أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2009
الابن الضال
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

قبل أن نحاول شرح هذا الجزء من كلمة الله، دعنا أولاً نُلقي الضوء على بعض الملاحظات العامة: إلى مَن يُشير“الابن الضال”؟ هل إلى خاطىء لم يختبر الولادة الثانية، أم إلى مؤمن ضلَّ طريقه؟  اختلف البعض بخصوص هذا الموضوع.  ولكننا  لا نشك في أن هذا المثل الذي يتكلَّم عن خلاص الضال، يُصوِّر فيه الرب يسوع الخاطىء الذي لم يتغيَّر. وسوف تدور كل تأملاتنا في هذا الاتجاه، ولكن قبل أن نعرضها دعنا أولاً نُظهر بعض البراهين على أن الذي أمامنا ليس مؤمنًا تائهًا:

أولاً: إذا نظرنا إلى السياق بأكمله نراه يُظهر بوضوح الفئة المقصودة في الأصحاح كله. فيُخبرنا أول عددين من لوقا 15 «وَكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: هَذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ».  فهنا يُرى المسيح بالارتباط مع الضال. وكان ردًّا على انتقاد الكتبة والفريسيين هذا، أن مخلِّصنا نطق بهذا المثل الذي طالما جلب الحياة والسلام لنفوس لا حصر لها منذ ذلك الوقت. والرب في هذا المثل لا يُحذِّر تلاميذه من السقوط بل يُبرهن على أنه « يَقْبَلُ خُطَاةً».

ثانيًا: يبدأ الجزء الذي يتكلَّم عن هذا المثل المُسمَّى «بالابن الضال» من العدد الحادي عشر.  وهذه الأعداد ما هي إلا تكملة لما قاله الرب في الأعداد السابقة.  وفي هذه الأعداد السابقة تكلَّم الرب عن إنسان ذاهب وراء خروف ضال حتى يجده، كما يتكلم عن امرأة أضاعت درهمًا فكنست البيت وفتشت باجتهاد حتى وجدته. وبالطبع لا يمكن أن يكون هناك حيرة بخصوص ما يرمز إليه “الخروف الضال” و“الدرهم المفقود”، فهما بالتأكيد يرمزان إلى نفس لم تتغير أصلاً وليس إلى مؤمن ضلَّ. 

ثالثًا: تُعطي الكلمات التي نطق بها الأب عند رجوع الابن الضال دليلاً آخر على أن الذي أمامنا هو إنسان خاطىء وليس مجرَّد ابن تائه.  إذ قال: «أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ» (لو15: 22). وتُكلِّمنا “الحُلَّة الأولى” هنا عن ثوب البر الذي يناله كل خاطىء عند مجيئه الأول للمسيح، أما إذا كان مؤمنًا ضل طريقه فهو لا يحتاج إلاَّ إلى غسل رجليه (يو 13).

أخيرًا: يثبت تصريح الأب بخصوص ابنه أن الذي في المشهد ليس مؤمنًا ضالاً، إذ يقول «لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاً فَوُجِدَ» (لو15: 24).  ولكنه أمرٌ منتهٍ لكل من يؤمن «لأَنَّ هِبَاتِ اللهِ وَدَعْوَتَهُ هِيَ بِلاَ نَدَامَةٍ» (رو11: 29)، فكل مؤمن يملك الحياة الأبدية التي أخذها من الله كهبة (رو6: 23)، وهذه الهبة لا يُمكن أن تُرَد مرة أخرى. ولأن المؤمن يملك الآن الحياة الأبدية فلا يمكن أن يرى الموت (انظر يوحنا 8: 51). وهكذا يصبح كلام الأب عن عودة الابن الضال كمن كان “ميتًا” دليلاً على أن الذي في المشهد هو شخص خاطىء.

