قليل جدًا كلام الكتاب عن هذا الرجل الهام المثير، ولكن الحقائق القليلة التي نعرفها عنه، تمدنا بعدد من الملامح المُلفتة. بعض هذه الملامح تُشكّل رمزًا للكنيسة، في حين أن البعض الآخر ذو مدلول عميق لكل مؤمن فرد في الكنيسة، رغم أنها قاصرة أحيانًا في الرمز. ونتناول الآن باختصار كلا المجموعتين:
أولاً: كان أَخْنُوخُ من نسل شِيث:
بعدما قُتِلَ هَابِيل بيد أخيه قَايِينَ، أعطى الرب تعويضًا عنه، فقد وَلَدَت حَوَّاءُ ابْنًا آخر وَدَعَتِ اسْمَهُ شِيثًا قَائِلَةً: لأَنَّ اللهَ قَدْ وَضَعَ لِي نَسْلاً آخَرَ عِوَضًا عَنْ هَابِيلَ» (تك ٤: ٢٥). فإذا كان هَابِيلُ صورة للمسيح الذي قُتِلَ من أجل شهادته الأمينة، فإن شِيثًا يرمز إلى المسيح المُقام؛ الشخص الذي أُعْطِيَ عوضًا عن الشخص القتيل. وحيث أن أَخْنُوخ كان من نسل شِيث، فإن أصل الكنيسة يرجع إلى المسيح المُقام والمُمَجَّد، الذي «أَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (أع ٢: ٣٣)، وبنى الكنيسة (مت ١٦: ١٨).
ثانيًا: وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ:
هذه العبارة الموجزة وردت مرتين (تك ٥: ٢٢، ٢٤). وكيف يتسنى للإنسان أن يسير مع الله، في عالم مملوء بالفعل بالعنف والفساد والشراسة والنجاسة؟ ولعل الإجابة تأتينا من عبرانيين ١١: ٥ حيث يُقال إن ذلك كان “بِالإِيمَانِ”، فقد آمن أَخْنُوخُ بالله، وسلك بموجب كلمته، ووثق فيه. وهذا ما ينبغي أن يُميّز كل مؤمن هو أحد أفراد الكنيسة.
ثالثًا: أَخْنُوخُ نُقِلَ:
يُقرر تكوين ٥: ٢٤ أن «أَخْنُوخ ... لَمْ يُوجَدْ»، فقد “نُقِلَ” هذا الرجل فجأة (عب ١١: ٥)، أما السبب فهو «لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ». وهكذا نخلص إلى أن أَخْنُوخ لم يُؤخَذ بالموت. وهذا أمر لافت بالنسبة إلى الكلمة المُتكررة دائمًا في هذا الأصحاح: “وَمَاتَ”. هذا وتُلقي عبرانيين ١١: ٥ مزيدًا من الضوء على هذا الموضوع إذ تقول: «بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ». ألا يُذكرنا ذلك بكلمات الرسول بولس: «ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ» (١تس ٤: ١٧). والمصطلح “نُخْطَفُ” وكذلك “الأَحْيَاءَ”، مشروحان على نحو ملائم في نَقْل أَخْنُوخ. وهذا هو رجاء الكنيسة، لا أن نموت، بل نُخْطَفُ؛ أو أن نرحل من مشهد غريب لا ننتمي إليه، لنكون مع المسيح إلى الأبد.
وتوقيت اختطاف أَخْنُوخ أمر جدير بالاعتبار، حيث تمَّ قبل الطوفان (تك ٦-٨)، تمامًا كما أن الكنيسة ستُخطَف قبيل الضيقة العظيمة المزمعة أن تأتي على العالم كله (رؤ ٣: ٩). لقد حُفِظَ نُوح في الطوفان، ولكن بطريقة مختلفة تمامًا. لقد خلُصَ إبان الطوفان بدخوله الفُلك، تمامًا كما أن البقية التقية اليهودية سيحفظها الله خلال الضيقة (مت ٢٤: ٢٢-٣١؛ رؤ ١٢: ٦).
