قبل أن يشرع موسى في إرساليته العظيمة التي كلَّفه بها الرب، نقرأ عنه:
«فَمَضَى مُوسَى وَرَجَعَ إِلَى يَثْرُونَ حَمِيهِ وَقَالَ لَهُ: أَنَا أَذْهَبُ وَأَرْجِعُ إِلَى إِخْوَتِي الَّذِينَ فِي مِصْرَ لأَرَى هَلْ هُمْ بَعْدُ أَحْيَاءٌ. فَقَالَ يَثْرُونُ لِمُوسَى: اذْهَبْ بِسَلاَمٍ» (خر ٤: ١٨).
إن تصرف موسى هذا جدير بالإطراء. لقد ضمه يثرون وهو طريد من مصر، وأعطاه ابنته زوجةً، وأمده بالمأوى لمدة أربعين سنة. بالإضافة إلى ذلك، كان موسى مسؤولاً عن قطعانه (خر ٣: ١). لذا كان من غير اللائق مطلقًا، وقمة نكران الجميل، لو نزل موسى إلى مصر دون أن يُخطر حماه أولًا. إن طلب موسى أظهر اهتمامه بالآخرين، وتقديره لما ناله من إحسان. ليُخبئ كل من الكاتب والقارئ هذا الأمر في قلبه. إن الأنشطة الروحية لا تعفينا من لياقة ومسؤوليات الحياة. المؤمن الذي ليس إنسانًا مُهذبًا بمعنى الكلمة، ليس مسيحيًا حقيقيًا. أن تكون مسيحيًا هو أن تُشابه صورة المسيح الأدبية (رو ٨: ٢٩)، والمسيح كان دائم التفكر في الآخرين.
«فَمَضَى مُوسَى وَرَجَعَ إِلَى يَثْرُونَ حَمِيهِ وَقَالَ لَهُ: أَنَا أَذْهَبُ وَأَرْجِعُ إِلَى إِخْوَتِي الَّذِينَ فِي مِصْرَ لأَرَى هَلْ هُمْ بَعْدُ أَحْيَاءٌ» ... بكل أسف لا يُمكننا أن نغبّط موسى على كلماته في تلك المناسبة. إن كلماته هنا تشبه يعقوب تمامًا (تك ٢٨: ٢٠-٢٢؛ ٣٢: ٩-١٢). فموسى لا يذكر شيء عن ظهور الرب له، ولا عن الإعلان الذي ناله، ولا عن التأكيد الإيجابي من الله أنه سيُصعد شعبه من مصر إلى كنعان. من الواضح أن موسى كان بعيدًا عن أن يكون مقتنعًا، وهذا واضح من العدد اللاحق: «وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى فِي مِدْيَانَ: اذْهَبِ ارْجِعْ إِلَى مِصْرَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ جَمِيعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ» (ع ١٩). لقد كرر الرب أمره، وفي الوقت نفسه أنعم على خادمه، وأزال مخاوفه من الخطر الذي أقحم نفسه فيه، والذي فر على أثره منذ أربعين سنة. كم هو طويل الروح ورحيم إلهنا!
«فَأَخَذَ مُوسَى امْرَأَتَهُ وَبَنِيهِ وَأَرْكَبَهُمْ عَلَى الْحَمِيرِ وَرَجَعَ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ. وَأَخَذَ مُوسَى عَصَا اللهِ فِي يَدِهِ ... وَحَدَثَ فِي الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلِ أَنَّ الرَّبَّ الْتَقَاهُ وَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَهُ» (خر ٤: ٢٠، ٢٤).
أخيرًا بدأ موسى إرساليته. وفي طاعة لأمر الرب، أخذ موسى امرأته وَبَنِيهِ للرجوع إلى أرض مصر. ولكن قبل أن يبدأ في العمل كسفير لله، كان لا يزال هناك أمر في غاية الأهمية، ما زال مُهملاً. فالله كان قد اقترب من تنفيذ عهده لإبراهيم، ولكن علامة هذا العهد كانت الختان، وهذا ما لم يحدث لابن موسى. وواضح أن هذا بسبب اعتراض أمه. وكان هذا - في حد ذاته – يُعتَبَر تجاهلاً للمطاليب الإلهية، لا يمكن تجاوزه. كما أن موسى كان في حاجة إلى أن يتذَّكر مُجدَّدًا، قداسة ذاك الذي هو مزمع أن يعمل لأجله.