يبقى اعتراض واحد على ما قلناه، وسنرد عليه باختصار، وهو كيف يتكلَّم الرب عن هذا الإنسان التائه كابن وهو شخص خاطىء؟ مع الصعوبة التي تظهر لأول وهلة في هذا السؤال، يبقى الحل بسيطًا للغاية، وهو أن هذا الضال عندما جاء إلى أبيه يمثل لنا ابنًا بالاختيار. كان ابنًا في قصد الله. وإذا سُئلنا أن نثبت من الكتاب أنَّ المختارين من الله يدعون أبناء قبل أن يهتدوا فعليًّا، فإننا نشير إلى يوحنا  11: 51، 52 «تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ. وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ».  وواضح هنا أن الذين سيستفيدون من موت المسيح والذين “سيُجمعون إلى واحدٍ” (عائلة واحدة) كانوا لا يزالوا آنذاك “متفرقين”، ومع ذلك فهم يُسمون “أبناء الله”!  كما يمكن تطبيق نفس المبدإ على يوحنا 10: 16 عندما صرح المُخلّص «وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا».  فقبل أن يُحضرهم لنفسه، لقَّبهم الراعي الصالح بخرافه.

وقبل أن نُعطي شرحًا مفصَّلاً للأعداد الختامية للوقا 15، دعنا نوضِّح أولاً أن هذا الإصحاح لا يحتوي على ثلاثة أمثال كما يظن البعض، ولكنه يحتوي على مثل واحد مكوَّن من ثلاثة أجزاء.  فيخبرنا ع3 «فَكَلَّمَهُمْ بِهَذَا الْمَثَلِ: أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ...»، ثم نقرأ في ع8 كيف يستكمل المخلص الحديث بدون أي فاصل «أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ لَهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَمًا وَاحِدًا...»، ثم يسجل ع11 «وَقَالَ: إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ...»، فهذا المثل يتكلَّم بكليته عن خلاص الخاطىء الضال، ولسوف نفقد الكثير من جماله إذا قسَّمناه وفشلنا في تمييز وحدته.  فهو يُعطي صورة جميلة ورائعة عن اهتمام كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة بخلاص الضال.  في الجزء الثالث من هذا المثل نرى خاطىء يجيء إلى حضرة الآب.  ولكن لكي نُقدِّر عظمة هذا الأمر علينا أن ننتبه جيدًا لما يسبق هذا.

في الجزء الثاني من هذا المثل يُستحضر أمامنا بصورة رمزية عمل الروح القدس، وهذا كما نعلم يسبق مجيء أي خاطىء إلى حضرة الآب.  ولكن ما هو الأساس الذي عليه يعمل روح الله؟  الإجابة: هو عمل المسيح؛ وهذا ما يُصوِّره لنا الجزء الأول من المثل، حيث نرى الراعي في المشهد. 

لنتوقف لنتأمل باختصار في بعض التفاصيل بخصوص هذين الأمرين.

في الأعداد من 4-7 نرى عمل المسيح كالراعي الصالح:

 أولاً: فهو الذي «لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ»، أي هو الذي تنتمي له «الخراف»؛ هم ينتمون إليه لأنهم عطية الآب له.

ثانيًا: هو الذي قيل عنه: «يَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ»، وهذا يُصوِّر المسيح وهو آتٍ من بيت الآب في الأعالي إلى هذه الأرض حيث يوجد الخروف الضال.

ثالثًا: نجد أنه يذهب وراء الضال «حَتَّى يَجِدَهُ»، وهذا يستحضر أمامنا الصليب - مكان الموت، لأنه هناك كان يوجد «الخروف»، ولن يمكن أن يجده إلاَّ هناك. 

رابعًا: «وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ» وهذا يُخبرنا عن عناية المخلِّص الرقيقة بخاصته، وأيضًا يضمن لنا المكان الآمن الذي صار لنا الآن فيه.  من الرائع أن نلاحظ في إشعياء 9: 6 حيث الكلام عن مُلك المسيح المستقبلي «تَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ»، فالكتف بالمفرد يُذكر هنا، بينما عندما يُذكر الخروف يأتي بالمثنى «مَنْكِبَيْهِ».  كتف واحدة تحمل رئاسة العالم، وكتفان يُعطيان ضمانًا مضاعف لحفظنا. 

خامسًا: يضعه على منكبيه «فَرِحًا» يا له من أمر عجيب! نستطيع أن نفهم أن الخروف يمكنه أن يجد من الأسباب ما يجعله يفرح بالراعي، ولكن كون المُخلِّص (المُكتفي بذاته) يجد مناسبة ليفرح بخلاص الخطاة التعساء المستحقين للجحيم فهذا أمر «فائق المعرفة». 

