ذكرنا في ما سبق أن إنجيل يوحنا يبرز في أصحاحاته الأولى ثلاث إشارات عن موت المسيح، الأولى عن عظمة العمل (1: 29)، والثانية عن سمو الشخص الذي قام بالعمل (2: 18-22)، والثالثة عن حتميته وكيفية حدوثه (3: 14). أو بالحري يبدأ بالحديث عن النتيجة المجيدة لموت المسيح: ”رفع خطية العالم“ (1: 29)؛ ثم الطريقة الفريدة: ”نقض الهيكل وإقامته في ثلاثة أيام“ (2: 18)؛ وأخيرًا الكُلفة الفائقة: ”رفع ابن الإنسان“ (3: 14، 15). تليها ثلاثة أحاديث مستفيضة عن موت المسيح وردت في ثلاثة فصول هي يوحنا 6؛ 10؛ 12. وكما أن يوحنا 1 نجد فيه إشارة إلى ”دم المسيح“؛ ويوحنا 2 إشارة إلى ”موت المسيح“؛ ويوحنا 3 إشارة إلى ”صليب المسيح“، هكذا أيضًا في الأحاديث التي تلت، ينفرد يوحنا 6 بالحديث عن دم المسيح، ويوحنا 10 يتضمن أروع حديث عن موت المسيح، لأجل الآب ولأجل الخراف؛ ثم يوحنا 12 يحتوي على إشارة واضحة عن صليب المسيح، إذ قال السيد له المجد: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع. قال هذا مشيرًا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت» (12: 32، 33).
ويعتبر يوحنا 6 أعظم هذه الأحاديث الثلاثة عن موت المسيح، إذ يحتوي هذا الفصل – الذي هو أطول أصحاحات إنجيل يوحنا - على أوضح الإعلانات التي نطق بها المسيح أمام الجموع عن مجد شخصه العظيم، كما ونرى فيه أوضح رفض من الجموع على أي من عظاته.
لا غرابة إذًا أن يكرر المسيح في هذه العظة عبارته الشهيرة ”الحق الحق أقول لكم“ 4 مرات. وهذه العبارة تحمل دلالتين: أولاهما عظمة محتوى ما نطق به المسيح في كلامه التالي، الأمر الذي جعله يؤكد أقواله بعبارة ”الحق الحق“؛ والدلالة الثانية أن الجموع كانوا مترددين في تصديق ذلك الإعلان.
كان الفصح.. قريبًا
يبرز يوحنا أن أحداث هذا الفصل كانت بالارتباط بعيد الفصح (ع4)، الذي هو أول الأعياد اليهودية. والفصح – كما نعلم - رمز جميل وواضح لموت المسيح لأجلنا (1كو5: 7). والشعب قديمًا في الفصح الأول، احتمى في دم الحمل، وتغذى على لحمه، وكانوا بذلك في شركة مع الذي أعطاهم الأمان. والمسيح في هذا الأصحاح سيتحدث لا عن موته فحسب، بل وعن سفك دمه أيضًا، والثبات فيه وهو فينا، بما يتمشى مع ”عيد الفصح“.
الشعب قديمًا في الفصح الأول، احتمى في دم الحمل، وتغذّى على لحمه، وكانوا بذلك في شركة مع الذي أعطاهم الأمان. والمسيح في هذا الإصحاح سيتحدث لا عن موته فحسب، بل وعن سفك دمه أيضًا، والثبات فيه وهو فينا
وليمكننا أن نفهم كلام المسيح في هذا الفصل بصورة أفضل، يلزمنا أن نأخذ فكرة سريعة عن هذا الأصحاح.
يحتوي هذا الأصحاح على ثلاث ثنائيات هامة:
فهو في بدايته (ع1-21) يذكر لنا معجزتين عظيمتين أجراهما المسيح، وهما معجزة تكثير الخبز (ع1-15)؛ ومعجزة السير فوق الماء، وتهدئة عاصفة البحر (ع16- 21).
وفي منتصفه (ع22-59) يحتوي على حديثين للرب، الحديث الأول قدمه للجموع الذين كانوا قد أكلوا في اليوم السابق من الأرغفة والسمكتين التي باركها المسيح، فأشبعت الآلاف؛ فكانت النتيجة أن سعوا وراءه في اليوم التالي طمعًا في أكلة أخرى، وقد تم هذا الحديث في الهواء الطلق (ع24-40). وأما الحديث الثاني فقد قدمه المسيح لليهود في مجمع كفرناحوم (ع41-59).
ويختم الفصل (ع60-71) بنتيجتين مختلفتين لحديثي الرب، النتيجة الأولى هي تعثُّر كثير من التلاميذ وتركهم للمسيح نهائيًا (60-66)؛ والنتيجة الثانية هي اعتراف الاثنى عشر مجددًا بمجد المسيح وعدم استعدادهم للتخلي عنه، وهو ما عبَّر عنه بطرس نيابة عن الباقيين (ع67-71).
