«تأتي ساعة فيها.. تأتي ساعة حين..»
«تأتي ساعة فيها.. تأتي ساعة حين..» ذكرنا في المرة السابقة أن كلمة ”الساعة“ تأتي في إنجيل يوحنا أكثر من خمس وعشرين مرة، منها ”سبع“ مرات باعتبارها فترة زمنية ممتدة لها طابع معين، وهذه المرات السبع هي:
أولاً: ساعة السجود بالروح والحق (يوحنا4)
ثانيًا: ساعة إعلانات الروح القدس (يوحنا16)
ثالثًا: ساعة الآلام لأجل المسيح (يوحنا16)
رابعًا: ساعة الإحياء بالنعمة (يوحنا5)
خامسًا: ساعة الإقامة من القبور (يوحنا5)
سادسًا: ساعة ظهور المسيح للعالم (يوحنا2)
سابعًا: ساعة مجد المسيح (يوحنا12)
وكنا قد تحدثنا فيما سبق عن ساعة السجود بالروح والحق، وفي هذا العدد نواصل الحديث عن باقي ساعات الإنجيل.
ثانيًا: ساعة إعلانات الروح القدس
قال المسيح لتلاميذه في حديث العلية:
«قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا بِأَمْثَالٍ، وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ حِينَ لاَ أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ، بَلْ أُخْبِرُكُمْ عَنِ \لآبِ علاَنِيَةً» (16: 25). وعبارة ”كلمتكم .. بأمثال“، تعني كلمتكم بأقوال مجازية غير مباشرة. والمسيح بهذا يشير إلى كلامه السابق في العظة نفسها، مثل الحديث عن المرأة وهي تلد (16: 21)، أو عن تشبيه نفسه بالكرمة الحقيقية وتلاميذه بالأغصان (15: 1-8). وقد تمتد لتشمل كل كلامه وأحاديثه معهم في فترة الثلاث سنين ونصف التي عاشها بينهم (10: 6).
ومعروف أن الكلام بأمثال يتضمن أبعادًا في الكلام أكبر من المعنى السطحي. ولقد كان هذا لازمًا في ذلك الوقت، إذ لم يكن في مقدور التلاميذ فهم الإعلانات العظيمة التي كان المسيح يريد أن يتحدث إليهم عنها، وذلك بسبب عدم وجود ملكة الاستقبال عند التلاميذ قبل موت المسيح وقيامته ومجيء الروح القدس. لكن الوضع تغير بعدها. فحين حل الروح القدس عليهم، أخذوا مسحة من القدوس ليعرفوا كل شيء (1يو2: 20)، حصلوا على الروح القدس الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله (1كو2: 10). أو بكلمات أخرى سكن فيهم الروح القدس الذي يرشدهم إلى جميع الحق (يو16: 13).
والساعة التي يشير إليها المسيح تبدأ من الجانب الآخر من الصليب، أي بعد قيامته – له المجد – من الأموات. فبمجرد قيامة المسيح بدأ مع تلاميذه نوعًا مختلفًا من الكلام. وهكذا نجد الرب في يوم القيامة يسير مع تلميذي عمواس ليوضح لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب (لو24: 27). وبعد ذلك، حين ظهر للتلاميذ وهم مجتمعون في العلية، فإنه فتح ذهنهم ليفهموا الكتب (لو24: 45). وعلى مدى الأربعين يوما التي قضاها الرب معهم كان يتحدث إليهم عن ملكوت الله (أع1: 3). ثم بعد ذلك، اعتباراً من يوم الخمسين فصاعدًا، بدأت الساعة التي أشار إليها المسيح هنا، ساعة الحديث عن الآب علانية.
والمسيح كان قد سبق في الأصحاح ذاته أن قال إن المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم (14: 26)، كما قال إنه يأخذ مما للابن ويخبرهم (يو16: 14). وهكذا فإن تلك الساعة التي نعيش فيها الآن، والتي تشمل كل الفترة الحاضرة الممتدة من يوم الخمسين وحتى مجيء المسيح للاختطاف، والتي يمكن أن نعتبرها ”يوم الروح القدس“ ، تتميز بمعرفتنا الكاملة والواضحة عن الآب والابن.
