أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2007
ومن فم الرب لم يسألوا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

من السمات البارزة في الإنسان الروحي هو استِّناده الكامل على الله، وأنَّه في كل أمور حياته يلجأ إلى الله ملتمسًا أن يعرف منه السبيل الذي يسلكه، والقرار الذي عليه أن يتَّخذه. إنَّه لا يعرف أن يفعل شيئًا قبل أن يستشير الرب أوَّلاً، الأمر الذي نجده بصورة كاملة ورائعة في الإنسان الكامل الذي شرَّف أرضنا وعاش بيننا؛ ألا وهو الرب يسوع تبارك اسمه. إنَّه رجل الشركة مع الله، والذي كان على الدوام في صلة وعلاقة معه. إنَّ لسان حاله ما قاله بروح النبوَّة: «احفظني يا الله لأنِّي عليك توكَّلت» (مز16: 1). إنَّه المتَّكِل الأعظم، والذي أظهر في كل حياته أنَّه بحق رجل الصلاة، من أجل ذلك اهتمَّ البشير لوقا ـ وهو المشغول أن يُقدِّم لنا الرب باعتباره الإنسان الكامل ـ بأن يذكر لنا سبع مناسبات قدَّم الرب فيها صلاة لله، في خلال خدمته على الأرض. بالطبع لم تكن هذه كل ما قدَّمه الرب من صلوات، فهو الذي عبّر عن نفسه بالقول: «أمَّا أنا فصلاة» (مز109: 4). لقد كان حريصًا على الدوام أن يفعل مشيئة الذي أرسله (يو4: 34)، ولقد عبَّر عن ذلك بقوله: «يوقظ كل صباح. يوقظ لي أُذنًا لأسمع كالمتعلِّمين. السيد الرب فتح لي أُذنًا وأنا لم أُعاند» (إش50: 4، 5).

وما مِن شك، أنَّ ما يضمن سلامتنا الروحيَّة، وتمتعنا على الدوام بالنضارة والقوة في كل حياتنا، هو مدى استنادنا الفعلي واتِّكالنا الكلي على الله، مدى علاقتنا الوثيقة بالرب، مدى شغف قلوبنا على استشعار فكره، والاستعداد الكامل لتنفيذ مشيئته في كل أمور حياتنا. كيف نكون مهيَّئين تمامًا بأن نسلك حسب خطَّته الإلهيَّة ومشيئته الصالحة.

فما أكثر البركات التي نحصل عليها من جرَّاء تنفيذنا مشيئة الرب! وأيضًا ما أكثر المضار التي قد تلحق بنا عندما نتَّبع أفكارنا، وننقاد وراء أهوائنا، متأثرين بما حولنا!

ونحن نجد مثالاً واضحًا لذلك فيما ورد في يشوع 9 حينما تصرَّف سكَّان جبعون بغدرٍ، واحتالوا على يشوع وشيوخ الشعب، وتظاهروا بأنَّهم قد أتوا من مكانٍ بعيد طالبين من يشوع والشيوخ أن يقطعوا معهم عهدًا لاستحيائهم. ولقد خُدع يشوع ومن معه من مظهرهم، وشعروا أنَّ الأمر أسهل من أن يرجعوا ويسألوا الرب بشأنه، واعتبروا أنَّ القضيَّة محسومة. وهكذا يأتي التعبير الذي يُعتبر إلى الآن تحذيرًا صارخًا لمن يتجاهل أن يسأل الرب، محاولاً أن يدبِّر شئونه بنفسه: «فأخذ الرجال من زادهم، ومن فم الرب لم يسألوا» (يش9: 14). نعم ما أخطر هذا، أن نتَّكل على حكمتنا وبديهيَّة الأمور التي حولنا، ونأخذ قرارنا بأنفسنا دون الرجوع للرب! لقد علم يشوع وشيوخ الشعب بعد أن قطعوا معهم عهدًا بثلاثة أيام فقط بأنَّهم قد خُدعوا، وأنهم ساكنون في وسطهم، مِمَّا جعل كل الجماعة تتذمَّر على الرؤساء، غير أنَّهم لم يستطيعوا أن يمسّوهم بأي أذى، إذ كانوا قد حلفوا لهم باسم الرب.

فما أسهل وأصعب هذا الدرس في آنٍ! نعم، ما أسهل أن نلجأ إلى الرب في كل حينٍ قائلين مع صموئيل: «تكلَّم (يا رب) لأن عبدك سامع» (1صم3: 9)، أو نقول مع شاول الطرسوسي، الذي صار الرسول بولس: «يا ربُّ: ماذا تُريد أن أفعل» (أع9: 6). وما أصعب على طبيعتنا البشرية الرديئة ألا تتسرَّع، وألا تُؤخَذ بمجريات الأمور من حولنا، مِمّا يدفعنا على اتِّخاذ قرار من ذواتنا، ونستصعب أو نستكثر أن نعود للرب في كل أمور حياتنا، حاسبين أن ذلك مضيعة للوقت، طالما أن الأمر واضح أمام أعيننا، ولا يحتاج إلى سؤال.

وكم هو جميل ونافع لنا أن نتأمَّل قليلاً في حياة أحد رجال الله؛ داود، والذي بلا شك كان له تأثير واضحٌ في كل من تعامل معه، والذي في باكورة حياته شرَّفه الرب بأن مَسَحَه ملكًا على شعبه، كما حظي بشهادة رائعة من الرب نفسه إذ قال عنه: «وجدت داود بن يسّى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كلّ مشيئتي» (أع13: 22). ونتعرَّف على طابع حياته وسر نجاحه، كيف لمع نجمه بهذه الصورة الرائعة، كيف كانت تصرفاته مثالاً للرجل الروحي المميِّز، كيف حفظه الرب سالمًا رغم كثرة أعدائه، كيف تثبَّت كرسيَّه واتَّسعت مملكته إلى أقصى حدٍ ممكن، وبالاختصار كيف كان رجلاً ناجحًا موفَّقًا في حياته؟ نجد الإجابة الواضحة على ذلك أنَّه كان معتادًا في كل أموره أن يستشير الرب. فهناك على الأقل سبع مناسبات نجد فيها أن داود كان حريصًا أن يعرف فكر الرب قبل أن يتَّخذ أي قرار.

غير أنّه لكونه إنسانًا نجده أيضًا في بعض المناسبات لم يستشر الرب، وسوف نُسلِّط الضوء على ثلاث مناسبات فيها استعاض عن الرب؛ مرَّة بقلبه، ومرة بقوَّاده ورؤسائه، ومرة بنبي الرب ناثان. وكما أن لنا دروسًا جميلة نتعلَّمها من داود في كيفية استناده على الرب، كذلك لنا أيضًا تحذيرات نتعلَّمها عندما تحوَّل عن الرب وسأل غيره.

(يتبع)

عاطف إبراهيم