة تعاليم وحقائق الكتاب. فنحن – من فرط رغبتنا في خدمة الرب – نُصارع فشلنا اليومي. ولنا في أخطاء يونان درسان رئيسان على الأقل:

أولاً: حاول يونان الهروب من محضر الرب (يون ١: ٣)، ولكنه تعلَّم أن ذلك مستحيل. وفيما هو في طريقه نما في فهم شخص الرب. فقبل أن يبتلعه الحوت العظيم الذي أعده الرب، رأى يونان قوة الله وبره من خلال “تَيَّارَات وَلُجَج الله” (يون ٢: ٣). ثم أصبح افتقاد الله وخلاصه حقيقتان واقعيتان مؤَّكَدتان، بعد أن صلى يونان من الأعماق السحيقة، التي بدت وكأنها “أَسَافِلِ الْجِبَالِ” (يون ٢: ٢-٩). ثم أدرك يونان أيضًا أن الله كان جديرًا بالتجاوب والاستجابة من جانب يونان، فأعلن: «أُوفِي بِمَا نَذَرْتُهُ» (يون ٢: ٩). وطبعًا لا يُفضِّل الرب أن يفشل المؤمنون لكي ينمو روحيًا، ولكن الفشل في الحياة نافع إذا تعلَّمنا منه.

ثانيًا: بعد خلاصه من الحوت، جاء خطأ يونان التالي: غضبه إزاء رحمة الرب. وسرعان ما تحوَّل هذا الغضب إلى انزعاج وسخط تجاه شفقة الرب على نينوى (يون ٤: ٢). وعندما صفح الرب عن نينوى، تعاظم غضبه حتى إنه تمنى الموت لنفسهِ (يون ٤: ٣). ووضع الرب أمامه هذا السؤال مرتين: «هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ؟» (يون ٤: ٤، ٩). بعد السؤال في المرة الأولى، بدا يونان مُتطلّعًا لأن يُهلِك الله نينوى، لأنه هيأ لنفسه مظلة خارج المدينة، وجلس تحتها في الظِّلِّ، حتى يرى ماذا يحدث في المدينة (يون ٤: ٥). ولقد استخدم الرب هذا الدرس ليزيده درسًا آخر؛ فقد أعد الله شجرة طويلة وارفة (يقطينة) لتنمو خلال ليلة واحدة، ليستظل يونان بظلها فيما بعد. وقد جعل الرب قلب يونان يُسرّ من جراء ذلك. حينئذٍ أعدَّ الله دودةً عند طلوع الفجر في الغد، وأعدَّ ريحًا شرقية حارة لافحة، فذبلت الشجرة في النهار. فاشتعل غضب وبؤس يونان مرة أخرى. ثم سأل الرب مُجددًا يونان بشأن غضبه، ولكن هذه المرة بخصوص الشجرة (اليقطينة). شعر يونان أنه مُحِق في غضبه، رغم أنه لا يد له في نمو الشجرة (يون ٤: ٩). ويظل سؤال الله مُعلَّقًا في خاتمة السفر: «أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى؟» (يون ٤: ١١).

ورغم أن يونان تعلَّم أنه لا يستطيع الهروب من حضرة الرب، إلا أنه كان يعوزه أن يتعلَّم أن يتضع عندما لا توافق أفكار الله أفكاره. فقد جرحت رحمة الله كبرياء يونان القومي، كما أساءت إلى سمعته وشهرته كنبي، ولكنه ما كان ليُعاني من ذلك لو كان لقلبه الموقف الصحيح. وسؤال الرب الختامي يُبين أن الرحمة ينبغي أن تكون طابع قلوب عبيده.

«كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا» (رو ١٥: ٤)

في بعض الأوجه، أظهر يونان الطابع الأسوأ ككل البشر، في هذه الأصحاحات الأربع. هل كان – ببساطة – نبيًا غير ناضج، لديه الكثير ليتعلَّمه؟! من الجهة الواحدة، فإن كل واحد منا، نحن معشر المؤمنين، ينبغي أن نُدرِك حاجتنا المستمرة للتعلُّم والنمو. ولكن من جهة أخرى كان يونان بالفعل يعرف ما يكفي عن إلهه، حتى إن فشله ما كان لينبغي أن يحدث. كان لديه فهم ناضج للكتب المقدسة المُتاحة وقتها، ومعرفة بطرق الله. مثلاً إشارة يونان إلى الصلاة تجاه الهيكل (يون ٢: ٤)، وهي مُستقاة مباشرة من سليمان (١مل ٨: ٣٨، ٣٩). فضلاً عن أن بعض العبارات الأخرى المنسوبة إليه مأخوذة من مزامير داود (مز ٢: ٣؛ ٦٩: ٢؛ ٢: ٦؛ ٣٠: ٩). ثم هناك فهم يونان الجلي لطبيعة الله المُنعمة (يون ٤: ٢). وما كان ليتأتى ذلك كله إلا من رجل سار مع إلهه. وعلى العكس من يونان، كان العبد الشرير في لوقا ١٩: ٢٠-٢٣، والذي لم يعرف عن سَيِّده سوى قسوته.

هذا تحذير لكل مسيحي (١كو ١٠: ١١)، خصوصًا أولئك الذين على عاتقهم المسؤولية لكونهم مؤمنين ناضجين. ولا شك عندي أن يونان لو دُعِيَ إلى التعليم في أي مكان في إسرائيل، لرحب على الفور، لأنه كان يعرف المكتوب، كما تمتع بشركة مع الله. ولكن يونان هذا ذاته، أظهر نموذجًا باهتًا للغاية، كتابع للرب، في السفر الوحيد المؤرِخ لتفاصيل فترة من حياته. علينا أن نحترس لئلا نبدأ نفتكر أننا نعرف أفضل من الله. علينا أن نتعلَّم كل ما نستطيع تعلُّمه بشأن مبادئ الله وطبيعته، ثم نتنحى جانبًا، وليكن الله هو الله.


س .ج كامبل