بما أن الله دعا داود “رجلاً حسب قلبه” (1صم13: 14)، فهذا يُوجب علينا دراسة “قلب داود”، لنرى ما الذي فيه يوافق قلب الله؟
بعد العصيان الصارخ لشاول الملك، أعلن صموئيل له: «وأمَّا الآنَ فَمَمْلَكَتُكَ لاَ تَقُومُ. قَدِ انْتَخَبَ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِه... لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإنْسَانُ. لأَنَّ الإنْسَانُ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (1صم13: 14؛ 16: 7). لقد نظر الله في قلب داود ووجده حسب قلبه، ليس لأنه بلا خطية، بل لأن قلبه كان يتصف بالآتي:
قلب موحد:
كان شاول رجلاً ذا فكر مزدوج، فحاول نيل المجد من الله والناس في الوقت نفسه، الأمر الذي لا يمكن أن يحدث، إذ نسمعه يقول لصموئيل: «وَالآنَ فَأَكْرِمْنِي أَمَامَ شُيُوخِ شَعْبِي وَأَمَامَ إِسْرَائِيلَ, وَارْجِعْ مَعِي فَأَسْجُدَ لِلرَّبِّ إِلَهِكَ» (1صم15: 30). لقد وضع شاول في قلبه أن ينال المجد من الناس، فخسر الاثنين: مجد الناس، والمجد الحقيقي الذي من الإله الواحد. أما داود فوضع قلبه على الله وأراد تمجيده، فمجَّده الله بطريقة فريدة.
لم يرغب داود في أي شرف لنفسه، إنَّما لله وحده. وهذا ما نلمسه في صلاته: «فَلْيُطَارِدْ عَدُوٌّ نَفْسِي وَلْيُدْرِكْهَا، وَلْيَدُسْ إِلَى الأَرْضِ حَيَاتِي، وَلْيَحُطَّ إِلَى التُّرَابِ مَجْدِي»، وختم صلاته برغبته وهي تمجيد الله وحده: «أَحْمَدُ الرَّبَّ حَسَبَ بِرِّهِ. وَأُرَنِّمُ لاِسْمِ الرَّبِّ الْعَلِيِّ» (مز7: 5، 17).
قلب مكرس:
عندما نقرأ المزامير، نكتشف أن داود قد كرس قلبه للرب:
«أَحْمَدُ الرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي. أُحَدِّثُ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ» (مز9: 1) .. «لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ صَخْرَتِي وَوَلِيِّي» (مز19: 14) .. «الرَّبُّ عِزِّي وَتُرْسِي. عَلَيْهِ اتَّكَلَ قَلْبِي فَانْتَصَرْتُ. وَيَبْتَهِجُ قَلْبِي وَبِأُغْنِيَتِي أَحْمَدُهُ» (مز28: 7).
لقد كان قلب داود صبورًا ومنضبطًا، فلم ينتهز الفرص التي سنحت أمامه، ليستعجل مصيره. إلا أنه استلم العرش، ليس فقط بطريقة الله بل أيضًا في توقيت الله. ففي مواقف كثيرة منع رجاله الذين نصحوه بقتل ألد أعداءه؛ شاول الذي كان عليه روح رديء. لقد منع نفسه من انتهاز فرصة وقوع شاول بين يديه مرتين (1صم24؛ 26). فكل ما أرسله الله، قبله داود بالشكر والحمد.
وكم كان قلب داود مرهف الحس، فقد ضربه قلبه عندما قطع طرف جبَّة شاول (1صم24: 4-5). إن أكبر فرح يناله الإنسان، يأتي من تكريس أهم شيء عنده؛ وهو القلب. عندما يكون القلب نقيًا تنفتح الأعين لتري الله أينما ظهر.