«وَحَدَثَ فِي الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلِ أَنَّ الرَّبَّ الْتَقَاهُ وَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَهُ. فَأَخَذَتْ صَفُّورَةُ صَوَّانَةً وَقَطَعَتْ غُرْلَةَ ابْنِهَا وَمَسَّتْ رِجْلَيْهِ. فَقَالَتْ: إِنَّكَ عَرِيسُ دَمٍ لِي. فَانْفَكَّ عَنْهُ. حِينَئِذٍ قَالَتْ: عَرِيسُ دَمٍ مِنْ أَجْلِ الْخِتَانِ» (خر ٤: ٢٤-٢٦).
وسواء كان الرب بنفسه - في صورة مرئية - هو الذي التقاه، أو كان ملاك الرب ومعه سيف في يده، كما حدث لاحقًا مع بلعام، فنحن لم نُخبَر. كما لا نعرف أيضًا الطريقة التي أراد الرب قتل موسى بها. ولكن من الواضح هنا أن موسى ضُرِبَ وكان عاجزًا، لا حول له ولا قوة، حتى إن زوجته هي التي قامت بختان ابنهما، وهذا هو الشيء اللافت للنظر. والاستنتاج الذي لا مفر منه هو أن صفورة هي التي عارضت تنفيذ أمر الرب. وهذا يبدو واضحًا من كلماتها إلى موسى. وهذا فقط يُمكن أن يُعلّل إرسالها إلى أبيها (قارن خروج ١٨: ٢). ومع ذلك فالرب لم يطلب أن يقتل صفورة، بل طلب أن يقتل موسى رأس البيت، الذي أعطاه الرب السلطان في قيادة وتوجيه وتربية الأبناء، وليست صفورة.
هذه النقطة تبدو بمثابة تحذير مقدس وخطير للآباء المسيحيين اليوم. فقد يرتبط الرجل بامرأة تعارضه في كل خطوة يقوم بها للحفاظ على سلطان كلمة الله في البيت. ولكن هذا ليس عذرًا له ليتوقف عن أداء واجبه.
ودعونا الآن نستنتج درسًا آخر في غاية الأهمية بالارتباط بالخدمة. فقبل أن يذهب موسى ويقود إسرائيل، كان لا بد له أولاً من أن يرتب بيته حسنًا. وإلى أن يتم ذلك، لم يكن موسى مؤهَّلاً لمهمته. فلا بد أن يكون أمينًا وناجحًا في دائرة مسؤولياته الخاصة أمام الله، قبل أن يجعله الله أداة لاستعلان القوة الإلهية. وحسنًا قال أحدهم: “إن الطاعة في البيت لا بد وأن تسبق استعلان القوة للعالم”. وهذا هو نفس الشيء الذي نتعلَّمه من ١ تيموثاوس ٣: ٤، ٥ حيث نجد أنه من بين المؤهلات المُتعددة التي يجب توافرها في الأسقف (الشيخ) أن «يُدَبِّرُ بَيْتَهُ حَسَنًا، لَهُ أَوْلاَدٌ فِي الْخُضُوعِ بِكُلِّ وَقَارٍ. وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبِّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ اللهِ؟». فقاعدة الله العامة هي أنه يرفض أن يستخدم في الخدمة العلنية مَن هو متساهل ومهمل وغير منضبط، وبلا سيطرة على بيته الخاص.
«وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ: اذْهَبْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لاِسْتِقْبَالِ مُوسَى. فَذَهَبَ وَالْتَقَاهُ فِي جَبَلِ اللهِ وَقَبَّلَهُ. فَأَخْبَرَ مُوسَى هَارُونَ بِجَمِيعِ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي أَرْسَلَهُ، وَبِكُلِّ الآيَاتِ الَّتِي أَوْصَاهُ بِهَا» (خر ٤: ٢٧، ٢٨).
