الصورة الخامسة: شبع وشوق
«حَبِيبِي لِي وَأَنَا لَهُ الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ. إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ ارْجِعْ وَأَشْبِهْ يَا حَبِيبِي الظَّبْيَ أَوْ غُفْرَ الأَيَائِلِ عَلَى الْجِبَالِ الْمُشَعَّبَةِ» (نشيد 2: 16، 17).
في الآيات السابقة للآيات التي نتأملها الآن، ترد زيارة الحبيب لمحبوبته، ودعوته لها لكي تريه وجهها وتسمعه صوتها (نش2: 12). ورأينا فيها - في تأملاتنا السابقة - أشواق المسيح لكنيسته لكي يراها في الاجتماع إلى اسمه، وليسمع صوتها أيضًا. ونتج عن ذلك مباشرة أشواق الحبيبة إلى محبوبها، صورة لأشواق المؤمنين إلى ربهم وسيدهم، وتغنيهم - كما سنرى الآن - بحلاوة تلك اللحظات المنعشة التي نتمتع فيها بالوجود في محضره.
لكن بين هاتين الصورتين تأتي هذه الأقوال المقدسة: «خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة الكروم، لأن كرومنا قد أقعلت» (ع15).
وإن كانت الكروم تحدثنا عن الأفراح. فإن أردنا أفراحًا في الاجتماع علينا أن نحترس من الثعالب الصغار المفسدة الكروم. لاحظ التعبير “الثعالب الصغار”. وكم من خطايا صغيرة ممكن أن تفسد أفراحنا بالرب. أ لم نختبر جميعنا أننا إذا أحزنا الروح القدس خارج الاجتماع، وإن أطفئناه داخل الاجتماع، تغيب أفراحنا ونحن في محضر الرب؟ ما أخطر أن نعمل ما لا يريدنا الروح القدس أن نعمله (فنحزنه)، وألا نعمل ما يريدنا أن نعمله (فنطفئه)! ثم ما أخطر أيضًا إفساد نقاوة التعليم وروحانية السجود وبساطة الترتيب! وما أخطر أن نفسد وحدانية الروح بوجود تحزبات وانقسامات وسط جماعة القديسين!
من ثم نصل إلى الآيتين موضوع تأملنا، وفيهما نجد:
في ع16 الإيمان؛
وفي ع17 الرجاء
وفي كلى العددين نجد المحبة.
وهكذا فإن الاجتماع إلى اسم الرب ينطلق من الإيمان، ويختم بالرجاء، وطابعه المحبة.
تقول العروس: «حبيبي لي وأنا له، الراعي بين السوسن» (ع16)
“حبيبي لي”: هذا ما يعرفه جيدًا أصغر مؤمن، فهو يعرف أن الرب كان له فوق الصليب، عندما حمل خطاياه، ويعرف أيضًا أنه الآن في قمة المجد، جالس عن يمين العظمة لكي يشفع لأجل المؤمنين، وهو له عندما يأتي ليأخذنا إليه إلى بيت الآب. كما أنه لنا في مختلف ظروف الحياة، “فلا نخاف ماذا يصنعه بنا الإنسان؟» (مز56: 11؛ عب13: 6).
رائعة هذه الكلمات التي نرى فيها لغة التخصيص:هو لي وأنا له، وليس فقط نعرف بعضنا. ثم إنها ليست فقط علاقة شخصية متبادلة، بل أيضًا علاقة روحية، حبية، ثابتة، وغنية.
لكن دعنا نربط ذلك بالاجتماع إلى اسمه. فعندما تقول المحبوبة: «حبيبي لي، وأنا له»، ونربط ذلك بأيام الكنيسة الأولى الزاهرة، كما نقرأ عنها في سفر الأعمال، يمكننا أن نقول: إن أشياء كثيرة، قيِّمة وعظيمة، ضاعت منا، ويستحيل استعادتها. فأيام القوة العظيمة كما كانت في أيام الكنيسة الأولى، ولت ولن تعود ثانية (أع4: 33؛ 5: 12-16). وليس هناك الوحدة الرائعة عندما كان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، وكان كل شيء بينهم مشتركًا (أع2: 44-46؛ 4: 32)، هذه أيضًا ضاعت ولن تعود. لكن هناك شيء لا يمكن أن يضيع، والحمد لله إنه أهم كل هذه الأشياء أعني به شخص المسيح ووعده الكريم بالحضور في الوسط. لذلك ما أجمل القول: “حبيبي لي”.