رابعًا: أَخْنُوخُ لَمْ يُوجَدْ:
تُضيف الآية عبرانيين ١١: ٥ أن «أَخْنُوخ ... لَمْ يُوجَدْ». ولماذا أُعطِيَت هذه المعلومة المُختصرة؟ ألا تُوحي إلينا بالتساؤل إن كان هناك مَن بحث عنه؟ إن المرء ليُصدم بحقيقة أن أَخْنُوخ عاش حوالي أكثر قليلاً، أو أقل قليلاً من نصف عمر معظم مَن ذكرهم هذا الأصحاح. ربما تعرَّض هذا الرجل الأمين للاضطهاد (٢تي ٣: ١٢)، ولكن اللهَ نَقَلَهُ حتى لا يجده مطاردوه. وإذا كان ذلك كذلك، فهذا وجه شبه آخر مع الكنيسة التي اُضطهِدَت منذ أيامها الباكرة، فقد وُجِدت في أعمال ٢، وتعرضت للتو للاضطهاد في أعمال ٣، ٤. وهذا هو الحال اليوم في كثير من بقاع العالم.
خامسًا: أَخْنُوخُ عاش بِالإِيمَانِ:
الآيات عبرانيين ١١: ٥، ٦ تُشير إلى إيمان أَخْنُوخُ، وهو إيمان لا يزال قائمًا اليوم. فكما يُوَّضِح عبرانيين ١١ فإن حياة الإيمان كانت نصيبًا للمؤمنين في كل الأزمنة، كذلك حق أن تدبير الكنيسة مطبوع بالإيمان بصفة خاصة. فإذا كان “تُومَا” في يوحنا ٢٠ يُشير إلى البقية اليهودية التي سترى وتؤمن، فإن الكنيسة لها بركة خاصة: “لم ترَ وتؤمن” «طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو ٢٠: ٢٩).
سادسًا: أَخْنُوخُ أَرْضَى اللهَ:
يُقرر أيضًا عبرانيين ١١: ٥ أن «أَخْنُوخُ ... قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ». إن عائلة قايين كانت لها قائمة من الإنجازات، تتنوع من الهندسة إلى الزراعة والموسيقى. لقد أضافوا أشياءً ليجعلوا من هذا العالم مكانًا أفضل، بدون الله (تك ٤: ١٧-٢٢). بينما تبدو حيوات المنتمين إلى عائلة الله شاحبة باهتة، بل إنجازات (تك ٥)، على العكس من عائلة قايين. لقد عاش أفراد عائلة الله، وكونوا عائلات، ثم ماتوا. لا سعي ولا احتياج لشهرة أو لممتلكات مادية من أي نوع. ولكن يظل هناك ذكر لإيمان وحياة أَخْنُوخ في عبرانيين ١١: ٥، ٦. وهذا هو الشيء الذي له قيمة حقيقية. ولا شك أن أَخْنُوخ كان إنسانًا مزعجًا في نظر معاصريه؛ ولكنه “أَرْضَى اللهَ”. هل تظن أن ثمة كرامة أعلى من تلك؟
وهذه العبارة “أَرْضَى اللهَ”، وثيقة الصلة بالكنيسة من ثلاثة أوجه:
في مشورات الله، تُعتبَر الكنيسة دائمًا كاملة وجميلة. إنها أفضل وأعظم تتميم للمسيح كالإنسان «مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ» (أف ١: ٢٣). ويرى المسيح الكنيسة باعتبارها “لُؤْلُؤَة وَاحِدَة كريمة وكَثِيرَةَ الثَّمَنِ”، مستحقة لأن “يمضي وَيَبيع كُلَّ مَا كَانَ لَهُ، ليَشتَرِيهَا وليمتلكها”.
