قارئي العزيز، يا مَنْ تتابع معنا الدراسة في سفر هوشع. لقد كنا نتأمل في حديثنا السابق، بعضًا من المشاهد التصويرية للأُمة الإسرائيلية بصفة عامة، وللأسباط العشرة (أفرايم) بصفة خاصة، التي تُصوِّر لنا من ناحية شر هذا الشعب، وفرط جنوحه للارتداد عن الرب، ولكن من الناحية الأخرى تبرز لنا أمانة يهوه ومحبته وتقديره لهم من البداية، وقدرته الفائقة التي ستُبرزُ حتى النهاية، لردهم إلى صوابهم وإمتاعهم بالبركة المستقبلية المخزونة لهم الآن في قلبه، وأُذكرك يا قارئي العزيز، بآخر عبارة قرأناها في مقالتنا السابقة، «فهذا هو حقد الشيطان، وشر الإنسان من ناحية، ولكن من ناحية أخرى، هذه هي دروس الأزمان، تتلألأ على جبين مَنْ يسيرون على درب الإيمان، بثمارٍ مبروكةٍ، تؤكد للقلب أننا نتعامل مع الله صاحب الإحسان»
رأينا في المرات السابقة «أفرايم» وهو كامرأة زنى، لا قيمة لها، كالبقرة الجامحة في عنادها، وكالجفنة الممتدة التي تُخرِج ثمرًا لنفسها، وأما في هذه المرة، فسنقف أمام تشبيه رابع لإبراز شر «أفرايم»، «الأسباط العشرة»:
4- ابن غير حكيم:
«مخاض الوالدة يأتي عليه، هو ابنٌ غير حكيمٍ، إذ لم يقف في الوقت في مولد البنين» (13: 13).
كما رأينا في التشبيه السابق، أقصد «جفنة ممتدة» مشاعر يهوه تجاه هذه الأُمة منذ القديم، وكيف أنه شبههم من البداية «بالكرمة»: «وجدت إسرائيل كعنب في البرية. رأيت آباءكم كباكورةٍ على تينةٍ في أولها. أما هم فجاءوا إلى بعل فغور ونذروا أنفسهم للخزي، وصاروا رجسًا كما أحبوا» (9: 10).
هكذا أيضًا في هذا التشبيه أقصد «ابن» نستطيع أن نجد وبوضوح تدفق مشاعر الرب وحنوه منقطع النظير لهذا الشعب. فهل لك قارئي العزيز أن ترجع معي إلى بداية القصة، لتسمع وفرة مشاعر الأبوة في عنفوان وشدة تدفقها من قلب السيد لهم، فنسمعه يقول لموسى: «فتقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر، فقلت لك: اطلق ابني ليعبدني، فَأَبَيْتَ أن تطلقه. ها أنا أقتل ابنك البكر» (خر4: 22، 23).
عزيزي وأنت تقرأ هذه الكلمات المؤثرة، ألا تستشعر صرخة أب تمزقت حشاه، وأدمى قلبَه مذلةُ ابنهِ، أليست هذه الأبوة في مثاليتها المطلقة؟ بل اسمعه يقول أيضًا: «لما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني» (11: 1). أليس هذا ما أحتسبه لهم بولس بالوحي، على رأس قائمة الامتيازات معددًا: «الذين هم إسرائيليون، ولهم التبني والمجد والعهود» (رو9: 4)؟ ولكن مع أن هذا ليس موضوعنا الأساسي، أستلفت نظرك أيها القارئ: أن هذا النوع من التبني، كان لهذا الشعب في مجموعه وليس لأفراده، كما لنا التبني نحن في تدبير النعمة، كأفراد؛ لأن التبني الذي نستمتع به نحن كأفراد، كمؤمني التدبير الحاضر، مرتبط بسكنى الروح القدس (رو8: 15)، الامتياز الذي لم يستمتع به مؤمن في تدابير سابقة. ولكن بكل أسف، هذا الشعب، الذي كان الرب يحمل لهم كل مشاعر الأبوة هذه، لم يُظهر للرب إلاَّ سلوك الابن العاق، أو أقصد بأسلوب كتابي سلوك «الابن المعاند والمارد، الذي لا يسمع لقول أبيه. ولا لقول أمه» (تث21: 18). فها النبي هوشع يُدلي بالوحي بهذا التقرير الخطير «هو ابن غير حكيم، إذ لم يقف في الوقت في مولد البنين» (13: 13). ولكن ماذا تعني هذه الآية التي تبدو عسرة الفهم؟ جاءت هذه الآية في ترجمة هكذا: «هو ابن جاهل، عندما يجيء وقت وصوله، يرفض أن يأتي إلى فتحة الرحم». ومعنى الكلام أن هناك ابن حكيم، حينما يحين وقت ولادته، يأخذ وضعه الصحيح في رحم أمه، فيخرج إلى العالم في يسر، أو بطريقةٍ عاديةٍ، ولكن هناك ابنٌ جاهل، عندما يحين وقت خروجه، يرفض أن يأتي إلى أمام فتحة الرحم، فيُسبب آلامًا لنفسه ولأُمه، وانزعاجًا وإرباكًا للجميع، فها أربعون سنة من التطواف والتجوال في البرية، عقب خروجهم من أرض مصر، أرض المذلة، تمتلئ بأصوات الأنين والتذمرات المتواصلة، وها أرض الموعد، الأرض الفائضة لبنًا وعسلاً، لم تكن بالنسبة لهم، إلاَّ مكان تجرعوا فيه سموم نتائج عنادهم الطويل، حتى دقت ساعة القضاء برعابها وأهوالها، أقصد السبي الذي أرسله الرب عليهم، الذي يشرحه هوشع في هذه الآية بهذا الوعيد المرعب: «مخاض الوالدة يأتي عليه»! ولكن وإن فشل هذا الشعب في مركزه كالابن، هل يفشل الله في مقاصده من نحوهم؟ كلا: فالإنسان هو الذي يفشل، وليس الله. فلا بد لهذا الشعب أن يعود فيتمتع ليس بكل مشاعر الأبوة فقط، بل والأمومة أيضًا، فسوف يعود هذا الشعب ويصلي في ضيقه: «فإنك أنت أبونا وإن لم يعرفنا إبراهيم، وإن لم يَدْرِنَا إسرائيل. أنت يا ربُّ أبونا. وليُّنا منذ الأبد اسمُك» (إش63: 16). بل وسيعود هذا الشعب ويتمتع بفيض مشاعر الأمومة أيضًا، عندما تتحقق لهم الوعود المستقبلية، «لأنه هكذا قال الرب: هأنذا أُدير عليها سلامًا كنهرٍ، ومجد الأُمم كسيلٍ جارفٍ، فترضعون، وعلى الأيدي تُحملون وعلى الركبتينِ تُدللون. كإنسانٍ تُعزيه أُمه هكذا أُعزيكم أنا، وفي أورشليم تُعزَّون» (إش66: 12، 13).