هل حقا قد غاب؟
هل لن أعود أراه يدخل علينا في اجتماع الخدام بهيئته المحببة لقلبي، حيث الجلباب الفضفاض والجسم الممتلئ والقامة القصيرة، ممسكًا بحقيبة كتابه المقدس، ومحاولاً إخفاء ابتسامة حياء كانت تغلبه عند مواجهة المجموع؟
هل لن أعود أسمع تحية محبته الصادقة البسيطة والمحببة لقلبي عندما كان يقولها بلهجته المنياوية: ”إزيك يا أبو يوسف؟“، فأرد بالقول: ”أهلاً يابو داود“؟
نعم، ويا للخسارة! إنها الحقيقة المؤلمة، إنه فعلاً وحقًا قد غاب! وهذا ما بالكاد أصدقه!
والآن، ماذا أقول عنك يا أخي الحبيب بعد أن غبت؟
أقول إن قلبي موجوع في داخلي وأنا أتذكر حديثك لي قبل رقادك بساعات، تعبِّر لي عن محبتك، وتبدي اهتمامك بصحتي وعائلتي. ولا يفوتك أن تسألني سؤالك الذي لم تهمل مرة واحدة أن تسألني إياه: ”ميتى هاتزور عاصم؟“.
أقول لو كنت أعرف أنه آخر حديث، لما كنت جعلتك تنهيه بهذه السرعة. فالآن قد فات الأوان ولا أستطيع أن أحدثك، إذ أنت الآن عند سيدك، مشغولاً بجماله، ومبتهجًا بحلاوة اللقاء به. بل أتخيلك هناك مذهولاً من بهائه، ووجهك ممتلئ بكل علامات الذهول والدهشة، هذه القسمات المحفوظة بل والمحفورة في قلبي، مع اختلاف وحيد هو أنها تخلو الآن بالطبع من أثار التهاب العصب السابع الذي حفر آثاره في وجهك، فقد خلعت التراب يا حبيبي. بل إني أكاد أسمعك مرنمًا بأعلى صوت لك، كما كنت تفعل في مجمع دير البرشا، حتى تبرز العروق في عنقك، أسمعك هاتفًا لحبيبنا: ”هوذا النصف لم أخبر به. زدت عن كل الخبر الذي سمعته عنك في أرضنا“
. أقول إني سأبوح بما في قلبي من نحوك، أقوله عنك الآن بعد أن غبت، وما كنت أجرؤ أن أقوله وأنت بعد بيننا. ولماذا ما كنت أجرؤ؟ لا أعرف لماذا؟ ربما خجلاً من خجلك يا من كنت لا تحب المديح.
أقول عنك يا أخي الحبيب وشريكي الفاضل، لقد كان حضور الجسد فيك ضعيفًا، بل أكاد لا ألمسه أو حتى أراه. وأنا هنا لا أقصد الجسد الذي كنت فيه، بل الجسد الذي كان فيك. فعشرات بل ومئات من الجلسات التدبيرية، ومن الاجتماعات الروحية جمعتنا معًا، وكم يحلو للجسد في هذه وتلك أن يطل برأسه ليكشف عن قبحه، لكن صدقني يا أخي الحبيب إني عاشرتك كل هذه السنين ولم أعرف ملامح الجسد الذي فيك، على الرغم من حفظي الجيد لملامح الجسد الذي كنتَ فيه! وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على وجودك في محضر الله الذي مكَّنك من ضبطه، بل ووضعه في حكم الموت.
أقول عنك يا أخي: إني أحببتك، وأحببت خدمتك، بل شاهد لي الرب أني قبل رقادك بساعات قليلة كنت أكسر الخبز في ”جزيرة شندويل“. وعندما رأيت القرويين البسطاء، وشعرت بعجزي في أن أصل إليهم من أقصر طريق، شعرت بحاجتهم الشديدة لخدمتك، فرفعت قلبي للرب بصلاة حارة قائلاً: يا رب الحصاد، ألا ترسل لنا اثنين أو ثلاثة من عينة أبو داود؟
وأخيرًا أقول عنك يا أخي الحبيب: كم اشتاق أن يكون رحيلي كرحيلك!
رحلت وأنت متغرب في خدمتك فيا للشرف! لم تكن كسولاً ولا مسترخيًا، بل دائمًا عاملاً باجتهاد في عمل سيدك، حتى اللحظة الأخيرة من عمرك كنت قادمًا من خدمة، ومتوجهًا إلى خدمة، فيا لمجدك!
رحلت وأنت بين إخوتك وشركائك في الخدمة، وكأنك كنت تريد أن تفصح عن حقيقة هويتك، فانتماؤك الأول والدائم بل والأبدي هو لعائلة الله التي أحببتها وعشت تخدمها، ولذا رحلت وأنت بينها!
رحلت دون مرض ودواء وأطباء وفحوصات ومستشفيات. رحلت دون رقاد ساعة واحدة في فراش يحرمك من خدمة الحبيب.
نعم يا أخي الحبيب، قلبي موجوع في داخلي على فراقك، ولا يعزيني على فراق أخ حبيب وخادم أمين وشريك مخلص نظيرك سوى هذا اليقين الذي يملأ كل كياني أننا سنلتقي عن قريب. فإلى اللقاء على السحاب.