قال الرب يسوع: «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ» (مت5: 8). عندما يكون القلب نقيًا تكون الرؤية واضحة، وسوف يرى الإنسان الله. وبما أنه لا يوجد شيء أعظم من الله، فإن رؤية الله لا بد أن تكون أعظم فرح نختبره. رؤية الله هي أعظم بركه يمكن للإنسان أن يحصل عليها. غير أن عصيان شاول المتكرر أعماه عن رؤية: الله .. الظروف .. صموئيل .. وداود. بعكس داود الذي رأى الله في الخليقة والظروف، لأنه امتلك قلبًا نقيُا وعينًا موحَّده.
ففي مزمور 29 أُظهِر مجد الله في عاصفة رعدية، ورأى داود عاصفة تجتاح أعلى الجبال، ولكنه لم ير العاصفة فقط، لقد رأى الله فيها. وكان الرعد هو صوته، والمياه الثائرة هي عرشه. وبدلاً من الخوف لرؤية الأشجار تتحطم تحت عصف الرياح وارتفاع الأنهار، صرخ داود: «الرَّبُّ بِالطُّوفَانِ جَلَسَ، وَيَجْلِسُ الرَّبُّ مَلِكًا إِلَى الأَبَدِ» (مز29: 3-10).
يوضح مزمور 23 رؤية داود لله في ظروف حياته المتنوعة. لأن حياة داود لم تكن مجرَّد سلسلة حوادث، إنَّما مجموعة مواعيد! فلقد كان “الراعي” مُسيطرًا على كل شيء في حياته. فحتى في تيهانه وفي ظروفه المؤلمة، ظلَّ يرى الله الذي “يرد نفسه وينعشه”. وعندما نظر للخلف رأى الله: «خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي». وعندما نظر للأمام، رأى الله «وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأَيَّامِ» (مز 23: 6). وعندما نظر حوله، حتى في وادي ظل الموت، رأي الله: «أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي». وجدير بالملاحظة أن داود في العددين 2، 3 أشار للرب بضمير الغائب: “هو” ، ولكن في العددين 4، 5 خاطب الرب بضمير المخاطب: “أنت”.
عندما يبدأ الإنسان رؤية الله، يبدأ رؤية ما يراه الله أيضًا، ويبدأ رؤية نفسه في ضوء مجد الله. البصر الروحي يؤدي إلي بصيرة روحيِّة. فإنه لا يرى نفسه فقط في ضوء جديد، ولكنه يرى الآخرين أيضًا في ضوء جديد. ترى العين ما يحبه القلب. فإذا أحب القلب الله وكان موحدًا في هذا ومخلصًا، فسوف ترى العين الله. ولا شيء يسلب القلب بصيرته الروحية كالخطية. إن عصيان شاول المتكرر أعماه عن رؤية الله. ولأن داود امتلك قلبًا نقيًا، رأى الله في الخليقة والظروف.
أهم جانب في حياتنا هو الجانب الذي يراه الله وحده، فهو يعلم إذا كان قلبنا نقيًا أم لا. وهو يريده نقيًا، لأنه هكذا فقط نستطيع أن نراه، وفي رؤيته نستمتع بكل ما هو عليه، ونحظى بكل ما عنده.
قلب ثابت:
تغنَّى داود قائلاً: «ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اللهُ ثَابِتٌ قَلْبِي. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ» (مز57: 7). لقد كتب داود هذا المزمور عندما كان مختبئًا في الكهف، هاربًا من غضب شاول. وقد أظهر قلبه الثابت عادة الحمد المتأصلة داخله. فلم يكن قلبه مرتعبًا ولا مرتجفًا بل ثابتًا وقويًا. فحمْدُهُ في ظل هذه الظروف كان معتمدًا علي أشياء أكبر من سعادة مؤقتة وظروف متقلِّبة. فهو حمد مبني على مبدأ وليس مجرَّد حماس عاطفي، حمد غلب اعوجاج ونباح البشر، حمد أصبح منهاج حياة، شغله الشاغل. لقد حمد داود الله عندما كان كلٌّ من عرشه وحياته في خطر!
