كيفية العلاج
العلاج بالصدمة:
وفي البداية نسأل: هل تصلح الصدمات كعلاج؟
رأينا في الحلقة السابقة أن علاج الرب لضعف الإيمان يكون غالبًا بإحدى طريقتين: إما أسلوب العلاج بالنعمة أو أسلوب العلاج بالصدمة!! ومع أن النعمة والصدمة نقيضان متضادان لكن الأمر العجيب أنهما يحملان ذات القوة والفاعلية في علاج غيبوبة ضعف الإيمان! وبالطبع فإن الطبيب العظيم وحده، هو صاحب الحق في القرار أي من الطريقتين يستخدم مع كل حالة من الحالات، بحسب حكمته التي لا تخطئ.
ولقد تحدثنا في العدد السابق عن أسلوب العلاج بالنعمة، ودعنا في هذا العدد نتوقف عند أسلوب العلاج بالصدمات، إذ أنه هو أسلوب العلاج الذي استعمله إله النجاة هنا في هذه الحالة مع مردخاي.
والإجابة هي: نعم، فهناك حالات يعرفها الأطباء جيدًا لا بد فيها من استعمال الصدمات!
فأطباء التخدير، وأطباء القلب، ولا سيما في حجرة العناية المركزة كثيرًا ما ينقذوا حياة إنسان توقف قلبه فجأة باستعمال صدمة كهربائية لقلبه يعود القلب بسببها لعمله من جديد.
كذلك في الطب النفسي يضطر الطبيب، في بعض الحالات، عندما يرى أن أفكار المريض وعواطفه وسلوكياته تدل على أن هناك خللاً كبيرًا في العمليات الكيميائية المسئولة عن جميع أنشطة المخ، يضطر إلى توجيه صدمات كهربائية إلى مخ المريض من جهاز معد لهذا، أملاً في أن هذه الصدمات تنجح في إرجاع الإشارات الكهربائية وبالتالي العمليات الكيميائية في المخ إلى انتظامها، ليعود المخ بسببها يعمل عمله الطبيعي كالمعتاد.
فإن كان أهم عضوين في جسم الإنسان تعتمد عليهما حياته، القلب والمخ، يعالجان بالصدمات، فلا عجب إن كان هذا يحدث بالتمام في حياتنا الروحية عندما يقرر طبيب أرواحنا العظيم علاج قلوبنا وأذهاننا بالصدمات! وأرجو أن تلاحظ الارتباط بين ضعف الإيمان وكل من القلب والذهن في كل حالات ضعف الإيمان التي سجلها الكتاب، أنظر على سبيل المثال هذه العبارة: «أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان» (لو24: 25).
ويقول الكتاب إن القلب يؤمن به (رو10: 10). لذا يمكننا القول مجازًا إن القلب هو عضو الإيمان في كياننا الروحي، وبالتالي فعندما ينشط ميكروب ضعف الإيمان فأول ما يصيب يصيب قلوبنا فتبرد وتضعف وربما تتوقف عن ضخ نبضات الإيمان إلى حياتنا. كذلك يصيب هذا الميكروب أذهاننا فنصاب بالبلادة والبطء والغباء وهي من أهم أعراض مرض ضعف الإيمان. وفي هذه الحالات قد يرى الطبيب العظيم أن العلاج بالصدمات هو الخيار الوحيد.
والكتاب سجل لنا حالات كثيرة استخدم الرب فيها هذا العلاج ونجح نجاحًا كبيرًا، فقد استعمله الرب مع يعقوب في تكوين34، 35 من خلال مأساة دينة ابنته، ليرد نفسه ويسترجعه للشركة معه، واستعمله الرب مع داود في مأساة حريق صقلغ. فقد سقط داود في غيبوبة عدم الإيمان وطالت المدة حتى وصلت ستة عشر شهرًا! بل وتعمقت الغيبوبة جدًا فزاد هذيان عدم الإيمان حتى أنه كان عتيدًا أن يحارب شعب الله الحي! فكان لا بد من العلاج السريع بالصدمات. وبالفعل طرده أخيش، وأحرق العمالقة صقلغ وسبوا نساءه ونساء كل الرجال الذين معه، وجميع البنين والبنات. ثم كانت الصدمة الثالثة المرعبة بأن قرر الشعب الذي معه رجمه!!! وهنا عاد داود لوعيه، وتشدد بالرب إلهه!!!!
وهنا أيضًا في هذه الحالة التي نحن بصددها، حالة مردخاي، نرى علاج غيبوبة ضعف الإيمان باستخدام الصدمات. فهيا لنرى كيف كان هذا.