الآية وشرحها:
يسير هذا الأصحاح على ذات النهج الذي يُميِّز يوحنا في إنجيله، فهو عندما يذكر واحدة من آيات المسيح، يتبعها بحديث لشخصه الكريم، فيه يستخدم المسيح الآية التي عملها، كوسيلة إيضاح لإظهار مجده. هكذا هنا فإن الرب بعد إشباعه للجموع في معجزة تكثير الأرغفة والسمك، شرح للجموع في حديثيه معهم المعنى الروحي لتلك المعجزة، إذ أشار إلى نفسه باعتباره ”خبز الحياة“.
لقد كانت الأرغفة التي كسرت فوق الجبل، في الجليل (ع1، 3)، صورة لكسر جسد المسيح فوق الصليب لإشباع العالم كله. والمسيح بعد هذه المعجزة صعد منفردًا فوق الجبل ليصلي، صورة لخدمته الشفاعية الآن لأجل قديسيه الذين يعبرون بحر هذا العالم العاصف في الليل المخيف، بمفردهم. فهو الآن لا علاقة له باليهود، ولا بآمالهم الأرضية، بل إنه يعطي الحياة الأبدية، على أساس موته وقيامته، لكل من يؤمن به. ولهذا فإن المسيح يشرح في حديثه الذي يشغل معظم الأصحاح ما يعمله في الوقت الحاضر، وعلى مدى نحو ألفي عام، في خلال فترة عدم إيمان اليهود به، ورفضهم إياه.
لقد استخدم المسيح خمسة تعبيرات مختلفة عن الخبز (تذكِّر بالأرغفة الخمسة المستخدمة في المعجزة) كلها تشير إلى شخصه، فقال عن نفسه إنه ”الخبز الحقيقي“، و ”الخبز النازل من السماء“، و ”خبز الله“، و ”خبز الحياة“، و ”الخبز الحي“
وحديثا الرب في هذا الفصل مع الجموع كانا في صورة حوار، وليس في صورة عظة أو حديث من جانب واحد. فهم كانوا يسألونه، والمسيح كان يجيبهم. وفيه نقرأ عن سبعة حوارات بين اليهود والمسيح، قدموا له خلالها أربعة أسئلة مباشرة، بالإضافة إلى ثلاثة أسئلة استنكارية كانت تذمرًا فيما بينهم، رددها اليهود داخل نفوسهم، وأجاب الرب على الاستفسار والاستنكار.
خبز الحياة
وفي حوار الرب مع هؤلاء اليهود يرد تعبير ”الخبز“ 12 مرة، ولهذا فيمكن أن نسمي هذا الحديث بحديث ”خبز الحياة“. ولقد استخدم المسيح خمسة تعبيرات مختلفة عن الخبز (تذكِّر بالأرغفة الخمسة المستخدمة في المعجزة) كلها تشير إلى شخصه، فقال عن نفسه إنه ”الخبز الحقيقي“، و ”الخبز النازل من السماء“، و ”خبز الله“، و ”خبز الحياة“، و ”الخبز الحي“. وهي كلها تحدثنا عن مجد شخصه الكريم.
أولاً: ”الخبز الحقيقي“ (ع32): فكل ما عداه ليس حقيقيًا، بل وهم وزيف، أو في أحسن صوره هو عرضي ومؤقت وزائل، أما المسيح فإنه وحده ”الخبز الحقيقي“.
ثانيًا: هو ”الخبز النازل من السماء“ (ع33، 41، 50، 51): أي إنه سماوي المصدر. وفي هذه العظة يؤكد المسيح على سماوية مصدره، إذ يذكر سبع مرات أنه ”نزل من السماء“.
ثالثًا: هو ”خبز الله“ (ع33): وهو تعبير غريب على الآذان، ومع ذلك فهو تعبير صادق. فالمسيح هو طعام الله نفسه، موضوع شبعه، ويا للنعمة أن يشركنا الله في هذا الشبع العجيب!
رابعًا: هو ”خبز الحياة“ (ع35، 48): وذلك لأنه يهب الحياة للأموات، كما أنه هو الذي يُقيت تلك الحياة. والمقصود هنا بالطبع الحياة الأبدية، لا الحياة الزمنية أو الجسدية.
خامسًا: هو ”الخبز الحي“ (ع51): بمعنى أن له حياة في ذاته. والمسيح ليس فقط يهب الحياة للأموات، بل هو في ذاته حي «فيه كانت الحياة» (يو1: 4).
وفي كل ما سبق نجد مباينات عديدة بين المن قديمًا والمسيح: فالمن دُعي ”خبز الملائكة“ (مز78: 25)، بينما المسيح ”خبز الله“؛ والمن أكله الآباء في البرية وماتوا، بينما المسيح من يأكله يحيا إلى الأبد (ع 51)؛ المن كان لإسرائيل فقط، والمسيح هو الخبز المقدم لحياة العالم أجمع (ع32، 51)؛ المن ليس فيه حياة في ذاته وأما المسيح فهو الخبز الحي، إذ إن فيه حياة في ذاته.