قلب نزيه:
امتلك داود قلبًا نزيهًا، ونزاهته هي التي جعلته ملكًا ناجحًا، وكان عدم نزاهة شاول هي التي أفسدته. فقد رفض الله شاول من أن يكون ملكًا ولكن «اخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ الْغَنَمِ. فَرَعَاهُمْ حَسَبَ كَمَالِ قَلْبِهِ وَبِمَهَارَةِ يَدَيْهِ هَدَاهُمْ» (مز78: 70، 72). فكانت نزاهة القلب هي ما حرص عليه داود، وظهر ذلك في كثير من مزاميره: «الرَّبُّ يَدِينُ الشُّعُوبَ. اقْضِ لِي يَا رَبُّ كَحَقِّي وَمِثْلَ كَمَالِي الَّذِي فِيَّ» (مز7: 8). «يَحْفَظُنِي الْكَمَالُ وَالاِسْتِقَامَةُ لأَنِّي انْتَظَرْتُكَ» (مز25: 21). «اِقْضِ لِي يَا رَبُّ لأَنِّي بِكَمَالِي سَلَكْتُ، وَعَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ بِلاَ تَقَلْقُلٍ» (مز26: 1). «أَمَّا أَنَا فَبِكَمَالِي دَعَمْتَنِي وَأَقَمْتَنِي قُدَّامَكَ إِلَى الأَبَدِ» (مز41: 12).
إن نزاهة القلب تُصان بالأمانة مع الله، ومع الآخرين، ومع أنفسنا، وفي البحث عن تمجيد الله وحده. وبدراستنا لحياة داود نرى شخصًا أراد العيش بأمانة وشفافية أمام الله. فما من مرَّة صلى إلا وكان يعني ما يقول. فإذا كان خائفًا، أو مريضًا أو مُحبطًا، كان يعترف بذلك. ففي أحد مزاميره صرخ قائلاً: «اسْتَمِعْ لِي وَاسْتَجِبْ لِي. أَتَحَيَّرُ فِي كُرْبَتِي وَأَضْطَرِبُ مِنْ صَوْتِ الْعَدُوِّ مِنْ قِبَلِ ظُلْمِ الشِّرِّيرِ. لأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ عَلَيَّ إِثْمًا وَبِغَضَبٍ يَضْطَهِدُونَنِي» (مز55: 2- 3). كان داود في الكهف عندما كتب: «أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ. بِضِيقِي قُدَّامَهُ أُخْبِرُ. عِنْدَ مَا أَعْيَتْ رُوحِي فِيَّ وَأَنْتَ عَرَفْتَ مَسْلَكِي» (مز142: 2- 3). تَخَيَّل الشكوى إلي الله! كان داود أمينًا مع الله وهذا ما أبقي نزاهته. كان رجلاً حسب قلب الله.
قلب شجاع:
قُرب الفلسطينيين وعداوة شاول منحا داود الفرصة ليُظهر شجاعته الطبيعية والأدبية. فقَبْل أن يُقابل جليات. اُثبتت شجاعة قلبه بنصرته علي الأسد والدب. إن تحديه للعملاق كشف عن قلب واثق في الله، خالٍ من الخوف. كما أن هدوءه - عدا مناسبة أو اثنتين عندما ضعف إيمانه - تجاه الاعتداءات المستمرة من خصمه المتصلِّب شاول؛ أثبت أيضًا صفاءه الداخلي وشجاعته، اللذين بهما ربح ولاء الأمة بأكملها.
قلب متواضع:
توجد عدة أمثله لتواضع القلب في حياة داود. فقد قال مرَّة للملك شاول: «مَنْ أَنَا؟ وَمَا هِيَ حَيَاتِي وَعَشِيرَةُ أَبِي فِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَكُونَ صِهْرَ الْمَلِكِ؟!» (1صم18: 18). وبعدما صنع الرب ميثاقًا مع داود، قال: «مَنْ أَنَا يَا سَيِّدِي الرَّبَّ؟ وَمَا هُوَ بَيْتِي حَتَّى أَوْصَلْتَنِي إِلَى هَا هُنَا؟» (2صم7: 18). لم يستعمل داود مركزه ليرفع نفسه؛ ولكنه ترك الله يُرفِّعه في توقيتاته وبطريقته: «وَكَانَ دَاوُدُ مُفْلِحًا فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ وَالرَّبُّ مَعَهُ» (1صم18: 14).