مردخاي والاسترخاء:
كان قد مر أكثر من أربع سنوات منذ اعتلت أستير عرش البلاد. أربع سنوات جميلة، عاش فيها مردخاي يحصد ما زرعت يداه، كيف لا؟ وأستير ابنته العزيزة التي وهب حياته لأجلها قد صارت ملكة البلاد! بل وها هي على العرش بنفس ولائها وطاعتهـا له وتقديرها العميق لفضله عليها، إذ يقول عنها الكتاب: «وكانت أستير تعمل حسب قول مردخاي كما كانت في تربيتها عنده» (أس2: 20)، لذا امتلأ على ما يبدو بالثقة والشعور بالأمان. فإن كانت أستير تحرك العرش، فهو يحرك أستير التي تحرك العرش! فكيف لا يطمئن؟ وكيف لا تكون الأيام أجمل أيام؟
إن كانت أستير تحرك العرش، فمردخاي يحرك أستير التي تحرك العرش! فكيف لا يطمئن؟ وكيف لا تكون الأيام أجمل أيام!
ولم يعكر صفو هذه الأيام الجميلة سوى هذا العماليقي الذي يطالب مردخاي بالسجود له، ومردخاي لا يسمع له. ومن جواب مردخاي على عبيد الملك الذين كانوا يكلمونه يومًا فيومًا لكي يسجد لهامان؛ نرى أثر وصول أستير إلى العرش على ثقة مردخاي بنفسه، ففي هذا الجواب نراه قد تحرر من خوفه من الكشف عن حقيقة جنسه، إذ أخبرهم أنه لن يسجد لأنه يهودي (أس3: 4)، بينما قبل وصول أستير إلى العرش كان يخفي هذه الحقيقة عمن حوله، حتى أنه أوصى أستير نفسها أن لا تخبر أحدًا عن جنسها وشعبها قبل أن تصل للعرش! (أس2: 20). إذًا ماذا حدث؟ لقد صار بلغة وقتنا الحاضر ”مسنود“. كيف لا وملكة البلاد في مقام ابنته؟
في هذا الجو، جو الطمأنينة النابعة من تحت، الطمأنينة المبنية على الظروف الحسنة، يقل شعور المؤمن بالاحتياج العميق للرب! ولقد تعلمت شخصيًا أن احتياجنا لابتسامة الرب في وجوهنا يقل بقدر ابتسامة الدنيا لنا، ويزداد على قدر عبوستها في وجوهنا! لذلك فإني لا أرتبك عندما يعبس أحد في وجهي إذ يدفعني هذا دائمًا للوجه الذي ما عبس أبدًا أمامي.
في هذا الجو؛ جو ابتسامة الدنيا في وجوهنا نسترخي، ونبدأ في خلع السلاح، وغالبًا ما يكون ترس الإيمان هو أول قطعة نتخلى عنها لثقل وزنه، فهو أثقل قطعة في كل السلاح، وهنا تكون اللحظة المناسبة للقناص عدونا في أن يصوب سهامه الملتهبة إلينا ليسقطنا.
وهذا ما حدث مع مردخاي وهو عينه يحدث معنا: استرخاء مادي ونفسي، يعقبه إقلال من الشركة والتغذي على الكلمة، تضعف المناعة الروحية، ينشط ميكروب ضعف الإيمان، يصاب المؤمن بالهزال، ينحى ترس الإيمان، يغتنم القناص الفرصة ويصوب سهمه الملتهب، يسقط المؤمن في هذيان ضعف الإيمان. وقد كان السهم الملتهب الذي أصاب مردخاي هو هكذا: ”إنك هالك أنت وشعبك لا محالة، ولا نجاة لكم على الإطلاق، فالقانون قد صدر والشريعة لا تُنسخ“، فكان منه كل ما كان، وهو ما أسميه هذيان غيبوبة ضعف الإيمان. وفي هذيانه زاد إذ لم يلجأ للجهة الصحيحة للعلاج والنجاة، بل لجأ للظهر الذي استند عليه طيلة أربع سنوات، لجأ إلى أستير وليس إلى الرب! وأعتقد أنه عندما لجأ لها ما خطر على باله ولو للحظة واحدة أن أستير من الممكن أن تخذله، على الأقل لأربعة أسباب.
أولاً: العلاقة الحبية العجيبة بينه وبينها، فهو رباها وكان لها أبًا وهي له ابنة.
ثانيًا: طاعتها المستمرة له بعد وصولها للعرش.
ثالثًا: خطورة المشكلة فهي إبادة شعبهما بأكمله.
رابعًا: ثقته من مكانة أستير عند الملك وسلطانها وسطوتها.