نعم «حبيبي لي وأنا له». هذا ما لا تقدر الملائكة السماويون أن يقولوه. فعلاقتنا نحن بالمسيح أعظم من علاقة الملائكة القديسين الذين لم يخطئوا، فلقد صرنا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه. ولم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه، كما الرب أيضًا للكنيسة (أف5: 29). وقديمًا أحد الملوك الأشرار، وما أكثرهم في كل زمان ومكان، قال لملك آخر: «لي فضتك وذهبك، ولي نساؤك وبنوك الحسان» (1مل20: 3). ولكن ليس سوى المؤمن، حتى لو كان لا يملك من حطام هذه الدنيا شيئًا، يستطيع أن يقول: “حبيبي لي”. إنه “المسيح يسوع ربي”. الذي “كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان”؛ الذي “الكل به وله قد خلق”؛ الواحد مع الآب والروح القدس؛ معبود الملائكة، هو الذي في نعمته يحضر وسط اجتماعات القديسين.
ثم تردف المحبوبة قائلة: “الراعي بين السوسن”: إنها تركز فكرها على خدمته كالراعي، أي الذي يُطعم قطيعه. وأين نتمتع بإطعام الراعي لنا، وإرباضه للغنم مستريحة بعد شبعها، مثل ما يحدث في الاجتماع إلى اسمه.
إنه يرعى بين السوسن. ألم يقل في بداية هذا الأصحاح «كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات» (ع2). فقديسوه إذًا هم السوسن. ها هو يرعى بين السوسن. بمعنى أنه يجمع إليه قديسيه، ويحضر هو في الوسط، ويتولى بنفسه إطعام قديسيه.
ثم تسترسل العروس فتقول: «إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال ارجع وأشبه يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة».
آه، ما أكثر الظلال في حياتنا! الظلال من العالم وماديته الذي كثيرًا ما طغى علينا، ومن الخطية الساكنة فينا، والتي كان ينبغي ألا نسمح لها بأن تعمل، ولكنها كثيرًا ما خدعتنا وقطعت شركتنا مع الحبيب. وظلال من الجسد وتدخله حتى في العبادة في الاجتماع. وظلال من اللحم والدم والضعف المرتبط بأجسادنا الترابية الهشة التي ما أقل ما تتحمل، وينطبق علينا القول: «أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف». وفي حياتنا ما أكثر ضباب الحيرة وظلال الشك! ثم إننا نسير الآن “في وادي ظل الموت” (مز23: 4)، كما أننا “ننظر الآن في مرآة في لغز” (1كو13: 12). هذه كلها ستنتهي عندما يأتي المسيح. وعن قريب جدًا سيفيح النهار، وستنهزم الظلال، وسوف نكون مثله، لأننا سنراه كما هو (1يو3: 2).
لكن العروس تقول له: «إلى أن يفيح النهار..ارجع وأشبه يا حبيبي الظبي». سبق أن قال هو لها: “قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي” (ع10، 13)، وها هي هنا ترد عليه قائلة: “ارجع يا حبيبي” (ع17). أي إلى أن يتحقق الرجاء السعيد بمجيئك، فإننا نرجو الآن أن نراك يا حبيب.
والمسيح إن كنا لا نراه بعيوننا الآن، لكن نراه بالروح القدس الساكن فينا (يو14: 19). لقد وعد أنه سيأتي ثانية، لكن إلى أن يجيء شخصيًا، وعد أن يمتعنا به بالروح. فما أعظم نصيب المؤمن بالمسيح: بالروح الآن، وعن قريب بالعيان!
إن العروس هنا كأنها تقول: “أريد أن تصل السماء إليّ، قبل أن أصل أنا إليها”. وكيف كان يمكن أن يتم هذا بالنسبة لعروس سفر النشيد؟ هذا شبه مستحيل، ولكنه بالنسبة لنا متاح، والاجتماعات إلى اسمه تمتعنا في ليل غيابه بالالتقاء معه.
«ارجع واشبه ياحبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة». وتعبير “الجبال المشعبة” هو في الأصل العبري: جبال “باثر”. وتعني جبال الانفصال. وقد ردت الكلمة عينها في تكوين 15، عندما شق إبراهيم الذبائح، وجعل كل شق مقابل صاحبه. وقد توحي تلك الجبال بانفصالنا عمن نحب، لكن قريبًا سينتهي هذا الانفصال، «وهكذا نكون كل حين مع الرب» (1تس4: 17).
ستكون هناك مصاعب جمة (جبال) قبل أن يأتي الحبيب إلينا، وليس فقط جبال، بل جبال مشعبة، أي ذات دروب صعبة ومحيرة. فماذا نحن فاعلون؟ يقول الرسول: «غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة، وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب» (عب10: 25).
وحتى يأتي ذلك اليوم السعيد فإن العروس محبوبها “إلى أن يفيح النهار ارجع”. إن أشواقنا ليوم اللقاء تزيد تعلقنا بالاجتماع إلى اسمه، وتمتعنا بمحضر الرب يزيد أشواقنا ليوم اللقاء.