ها مثل آخر عن كيفية تعامل اله مع الأفراد، فهو يعمل على طرفي الخيط: كان موسى متجهًا نحو مصر، وأُرسل هارون لمقابلته. بمقارنة هذه الآية بما ذُكر في الآية ١٤ يبدو واضحًا أن الرب قد أمر هارون أن يذهب إلى البرية، قبل أن يبدأ موسى بالفعل في التوَّجه إلى مصر، لأنه هناك نجده يقول لموسى: «هَا هُوَ (هارون) خَارِجٌ لاِسْتِقْبَالِكَ». يا له من تشجيع كان ذلك لموسى! مرارًا كثيرة يعطى الرب في حنانه مثل هذه التشجيعات لخدامه، وبالأخص في أيامهم الأولى؛ هكذا فعل مع عبد إبراهيم (تك ٢٤: ١٤، ١٨، ١٩)، ومع يوسف (تك ٣٧: ٧، ٨)، ومع التلاميذ (مر ١٤: ١٣)، ومع بولس (أع ٩: ١١، ١٢)، وبطرس (أع ١٠: ١٧).
من الشيق والمهم ملاحظة مكان التقاء الأخوين: «فِي جَبَلِ اللهِ». هناك ظهر الرب أولًا لموسى (خر ٣: ١)، ومنه انطلق كل مِن موسى وهارون في إرساليتهما البالغة الأهمية. إن “الجبل” يتحدث – بالطبع - عن الارتفاع؛ ارتفاع الروح بالشركة مع العلي، وهو شرط أساسي مُسبق لكل خدمة فعالة. إنه فقط عندما يكون الخادم في “الجبل مع الله”، حينئذ يكون مُستعدًا ليذهب، ويُمثِّل الله في السهول! لقد اتضح هذا مرارًا وتكرارًا في حياة الخادم الكامل، الرب يسوع. ارجع إلى الأناجيل الأربعة، ولاحظ كم من مرات قيل هناك إن المسيح اعتزل في “الجبل”، من ثم تقدَّم فيما بعد ليخدم المحتاجين. هذا بالطبع هو درس يحتاج كل خادم أن يتعلَّمه. عليَّ أولًا أن أكون في شركة مع الله، قبل أن أكون مؤَّهلًا لأن أعمل لحسابه. لاحظ هذا الترتيب في مرقس ٣: ١٣، ١٤ بالارتباط مع الرسل: «ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا».
«ثُمَّ مَضَى مُوسَى وَهَارُونُ وَجَمَعَا جَمِيعَ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَتَكَلَّمَ هَارُونُ بِجَمِيعِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى بِهِ، وَصَنَعَ الآيَاتِ أَمَامَ عُيُونِ الشَّعْبِ. فَآمَنَ الشَّعْبُ. وَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّ الرَّبَّ افْتَقَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ نَظَرَ مَذَلَّتَهُمْ، خَرُّوا وَسَجَدُوا» (خر ٤: ٢٩-٣١).
دائمًا ما يُنظر إلى الشيوخ باعتبارهم ممثلي الشعب. لقد كانوا رؤوس الأسباط ومن العائلات الرئيسية. فأسمعهم هارون كل ما قاله يهوه لموسى، وعمل موسى الآيتين (خر ٣: ١-٨)، والنتيجة كانت تحديدًا كما سبق الله وقال (خر ٣: ١٨). كان موسى قد قال: «هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي» (خر ٤: ١)، لكن الله صرّح بأنهم سيسمعون له، وهكذا حدث. لقد آمنوا أن موسى مُرسَل من الله، وأنه سيكون مُحرِّرهم. وإذ آمنوا بذلك، خروا وسجدوا، مُتعبِّدين لصلاح الله، ومُعبِّرين عن امتنانهم لملاحظته إياهم في ضيقهم.
ومن التجاوب الإيجابي الذي ناله موسى من شيوخ إسرائيل، يُمكننا أن نتبيَّن - مرة أخرى - الرحمة الحانية، ونعمة الرب. في مرحلة لاحقة، جاء القواد إلى موسى وهارون متذمرين من أنهم قد جَعلوا وضع الشعب للأردأ لا للأفضل. إنما هنا، وفي أول الدخول إلى مصر، أمال الرب قلب الشعب ليؤمنوا. لذا فهو لم يضع على إيمانهم ثقلًا كبيرًا أولًا، ولا وضع عليهم وهقًا أكبر من قدرتهم على تحمله. هكذا تكون معاملات الرب مع خدامه دائمًا. فالتجارب الحقيقية تبقى أخيرًا بعد أن نعتاد على حمل النير.
إننا نوصي، من القلب، كل خادم لله، بهذا الأصحاح الرابع من سفر الخروج، لأنه زاخر بالدروس الهامة، التي يحتاج كل خادم للسَيِّد أن يأخذها إلى قلبه.