كل هذا جعله متيقنا أنها فورًا ستنهي هذه المشكلة. بل وربما كان يريدها أن تنهي المشكلة بسرعة قبل أن تغادر الجياد التي تحمل قانون الإبادة أسوار مدينة شوشن، أي قبل أن يصل القانون إلى أي بلد من البلدان ويصبح بعدها التدخل صعباً أو مستحيلاً. لكن..
جاءه الرد المخيف، جاءته الصدمة العنيفة التي ما كان يتوقعها أبدًا: أستير تعتذر عن الدخول لا اليوم ولا لمدة ثلاثين يوم! بل وربما كان يحمل كلامها له لومًا خفيفًا لمجرد الطلب نفسه. إذ أنه من المفترض فيه، وهو واحد من عبيد الملك الجالسين في بابه، أن يكون على دراية كافية بسنن الدخول للملك والاحتياطات الأمنية المتبعة في ذلك، تلك التي لا يعرفها فقط العبيد الجالسين في باب الملك نظيره، ولا حتى سكان العاصمة شوشن فقط، بل كل شعوب بلاد الملك! اسمعها ماذا تقول:
«إِنَّ كُلَّ عَبِيدِ الْمَلِكِ وَشُعُوبِ بِلاَدِ الْمَلِكِ يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ دَخَلَ أَوِ امْرَأَةٍ إِلَى الْمَلِكِ إِلَى الدَّارِ الدَّاخِلِيَّةِ وَلَمْ يُدْعَ فَشَرِيعَتُهُ وَاحِدَةٌ أَنْ يُقْتَلَ، إِلاَّ الَّذِي يَمُدُّ لَهُ الْمَلِكُ قَضِيبَ الذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَحْيَا. وَأَنَا لَمْ أُدْعَ لأَدْخُلَ إِلَى الْمَلِكِ هَذِهِ الثَّلاَثِينَ يَوْماً». (أس4: 11)
هنا كانت الصدمة العنيفة لمردخاي، أين محبتها له؟ أين طاعتها له وثقتها في مشورته؟ أين شجاعتها التي رباها عليها؟ أين محبتها لشعبها؟ أين شعورها بهول الكارثة؟
والسؤال الهام الآن: ماهو تصورنا لأثر مثل هذه الصدمة على مردخاي ولا سيما أنه كان من الأصل منهارًا بسبب الكارثة الأولى؟
وقبل أن تسترسل-عزيزي القارئ- في تصوراتك عن مزيد من الانهيار، ارجع بسرعة إلى كلمات الصدق والصحو، كلمات شموخ الإيمان، التي نطق بها:
«لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك دون جميع اليهود. لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر، أما أنت وبيت أبيك فتبيدون، ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك»!!!!! (أس4: 13و14).
تأمل بدقة هذه الكلمات، لتكتشف معي أن أستير كانت فقط مجرد جهاز الصدمات، الجهاز الذي استخدمه الطبيب العظيم إله النجاة ليصدم به قلب مردخاي هذه الصدمة العنيفة، لكي يستفيق من حالة الاسترخاء التي دخلها بوصول أستير للعرش، ولكي يعود قلبه يضخ من جديد نبضات الإيمان في عروقه، فيعود يرى في اسم الرب فقط البرج الحصين الذي يركض إليه الصديق ويتمنع.
أحبائي : عندي لكم الآن سؤال : كيف تنظرون لهؤلاء الذين صُدمتم فيهم أشد الصدمات؟
ربما يكون ابن أو أخ أو قريب أو صديق، أو ربما أعز وأغلى الأحباب تمامًا كأستير بالنسبة لمردخاي!! فما هو موقفك منه الآن بعد أن صدمك هذه الصدمة العنيفة؟ هل تبغضه؟ هل تشعر بالمرارة من جهته؟ هل تبغي الانتقام لمشاعرك الجريحة وقلبك المكسور؟ أرجوك: لا
أرجوك أن تهدأ وتجلس وتعيد كل الحسابات، راجع أين أنت من الإله العظيم صاحب السلطان، راجع أين محبتك له، وأين أنت من محبته لك. راجع وحدد أين كنت منه حين صدمك الأحباء.
ثق يا عزيزي أنك ستكتشف في جلستك هذه عند قدميه، أن الذين صدموك لم يكونوا سوى جهاز الصدمات، في يد الطبيب العظيم الذي لا يبغي لك إلا البركة والقوة والانتصار. هيا خذها من يده، وهيا ارتمِ في حضنه، وهيا تشدد بذراعه، فهذه هي غاية الصدمات.