يوحنا 8
عرفنا من دراستنا السابقة في إنجيل يوحنا أن الإنجيل يشتمل على ثلاثة أحاديث للمسيح تضمنت إشارات مستفيضة عن موته، وهذه الأحاديث وردت في يوحنا 6؛ 10؛ 12. حديث يوحنا 6 هو أعظم تلك الأحاديث وأشملها، وهي ما درسناه في ما سبق؛ وأما في يوحنا10، فإننا نقرأ عن أسمى الأحاديث وأعلاها عن موته، كما وعن إقامته لنفسه من الأموات. وأخيرًا في يوحنا 12 نجد أوضح الأحاديث عن الموت، وفيها تركيز لافت في كل الفصل على موته، وشرح لكيفية حدوثه. على أننا قبل الخوض في حديث يوحنا 10، سنتوقف في هذا العدد لنتحدث عن إشارة قصيرة، ولكنها غنية، عن موت المسيح، وهي تلك التي وردت في يوحنا 8. وهذا الفصل يشتمل على الحديث الرابع للرب مع اليهود، بعد أحاديثه معهم المسجلة في الأصحاحات 5؛ 6؛ 7. ونلاحظ في هذا الفصل أن عداوة اليهود من نحو المسيح بدأت تأخذ شكل المقاومة العلنية السافرة، والرغبة الحميمة في التخلص منه بأي ثمن. لذا فإننا نجد في الفصلين 7؛ 8 تكرارًا ثلاثيًا للعبارة «لم يلق أحد عليه الأيادي»، «لأن ساعته لم تكن قد جاءت» (7: 30، 44؛ 8: 20). مما يدل على أن عدم القبض عليه لم يكن مرجعه احترامهم لسمو شخصه ومجده، ولا تقديرهم للطفه تجاههم ونعمته؛ فالعداوة كانت مستعرة، وما كان يوقفها أي شيء، سوى أن الساعة المحددة في المقاصد الأزلية لم تكن قد جاءت بعد. إن الثيران الشرسة كانت متحفزة للانقضاض على فريستها، تريد أن تفتك بها، وكان هناك لجام يمنعها. وما أن تم فك هذا اللجام، حتى نهشت تلك الثيران المسعورة - ما شاء لها النهش- في فريستهم الوديعة! نعم إن الأصحاحين 7، 8 من إنجيل يوحنا يعتبرا أكثر الفصول في كل الكتاب شرحًا لمدى رفض اليهود للمسيح، وفيهما نرى بصورة لم تتكرر، كيف أن سُحب العداوة والبغضاء نحوه كانت كثيفة فوقه. وهاك بعض العينات من الأقوال التي وردت في هذين الفصلين: «وَكَانَ يَسُوعُ يَتَرَدَّدُ بَعْدَ هَذَا فِي الْجَلِيلِ، لأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي الْيَهُودِيَّةِ، لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ» (7: 1). «لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟ أَجَابَ الْجَمْعُ: «بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟» (7: 19، 20) «فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟» (7: 25) «فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ» (7: 30). «سَمِعَ الْفَرِّيسِيُّونَ الْجَمْعَ يَتَنَاجَوْنَ بِهَذَا مِنْ نَحْوِهِ فَأَرْسَلَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ خُدَّاماً لِيُمْسِكُوهُ» (7: 32) «وَكَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَكِنْ لَمْ يُلْقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ. فَجَاءَ الْخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هَؤُلاَءِ لَهُمْ: «لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟» أَجَابَ الْخُدَّامُ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ». فَأَجَابَهُمُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلْتُمْ؟ أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟ وَلَكِنَّ هَذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ» (7: 44-49). «هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ» (8: 20). «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ» (8: 39، 40). «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي» (8: 44، 45). «فَقَالَ الْيَهُودُ: «أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ لَكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي» (8: 48، 49). «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ». فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هَكَذَا» (8: 58، 59). **** وأما الآية التي أريد أن أتوقف عندها فهي ما ورد في ع 28 من قول المسيح لليهود: «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ» خلفية هذه الآية قبل الحديث عن الآية السابقة يحسن أن نلقي نظرة خاطفة على القرينة التي وردت فيها: «فَقَالَ لَهُمْ: « أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. فَقُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ. إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ». وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآبِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي» (8: 23-28) . والمسيح في هذه الأقوال كان يضع ثقلاً خاصًا على سمو شخصه، وأهمية لا تبارى على الإيمان به، إلى الدرجة التي فيها قال لليهود: «لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (ع24). هكذا إلى هذه الدرجة. فكل أعمال برهم المزعوم لا يُلتفت إليها مطلقًا، بل إنهم هم أنفسهم مرفوضون إن كانوا لا يؤمنون بمن هو. وواضح إنه لا يمكن أن يكون لمجرد نبي، ولا حتى مخلوق - كائنًا من كان - أن يقول مثل هذا القول: إن عدم الإيمان بحقيقة شخصه تجعل الشخص يموت في خطاياه، ولا يكون له أدنى أمل في الخلاص على الإطلاق. على أن الرب الحنان كان متأسفًا كل الأسف على جهلهم الإرادي، ورفضهم بإصرار - لضرر أنفسهم - معرفة حقيقة شخصه. ومن هنا جاءت الآية موضوع حديثنا: «مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ». ولاحظ بداية قول المسيح لليهود ”متى رفعتم“. هو لم يقل لهم: ”إذا رفعتم“، كأن هذا قد يحدث أو لا يحدث. صحيح كانت قد سبقت عدة محاولات للقبض عليه، باءت كلها بالفشل، ولكن الرب كان يعلم النهاية من البداية، وعرف أنه متى أتت الساعة، بحسب مشورة الله المحتومة وعلمه السابق، فهم حتمًا سيرفعون ابن الإنسان، أي سيصلبونه. والترجمة الدقيقة هنا تختلف عما ورد في ترجمتنا العربية الشائعة، ”ترجمة فاندايك“. فالمسيح لم يقل: ”متى رفعتم ابن الإنسان، تفهمون أني أنا هو“. فالترجمة الدقيقة للكلمة اليونانية المستخدمة هنا هي ”تعلمون“ وليس ”تفهمون“. وذلك لأن حقيقة أن المسيح هو يهوه السرمدي هي سر فوق الأفهام، ولن يمكنهم هم ولا غيرهم فهمه، ولو أنهم سيعلمون بالأدلة الدامغة أنه لم يكن إنسانًا عاديًا، بل كان كما قال لهم مرارًا. نعم «متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ (تعلمون) أني أنا هو». ليس معنى ذلك بالضرورة أن الصليب سيربح قلوبهم، أو أنه سيقودهم إلى التوبة والإيمان، بل إن العبارة تعني أن الأمور التي صاحبت الصليب، من أعاجيب الجلجثة وقت صلب المسيح، ولا سيما تلك التي حدثت عندما أسلم الروح، ثم قيامته من بين الأموات في اليوم الثالث (قارن رو1: 4)، هذه كلها أمدتهم بأدلة قاطعة على أنه هو الله، كما سبق وذكر لهم مرارًا. نعم لقد حصل هؤلاء الأشرار على أدلة وبراهين دامغة لن يستطيعوا التنصل منها في يوم الافتقاد، ولن يمكنهم بإزائها ذكر سبب معقول لعدم قبولهم له على أنه المسيا. والمسيح بقوله هنا: «متى رفعتم ابن الإنسان»، يقصد أنكم عندما تتخلصون مني بالموت، وتظنون أنكم ستبدأون الراحة، عندئذ ستأتيكم الأخبار اليقينية، أنني قمت من الأموات (مت28: 6). هذه الأخبار الرائعة، كانت كافية لأن تعيد الحياة لأرواح تلاميذه الحزانى، كما حدث قديمًا مع يعقوب عندما سمع الخبر أن ”يوسف حي بعد، وهو متسلط على أرض مصر“ (تك45: 26). نعم إن هذه الأخبار أعادت إلى نفوسهم اليائسة الحياة، وإلى قلوبهم البائسة الحرارة، وإلى ثغورهم الحزينة البسمة الضائعة؛ لكنها في الوقت ذاته كانت سبب إزعاج ورعب ليس بقليل، لقادة الأمة الأشرار، وأكدت أنه هو الله كما قال مرارًا. لقد أخرست قيامة المسيح ألسنة القادة بأسلوب لم يحدث من قبل. حقًا إنه لا حد لغباء عدم الإيمان. ورغم هذا الغباء فإنهم سيدركون، ولكن بعد فوات الأوان - سيكتشفون الحقيقة متأخرًا. وما أخطر أن تصل المعرفة متأخرة لقوم، عندما يغلق الكبرياء البشري الباب أمامهم، فلا يقبلوا محبة الحق! إنهم يكونون في وضع أسوأ ممن يقدِّر الثروة بعد ضياع آخر قرش في جيبه، أو من يقدر الصحة بعد أن تضيع منه تمامًا، ويُبتلى بالأمراض. وإن كان البعض من الكهنة آمن فعلاً، ولكن الأكثرية الساحقة ظلت على عدم الإيمان به، إذ أصابها العمى القضائي، فزادت قساوتها. ثم إن الدينونات التي انصبت على الأمة الرافضة جعلت كل عاقل ومفكر يراجع نفسه فيعرف أن يسوع هو بالحقيقة الرب. وهو ما تم بأسلوب فردي مع البعض خلال فترة النعمة الحاضرة، وسيتم بصورة أكبر بعد الاختطاف، وأما الأمة بصفة عامة فقد وقع عليهم ما يسمى في النبوات ”روح سبات“.