«أنا عرفتك في البرية في أرض العطش» (هو13: 5)
***
البرية.....أرض العطش. يا لها من كلمات تحمل للنفس كل معاني الخوف والرهبة! فمن منا وإن ظن عبثًا أنه يقدر أن يسير بمفردِهِ في هذهِ الفلاة بكل تهاويلها، إلا وترتطم رجلاه سريعًا بصخور البرية، بل وتدميها أشواك الطريق؛ وسريعًا ما ترتخى يداه، وترتعش ركبتاه، أو تغدو مُخلَّعة بالأحرى. ومن منا ظن هباءً أن يفغر فاه ليملأ من هذه الأرض الغادرة مُشتهاه، إلا وراح يصرخ بسبب يبوسة الحلق وظمأ النفس؟ ومن منا برأسٍ كليلٍ راح يبحث عن مسند ليتكئ، فإذا بدل الوسائِد يجد الأحجار، والحسك يملأ حتى الأشجار، والمُعضلات تجعل العقل يحار أمام عالمٍ كل لحظةٍ يُسرعُ إلى الإنهيار. ليلهُ طويل يُرخي سدولَه بيأسٍ فيقتل أملَ ظهورِ النهار، وإذا ما ظهرَ فما الإصباح منه بأمثلِ كما قال أحد الشعراء.
ولكن من يملأ الرفيق الأعلى دروبَهم، ويهدي خطواتِهم، لا عجب أن تسمعهم ينشدون حتى وهم يجتازون مضايق الزمان، إن يظلم الجو ويكفهر:
كيف بهذا الخلاء المخوف
هل لضعيفٍ هزيل الخُطى |
|
يعبر مثلي بلا أدنى خوف؟
أن يأمن الصروف؟ |
ويجدر بنا أن نعرف أن هذا السؤال ليس هو لغة الشك، أو الاستنكار، ولكنها لغة التيقن، والتعجب أيضًا، لغة الذي يعرف يقينًا السبيل إلى ذلك:
لكن سيدي في القفرِ قد
يُرشدني بل ويحملني
رافقني وطريقي أعد يقودني للمجد
فننشد بلغة الانتصار: «هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي، وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا» (إش12: 2).
وإن كنا في كلمة «البرية» و«أرض العطش» نسمع ما من شأنِه أن يرعب النفس، ويرجفها، فإننا في كلمات السيد الذي يرافق، والذي يحمل ويرشد، بل ويقود صوب المجد، مُخاطبًا إيانا :«أنا عرفتك»، نسمع ما من شأنِه أن يحمل للقلب رنينًا عذبًا، وكأن خريرَ مياه الراحة يعلو صوتُه، ويرن بصداه الشجي في قلوبِ من هم على سَفَرٍ.
فنحن في هذهِ الآية نقرأ عن حقيقة البرية من جهة، ولكن من الجهة الأخرى نقرأ عن محيا السيد وصحبته لنا، بل حملِه إيانا. ونظرًا لأن كلام الله لا يلغي الواقع حتى وإن كان أليمًا، فإنه من جانب آخر يفتح عيوننا على ما وُهِبَ لنا لنفتخر في واقع الألم. وهذه الفكرة كثيرًا ما تبرزها لنا كلمة الله. ففي مزموري 90؛ 91 نقرأ هذه الفكرة المتكاملة.
ففي الأول نقرأ عن البرية بكل وحشتها، والإنسان بكل فسادِهِ: «لأن كل أيامنا قد أنقضت برجزِكَ. أفنينا سنينا كقصةٍ. أيام سنينا هي سبعون سنةً، وإن كانت مع القوة فثمانون سنةً. وأفخرها تعب وبلية، لأنها تُقرض سريعًا فنطير» (مز90: 9، 10).
وأما في المزمور الذي يليه تطمئن قلوبنا عندما نقرأ عن «ستر العلي» و«ظل القدير»، «الملجأ والحصن»....إلخ. ولكن فوق كل هذا نجد صاحب هذه الإمكانيات «السيد نفسه»:
«لأنك قلت أنت يا رب ملجأي، جعلت العليَّ مسكنك» (مز91: 9).
فو إن كنا فى البرية نجوب البراري والقفار، نقطع طريق أرض العطش، ولكن السيد يعتني بل يحيط بنا فنجعله مسكننا.
ولكن نود أن نعود لهذه الآية موضوع تأملنا، مع الأخذ في الاعتبار قليلاً موضعها في سياق السفر، نقصد سفر هوشع.
إن سفر هوشع موضوعه الأسباط العشرة أي مملكة إسرائيل، وليس مملكة يهوذا التي كانت تتكون من سبطي يهوذا وبنيامين فقط. وعندما نقرأ في هذا السفر عن أفرايم، فالمقصود به الأسباط العشرة. والقارئ لهذا السفر بل لتاريخ هذا الشعب بصفةٍ عامة، يفهم جيدًا شر أفرايم وما أظهره من فسادٍ وعنادٍ، كرد فعل شرير لكل ملاطفات وإحسانات يهوه لهم. فهل تريد أيها القارئ أن تتابع معي خلال أمثلة قليلة - على سبيل المثال لا الحصر - مشاعر يهوه تجاه هذا الشعب، وبكل أسف رد فعلِه الشرير تجاه الرب ؟!!!