قال أندرو مورىّ: التواضع لا يعني التفكير في النفس باحتقار؛ إنه ببساطه يعني عدم التفكير في النفس على الإطلاق. التواضع يعني أن تقبل: نفسك، والآخرين، والظروف، وإرادة الله لحياتك. الرجل المتواضع هو الذي له وجهة نظر سليمة تجاه الأشياء. إن الرجل المتكبِّر مملوك للأشياء، بينما الرجل المتواضع يملك الأشياء ويستخدمها لصالح الآخرين ومجد الله.
التواضع إحدى صفات: الآب: «مَنْ مِثْلُ الرَّبِّ إِلَهِنَا السَّاكِنِ فِي الأَعَالِي النَّاظِرِ الأَسَافِلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ!» (مز113: 5، 6)؛ والابن: «وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ، مَوْتَ الصَّلِيبِ» (في2:8)؛ كما ثبت تواضع الروح القدس في حقيقة العيش في المؤمنين الضعاف.
إن خطية التكبر دمَّرت حياة كثيرين أكثر من أية خطية أخري. إنها أكبر خطيه يكرهها الله، هي الخطية التي أدت إلي سقوط “الكروب المنبسط المظلل” وجعلته الشيطان. هي الخطية التي كلَّفت شاول شخصه، عرشه، وأخيرًا حياته. أمَّا التواضع فهو النعمة التي جعلت داود ملكًا؛ فقد حصل علي مملكته لكونه يشعر أنه لا شيء!
قلب وديع:
أغلب الناس لديهم انطباع أن الوداعة هي الضعف. ولكن الوداعة ليست الضعف، إنَّما هي قوة تحت السيطرة. لا يستطيع أحد أن يتَّهم الرب يسوع بالضعف والجبن، فهو أشجع إنسان عاش على وجه الأرض، ورغم ذلك قال عن نفسه: «لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ» (مت11: 29).
لقد امتلك داود قلبًا متواضعًا. فأعظم انتصاراته لم تكن بيديه ولكن بقلبه. فلقد وُضع شاول تحت رحمته مرتين (1صم24، 26)، وكان لديه الإمكانية أن يقتله، ولكنه أبقى قوته تحت السيطرة. فنظير الرب يسوع، كان داود متواضعًا. موقف آخر يوضِّح تواضعه بصوره جليَّة. عندما سبَّ رجل من رجال شاول – شمعي - داود ورشقه بالحجارة (2صم16: 5-8). عرض أبيشاي ابن أخت داود أن يقتل شمعي، ولكن داود رفض وقال: «مَا لِي وَلَكُمْ يَا بَنِي صَرُويَةَ؟ دَعُوهُ يَسُبَّ»، هذه هي القوة المُسيطَر عليها – هذه هي الوداعة!
كان من الممكن أن يقتل داود شاول عندما وقع بين يديه في الكهف، وكان من الممكن أن يقتل شمعي أيضًا. لكنه لم يفعل هذا أو ذاك، لقد كان كلٌّ من داود وشاول يمتلكان قوة، ولكن قوة داود كانت تحت السيطرة، إذ كان متواضعًا. لقد استخدم داود سلطته ليعزِّز الشعب، ولكن شاول استخدم الشعب ليعزز سلطته. أراد شاول أن يقتل ابنه يوناثان كأمر بديهي، فقط ليظهر للناس مدي قوته (1صم14: 36- 45)! لكن داود كان مستعدًّا للموت من أجل ابنه علي الرغم أن أبشالوم كان متمرِّدًا وتآمر على قتله (2صم18: 33)!لقد كان حقًّا قلب داود: مُكرَّسًا، وموحَّدًا، وشجاعًا، وصبورًا، ومتواضعًا، وحساسًا، ووديعًا، ومسامحًا. لقد كان حقًّا رجلاً حسب قلب الله.