أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد فبراير السنة 2005
« وأما ابن الإنسان ...فليس له أين يسند رأسه
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

دخل العالم التعب والموت، في نفس اليوم الذي دخلت فيه الخطية «ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك» (تك3: 7). وها نحن نعمل كل يوم ونتعب، نشتغل اليوم كله ونشقى. لكن الشيء الذي يُتعب أكثر، ويُشقي أكثر، هو الخطية! وهذه اللعنة ”ملعونة الأرض بسببك“، التي صدرت من فم الله في ذلك اليوم المُخيف، ما زالت سارية المفعول إلى يومنا هذا!

 أرض ناشفة ويابسة هي التي نسير عليها سني غربتنا. يقول عنها رجل الله موسى: «أيام سنينا هي سبعون سنة. وإن كانت مع القوة فثمانون سنة. وأفخرها تعب وبلية. لأنها تُقرض سريعًا فتطير» (مز90: 10). ومع ذلك ففكر الله ومقاصده منذ الأزل أن يعطي راحة للإنسان، راحة للنفس والجسد، راحة للضمير والقلب! لكن أين وكيف لنا أن نجد الطريق إلى هذه الراحة في عالم مليء بالمخاطر في كل لحظة، في عالم مليء بالفساد في كل أركانه، في عالم مليء بالعنف في كل جوانب الحياة!!

 هذه الأرض ليست مكانًا لراحة أحد، ولا يمكن أن تكون ـ وخاصة لقديسي الرب. «قوموا واذهبوا لأنه ليست هذه هي الراحة (الترجمة الأصلية: ليس هنا مكان الراحة). من أجل نجاسة تُهلك، والهلاك شديد» (ميخا2: 10). تعالوا بنا نُطالع كتاب تاريخ البشرية كلها لنرى أن الفساد والعنف يطلان برأسيهما من كل صفحة من صفحات هذا الكتاب البشع، والسبب دائمًا هو هو: الخطية! الخطية داخل الإنسان، والضاربة حتى النخاع، والتي تسري في شرايينه سريان الدم وهو بعد جنين في الرحم!

 أ ليس من الغباوة بمكان أن يأتي الإنسان بوسادة ناعمة وأريكة فاخرة ويضعهما بجوار القمامـة والعفونة طلبًا للراحة والاسترخـاء؟! هكذا من يسعى ليجد له راحة وسط خراب وفساد عالمنا هذا !

 بعد نهاية الأربعين يومًا فتح نوح طاقة الفلك وأرسل الغراب أولاً. خرج الغراب (وهو طائر نجس) ولم يَعُد. لقد وجدَ الغراب مكانًا لقدميه بين مُستنقعات المياه والأوحال. بعدها أرسل نوح الحمامة. خرجت الحمامة (وهي طائر طاهر) ورجعت. لقد رجعت الحمامة لأنها لم تجد مقرًا لرجلها، فما زالت المياه والمستنقعات والأوساخ لم تتلاشَ بعد!

 وهكذا فكلما ازدادت أمانة المؤمن في حياة الانفصال عن الشر، كلما ازداد بالتالي حسه بالفساد المُحيط به، وكلما ازداد أيضًا حسه بالتعب وعدم الراحة وسط خراب وفساد هذا العالم.

 وعلى هذا المقياس فمَنْ هو الذي انزعج من دخول الخطية للعالم؟ مَنْ هو الذي أحس بالكامل بهول الخطية المُحيطة بنا؟ مَنْ هو الذي استطاع أن يُدرك نتائج هذا الفساد والخراب بكل أبعاده المتنوعة والتي تتمثل في: إهانة الله .. العبودية للشيطان .. شوكة الموت .. اضمحلال الخليقة .. إلخ ؟

 إنه ذاك وليس آخر .. إنه الابن المبارك، قدوس الله.

 أ كان يمكن لذلك القدوس أن يستريح وسط هذا العالم زمن تجسده؟ مستحيل. وهو وإن كان ـ تبارك اسمه للأبد ـ قال لتلاميذه «تعالوا هنا منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلاً» (مر6: 31) ـ لكنه أبدًا لم يَقُل: تعالوا لنستريح!!

 يجول من قرية إلى قرية. يلبي أكثر من طلب. يسد أكثر من حاجة. كم من أيام بدأها باكرًا في الصباح لتنتهِي متأخرة بالليل، وهو يعمل. يعمل بقلب المحبة، وبذات النكران والتواضع!

 أحبائي .. تعالوا بنا لوقفة هادئة نتأمله في خشوع وهو يقول لليهود: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل» (يو5: 17). وأمام عمل محبته التي أبدًا لا تهدأ .. كيف قابله العالم؟! كيف استقبل العالم هذا الزائر الجليل؟! هذا الضيف السماوي الإلهي؟!

 في ولادته لم يقدم له العالم سقفًا يستظل به، لم يجد فندقًا يفتح الأبواب له. وعلى طول رحلته فوق الأرض لم يجد مكانًا ليسند رأسه. وعند موته لم يكن له مكان ليُدفن فيه. قدما السيد الطاهرتان لم تجدا موضعًا لراحتهما في خلال رحلته

 هناك مكان واحد وجد فيه راحته! وهناك فترة زمنية معينة من الآب .. يمكن له بعدها أن يجد راحته!

 المكان هو الصليب وليست الأرض، مرفوعًا عن الأرض، مُعلقًا بين السماء والأرض. والزمان هو حينما أبطل الخطية بذبيحة نفسه!

 لم ينتظر دخوله المجد، لم ينتظر قيامته من الأموات، بل بمجرد ما أتم عملية الفداء، في الحال نكس الرأس أولاً .. أي استراح! الآن فقط وجد راحة له .. والآن أوجد لنا راحة في شخصه المعبود.

 «قال قد أُكمل. ونكس رأسه. وأسلم الروح» (يو19: 31).

 إنه قدوس الله. إنه ابن محبته. إنه الابن الوحيد الذي منذ الأزل وإلى الأبد في حضن الآب!

 قارئي العزيز: ليت الرب يهبنا نعمة خاصة حتى لا يغيب عن أذهاننا وقلوبنا أن رب المجد هذا قيل عنه زمن تجسده: «وأما ابن الإنسان .. فليس له أين يسند رأسه».

جيمس إسحق