ثالثًا: ساعة الآلام لأجل المسيح
قال المسيح لتلاميذه في حديث العلية أيضًا:
أيام المسيح على الأرض تسمى ”أيام ابن الإنسان“ (لو17: 26)، ونحن اليوم نعيش في يوم الروح القدس (يو14: 16)، وبعد الاختطاف يأتي يوم المسيح (في1: 6؛ 2: 11)، وبعد الظهور يوم الرب (1تس5: 2)، وفي الأبدية يوم الله (2بط3: 11 ).
«سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ، بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلَّهِ.. لَكِنِّي قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (16: 2 و4).
في هذا الجزء يقول المسيح لتلاميذه: «كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا» (وهو التعبير الذي تكرر سبع مرات في حديث العلية). و”هذا“ الذي يشير المسيح إليه هنا هو ما ورد في ص15: 18-25. عن بغض العالم وكراهيته له ولتلاميذه.
ثم يقول المسيح «سيخرجونكم من المجامع». والطرد من المجامع ليس أمرًا سهلاً، فالمطرود من المجمع هو أيضًا شخص منبوذ من المجتمع ومعزول عن الجميع. إنها صورة للموت الأدبي. ثم يستطرد المسيح مشير أيضًا إلى الموت الحرفي فيقول: «بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله». ولعل شاول الطرسوسي في سفر الأعمال يعطينا مثالاً قويًا وواضحًا لذلك، فقد كان يضطهد تلاميذ المسيح معتقدًا أن هذا أسمى صور التقوى والقرب من الله، حتى خلصه الله بالنعمة، فتحول المضطهِد إلى مضطهَد!
وهذه الساعة تشير تقريبًا إلى الفترة عينها التي أشار إليها المسيح في الساعة السابقة، ساعة إعلانات الروح القدس، لكنها قد تكون أوسع قليلاً، فهي تشمل كل الفترة الممتدة من قيامة المسيح وصعوده لحين ظهور المسيح للعالم بالمجد والقوة، ليضع حدًا لعربدة الشيطان وأتباعه، ويضع الحق في الأرض.
وهذه الساعة، نظرًا لطابعها الشرير، فإننا لا نسميها – كالساعة السابقة - ”يوم الروح القدس“، بل نسميها بلغة الرسول بولس ”يوم البشر“. تلك الفترة التي فيها ما زال ”سر الله“ قائمًا (1كو4: 3؛ رؤ10: 7).
الأمور التي من شأنها زعزعة الإيمان المزيف، هي بعينها التي تثبت الإيمان الحقيقي
ويقول المسيح: «ستأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله». حديث المسيح هنا هو عن العالم الديني، ذلك العالم الذي ظهر في بدايته في قايين، وظهر في اكتمال شره في قادة أمة اليهود على عهد المسيح. لكنه استمر في أيام الكنيسة الأولى، وما زال حتى اليوم مستمرًا في أماكن كثيرة في العالم. وينتظر اكتمال مكيال إثمه في فترة الضيقة العظيمة، ولو أن هذه لن تشاهدها الكنيسة.
على أن استخدام الرب لتعبير ”الساعة“ هنا مرتين، يتضمن فكرة تدعو للتعزية، وهي أن هذه الفترة مهما بدت طويلة، فإنها في حقيقة الأمر وجيزة (قارن 1تس2: 17). وفي ضوء الأبدية التي لا تنتهي، فإن معاناة تلاميذ المسيح وآلامهم، وتطاول الأشرار عليهم، إنما هي وقتية، ولأنها وقتية فإنها لا تقاس بالمجد الأبدي الذي ينتظرنا.
والمسيح بإخباره المسبق لما يمكن أن يكون سببًا لزعزعة الإيمان، فإن هذا عينه من شأنه أن يقوي الإيمان. فالمسيح لم يقل ما قاله لتلاميذه هنا لكي يربكهم أو يعثرهم، بل بالحري لكي يقوى إيمانهم. وما أجمل أن نجد أن الأمور التي من شأنها زعزعة الإيمان المزيف، هي بعينها التي تثبت الإيمان الحقيقي.
(يُتبَع)