سادسًا: «وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ»، هذا يتكلم عن النتيجة المباركة لعمل المُخلِّص، وعن النجاح المنشود لسعي الراعي. لاحظ أن السماء هنا تُسمى «البيت» - تصوير يدفعنا لنطيل فيه التأمل. 

سابعًا: «وَيَدْعُو الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ». كم يكشف لنا هذا قلب المسيح!  فهو ليس يفرح فقط بخلاص الضال، ولكنه يدعو الملائكة ليشاركوه فرحته.

في الأعداد من 4-8 نرى عمل الروح القدس، ونلاحظ ثلاثة أشياء:

أولاً: أن «المرأة» - التي تُشير هنا إلى الروح القدس- «تُوقِدُ سِرَاجًا». يا له من تصوير دقيق!  فهذا بالضبط ما يفعله روح الله في عمله. فهو يستخدم النور، وهذا النور هو سراج الحياة أي كلمة الله - وفتح الكلمة لا بُد أن “ينير” (مز119: 105، 130).

ثانيًا: هو بعكس عمل الراعي والذي كان خارجًا، فنطاق عمل المرأة في داخل «الْبَيْتَ». إذًا فعمل المسيح الخارجي تم لأجلنا، بينما عمل الروح يتم فينا.

ثالثًا: صبر الروح القدس المُترفِّق ومثابرته المباركة في عمله الإلهي مع هؤلاء الذين هم متمردون بالطبيعة،  يُمثَّل هنا بكون المرأة «تُفَتِّشُ بِاجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ».  ونتيجة كل من الجزء الأول من المثل الذي يمثل عمل المسيح، والجزء الثاني الذي يُصوِّر عمل الروح القدس، نراها أمامنا هنا في الجزء الثالث من المثل والتي تُرينا الخاطي البائس آتيًا بالفعل إلى حضرة الآب.

فهذا المثل يُخبرنا بثلاثة أمور عن الثالوث: عناء الراعي، بحث الروح، والترحيب الحبي الذي يمنحه الآب للخاطي عند عودته إليه. ولكن هذا ليس كل شيء، فالملفت للنظر التصوير البديع الذي لنا هنا عن حقيقة الثالوث المقدس بطريقة غير مباشرة.  فكما أشرنا قبلاً أن لوقا 15 لا يتكلم عن ثلاثة أمثال، ولكن عن مثل واحد في ثلاثة أجزاء، وكل جزء من هذه الأجزاء الثلاثة يُستحضر أمامنا بصورة منفصلة، كل من الثلاثة الأقانيم، حتى أننا نرى هنا واحدًا في ثلاثة، وثلاثة في واحد.

يتبقى أن نتعلَّم ثلاثة أمور عن الخاطي، في الجزء الأول من المثل نراه مُشبَّهًا بالخروف الضال، وهو يشير إلى غباء الخاطي الذي - كالخروف الضال - يعجز عن إيجاد طريق العودة للبيت، فلإرجاعه لا بُد من البحث عنه.  في الجزء الثاني من المثل يُشبَّه بالدرهم المفقود، أي جماد، أو بكلمات أخرى، يُمثِّل بدقة تلك الحقيقة الأكيدة وهو أن الخاطي ميت روحيًا.  ويُصوَّر في الجزء الثالث بالابن الفاجر في الكورة البعيدة: وهذا يعطينا تصويرًا للحالة الأخلاقية للإنسان الطبيعي: مُتجنِّب عن الله وملتوي القلب.

الذي يسترعي انتباهنا الآن هو الجزء الثالث من هذا المثل، ذلك الجزء الذي يُصوِّر الخاطي آتيًا إلى محضر الله.  والأمر البارز هنا هو الجانب البشري، فنرى وعي الخاطي باحتياجه «فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ»، نراه وهو يتخذ قراره «أَقُومُ»، نراه تائبًا «أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا».  ولكن يجب ألاَّ يغيب عن أذهاننا أنه قبل أن يفعل الخاطي شيئًا من هذه الأشياء الثلاثة كان الله قد سبق وعمل معه.  دعنا لا ننسى أنه في هذا المثل الجميل والمبارك أعطانا الرب يسوع الجانب الإلهي أولاً، قبل أن يذكر الجانب البشري.  لذلك على كل من يرغب في “اتباع خطواته” أن ينتبه لهذا المبدإ.

آرثر بنك