تَتبَعُ الحديث
بدأ الرب حديثه مع هؤلاء اليهود، عندما سألوه: «يا معلم متى صرت هنا؟». والرب عوض أن يشير إلى المعجزة العجيبة التي أجراها، عندما سار فوق المياه، مع ما سيتبع ذلك من لفت الأنظار إلى شخصه العجيب، فإنه لفائدة نفوسهم هم، حوَّلهم إلى الموضوع الأكثر أهمية، وهو أن يعملوا للطعام الباقي للحياة الأبدية (ع25-27). وعندما سألوه: ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟ أجابهم المسيح: «هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله» (ع28، 29). لاحظ أن سؤالهم كان عن ”أعمال“، وأما المسيح فقد أشار إلى ”عمل“ واحد بالمفرد، هو الإيمان بمن أرسله الله، فهذا ما يطلبه الله حقًا من الإنسان.
وهنا جاء سؤالهم الثالث، وهو سؤال مزدوج، فقالوا: «فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟». ثم أشاروا إلى ما عمله موسى قديمًا قائلين: «آباؤنا أكلوا المن في البرية، كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزًا من السماء ليأكلوا» (ع30، 31). وعبارة الجموع الأخيرة هذه تحتوي على ثلاثة أفكار هامة. الأولى: أن موسى أعطاهم، والثانية أنه أعطاهم المن، والثالثة أنهم أكلوا المن.
وحول هذه الأفكار الثلاثة بنى المسيح حديثه التالي مع اليهود، فأوضح لهم المصدر الحقيقي لكل العطايا، وهو الله الآب، وليس موسى (ع32-34)؛ ثم أوضح لهم أعظم عطايا الله، وهو شخصه الكريم (ع35-50)، الذي لم يكن المن سوى رمز له. وأخيرًا أشار إلى الأكل من شخصه (ع51-58)!
واضح من هذا أن الأكل من شخصه الكريم هو الختام المجيد للموضوع الذي أراد المسيح تحويل انتباه السامعين ليدركوه، وهو الغاية العظمى للتجسد، فإن مَنْ لا يأكل المسيح سيمضي إلى الجوع الأبدي.
عظة ابن الإنسان
ويمكننا أيضًا تقسيم هذه العظة تقسيمًا ثلاثيًا، يتناسب مع تكرار تعبير ”ابن الإنسان“ في هذه العظة ثلاث مرات. فهو أولاً أشار إلى نفسه بالقول: «اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ لأَنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ» (ع27). ثم بعد ذلك قال الرب لليهود: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ» (ع53). ثم في آخر حديثه أشار إلى نفسه للمرة الثالثة بأنه ابن الإنسان إذ: «َعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تلاَمِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هَذَا فَقَالَ لَهُمْ: أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً!» (ع61، 62)
ومن هذه الإشارات الثلاث نرى ثلاثة أفكار هامة وهي تجسد المسيح (الإشارة الأولى)، وموت المسيح (الإشارة الثانية)؛ وصعود المسيح (الإشارة الثالثة). هذه كلها تتحدث عن المسيح باعتباره ”ابن الإنسان“، أي الذي اشترك في اللحم والدم نظيرنا، وصار بشرًا مثلنا، ما خلا الخطية.
ويلفت النظر أنه مع كل إعلان جديد من هذه الإعلانات الثلاثة، كانت نغمة التذمر تعلو من جانب اليهود. فعندما أعلن تجسده ونزوله من السماء أتى التذمر الأول: «فَكَانَ الْيَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ قَالَ: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ». وَقَالُوا: «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟» (ع41، 42). وعندما أعلن موته وسفك دمه تحول التذمر إلى خصام فيقول البشير: «فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟» (ع52). ثم عندما تحدث عن صعوده إلى حيث كان أولاً، لم يكتفوا بالتذمر ولا بالخصام، بل يقول البشير في الآية 66 «مِنْ هَذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ». وهذه النتيجة هي في مباينة مع ما ورد في أول الفصل «تبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى» (ع2).
هذا معناه أن أعمال المسيح جذبت الناس إليه، وأن أقواله أبعدتهم عنه. فالإنسان الطبيعي يرحب برؤية معجزات المسيح، وينفر من التعليم الذي يؤدي إلى رفض الإنسان في الجسد، والذي يعلن تمام عجزه. لكن العبرة حقًا ليست بالإعجاب بعظيم أعماله، بل الاقتناع بكلامه، كلامه عن مطلق فشل الإنسان، وعن مطلق صلاح الله، هذ الصلاح الذي ظهر في عمل المسيح الكفاري، بناء على نعمة الله العجيبة والمجانية. والإيمان الحقيقي الذي يخلِّص يتطلب الأخيرة لا الأولى.
(يُتبَع)