«لما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصرَ دعوت ابني» (هو11: 1). هذه هي لغة يهوه.
هل هي لغة حديثة؟ كلا. ألا تذكِّرنا هذهِ العبارة بكل رنينها العذب بحديث الرب عن هذا الشعب من بداية الطريق؟ عندما قال لموسى: «فتقول لفرعون هكذا يقول الرب. إسرائيل ابني البكر. فقلت لك أطلق إبني ليعبدني فأبيت أن تطلقه ها أنا أقتل ابنك البكر» (خر4: 22، 23).
وأي صرخة تذيب القلب والمشاعر، بل وتجعله ينجذب إنعطافًا بالوداد للسيد كهذه العبارة التي تمثل لنا صرخة أب، تمزقت مشاعره وأدمى قلبه في الحشا عندما رأى ابنه في أرض العبودية، وكورالمشقة؟ يا له من إله مُحب!! ومن منا يقدر أن ينسى هذه الكلمات المأثورة للسيد عندما كان الوحي يطلعنا في هذا السفر على مشاعرهِ الرقيقة، وصبرهِ الطويل ، وحلمِهِ المعهود قائلاً:
«وأنا درَّجت أفرايم ممسكًا أياهم بأذرعِهم فلم يعرفوا إني شفيتهم. كنت أجذبهم بحبال البشر، برُبُط المحبة، وكنت لهم كمن يرفع النيرَ عن أعناقهم، ومددت إليه مطعمًا إياه» (هو11: 3، 4).
ولكن بكل أسف في الإصحاح ذاته، إن كنا نقرأ عن مشاعر يهوه الفياضة الرقيقة، والمحبة العاملة لحساب الشعب، فإننا نقرأ ليس عن إرتداد هذه الأسباط، بل جنوحهم وإفراط زمام شرهم:
«وشعبي جانحون إلى الإرتداد عني، فيدعونهم إلى العلي ولا أحد يرفعه» (هو11: 7).
وهذِهِ الآية نستطيع أن نفهمها بطريقتين:
أولاً: «يدعونهم» ترجع إلى الأنبياء كما في العدد الثاني من هذا الإصحاح «كلما دعوهم ذهبوا من أمامهم يذبحون للبعليم، ويبخرون للتماثيل المنحوتة» (هو11: 2). فحاول الأنبياء تقديم الدعوة لهذا الشعب المارد والمعاند، المسرف والسكير ليرجع إلى الرب، ولكن كان رد الفعل هو الجنوحِ إلى الإرتداد ، فلم يرفع العلي أحدُ من الشعب.
ثانيًا: جاءت هذه الآية في الترجمة التفسيرية هكذا: « قد وطد شعبي العزم على الارتداد عني، لهذا لو استعانوا بالعلي فإنهم لا يجدون من يرفع النير عن أعناقهم». وفي هذه الحالة ترجع كلمة «ولا أحد يرفعه» على «النير» الواردة في العدد الرابع من هذا الإصحاح.
وأمام هذه المأساة الكبرى، لا نجد كلمات نعلق بها إلا ما قاله النبي هوشع في هذا السياق: «وشعب لا يعقل يُصرع» (هو4: 14).
ولكن لهذا الشعب الفاسد، ولنا نحن الذين كشفت البرية ما فينا من دنايا وبخائس لا حصرَ، يتجه السيد بهذا الحديث الرقيق ليذكِّرنا بإحسانه الذي لا ينقطع «أنا عرفتُكَ في البرية في أرض العطش».
وعن أرض العطش يُخاطب موسى الشعب بهذه الكلمات المؤثرة: «الذي سار بك في القفر العظيم المخوف، مكان حيَّات وعقارب وعطش حيث ليس ماء. الذي أخرج لك ماءً من صخرة الصوان. الذي أطعمك المن في البرية الذي لم يعرفه آباؤك لكي يذلك ويجربك لكي يحسن إليك في آخرتك» (تث8: 15، 16).
«أنا عرفتُكَ» وهذه الكلمة الجميلة تُذكِّرنا بآيات أخرى تفيض منها مشاعر الطمأنينة والراحة:
- «أبتهج وأفرح برحمتِك لأنك نظرت إلى مذلتي وعرفت في الشدائد نفسي، ولم تحبسني في يد العدو، بل أقمت في الرحب رِجلي» (مز31: 7، 8). إنه عرفنا وأدركنا بل انتشلنا ونحن في مذلة وورطة الخطية،عندما كنا تحت صولة المسخر.
- «خرافي تسمع صوتى وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي» (يو10: 27، 28). فهو يعرفنا كجماعة، لكنه يعرفنا كأفراد أيضًا، وهذه المعرفة بدايتها ليس الزمان ولكنها أزلية.
- «لأن الرب إلهك قد باركك في عمل يديِكَ، عارفاً مسيرك في هذا القفر العظيم. الآن أربعون سنة للرب إلهك معك لم يُنقص عنك شيء» (تث2: 7). فهو يعرف أيضًا طريقنا بكل وِهادِه ونِجاده
طريقك عند إلهي يُعرف
ونورهُ مسيرَك يكتنف |
|
أفضاله لك تزيد
حبًا إلى اليوم السعيد |