عمليًا، ينبغي أن تُرضي الكنيسة الله. والمسيح يُطهّرها بماء الكلمة (أف ٥: ٢٥)، ليُزيل كل ما من شأنه أن يُعطِل مسرة الله بها.
مستقبلاً، سيُحضِر المسيح الكنيسة لنفسه «كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (أف ٥: ٢٧).
سابعًا: أَخْنُوخُ شَهِدَ عن مجيء المسيح:
لا نعرف هذه الحقيقة من سيرة أَخْنُوخ الموجزة في تكوين ٥، بل كان علينا أن ننتظر حتى الوصول إلى رسالة يهوذا، لنقرأ: «وَتَنَبَّأَ عَنْ هَؤُلاَءِ أَيْضاً أَخْنُوخُ السَّابِعُ مِنْ آدَمَ قَائِلاً: هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ، لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمُ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا، وَعَلَى جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الصَّعْبَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا عَلَيْهِ خُطَاةٌ فُجَّارٌ» (يه ١٤، ١٥).
وحقيقة كون يهوذا كتب هذه الكلمات دون إفصاح عنها في سفر التكوين لا ينبغي أن تزعجنا، فكتَّاب العهدين الجديد والقديم، كانوا مسوقين بروح الله. وإذا سُرَّ الله أن يُعلِن هذه المعلومة بعدها بآلاف السنين، فلا مشكلة في هذا، ولا داع للانزعاج. ولكن المرء ليدهش من كم الحق الذي عرفه أَخْنُوخُ، والذي أعلمه إياه، ولا ريب، الله نفسه. لقد تكلَّم عن ظهور المسيح. وبعدها يقول: «هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ»، فهذا – في الحقيقة – يتضمن أن الاختطاف قد حصل قبل هذا الوقت. ومع ذلك فإن النقطة المركزية لنبوة أَخْنُوخ هي الدينونة التي ستحيق بهذا العالم. ومُجددًا، هذا هو موقع الكنيسة اليوم في هذا العالم. فليست مهمتها أن تُحاول تحسين هذا العالم الذي يرفض المسيح، ولكن أن تنذر وتُحذِر الآخرين من جهة الدينونة العتيدة، وأن ترشدهم إلى الخلاص المُقدَّم في المسيح (٢كو ٥: ١١-٢٠).
ثامنًا: أَخْنُوخُ كان السَّابِعُ مِنْ آدَمَ:
من المثير أن نقرأ عن رجلين كلاهما “السَّابِعُ مِنْ آدَمَ” (يه ١٤)، كان أولهما هو “لاَمَكُ”، ونقرأ عنه في تكوين ٤: ١٩-٢٤. وهو أول مَن تزوَّج من امرأتين، ونشيده ينم على درجة عالية من الكبرياء والشراسة. هو السابع – الإعلان الكامل – عن الإنسان المُنحدِر من قايين، أي الإنسان حسَب الجسد.
ومن الناحية الأخرى هناك أَخْنُوخُ، رجل الإيمان، الذي أرضى الله، وسار معه، ثم أخذه الله ليُخلّصه من مشهد هو لا ينتمي إليه إطلاقًا. أَليس هذا هو الإظهار الكامل عن عائلة الإيمان؟ وهذا ما ينبغي أن يُميّز الكنيسة، وما يجب أن تُظهره على قياس ما.
تاسعًا: أَخْنُوخُ المُكرَّس:
الاسم “أَخْنُوخُ” يعني “المُكرَّس”. والدروس التي تعلمناها آنفًا لا تدع مجالاً للشك شأن تكريس أَخْنُوخُ. هل كان تكريسه مُقسمًا بين الله والعالم؟ كلا، كان لله وحده. ألا ينبغي أن يكون هذا واقع الكنيسة العملي - ما دامت هنا - مُكرَّسة للمسيح؟ لقد قال الرسول بولس: «لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ» (٢كو ١١: ٢).