أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2019
أَفُود جِدْعُون
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

*«وَقَالَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ لِجِدْعُونَ: تَسَلَّطْ عَلَيْنَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنُ ابْنِكَ، لأَنَّكَ قَدْ خَلَّصْتَنَا مِنْ يَدِ مِدْيَانَ. فَقَالَ لَهُمْ جِدْعُونُ: لاَ أَتَسَلَّطُ أَنَا عَلَيْكُمْ وَلاَ يَتَسَلَّطُ ابْنِي عَلَيْكُمُ. الرَّبُّ يَتَسَلَّطُ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ جِدْعُونُ: أَطْلُبُ مِنْكُمْ طِلْبَةً: أَنْ تُعْطُونِي كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِهِ. لأَنَّهُ كَانَ لَهُمْ أَقْرَاطُ ذَهَبٍ لأَنَّهُمْ إِسْمَاعِيلِيُّونَ. فَقَالُوا: إِنَّنَا نُعْطِي. وَفَرَشُوا رِدَاءً وَطَرَحُوا عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِهِ. وَكَانَ وَزْنُ أَقْرَاطِ الذَّهَبِ الَّتِي طَلَبَ أَلْفًا وَسَبْعَ مِئَةِ شَاقِلٍ ذَهَبًا، مَا عَدَا الأَهِلَّةَ وَالْحَلَقَ وَأَثْوَابَ الأُرْجُوانِ الَّتِي عَلَى مُلُوكِ مِدْيَانَ، وَمَا عَدَا الْقَلاَئِدَ الَّتِي فِي أَعْنَاقِ جِمَالِهِمْ. فَصَنَعَ جِدْعُونُ مِنْهَا أَفُودًا وَجَعَلَهُ فِي مَدِينَتِهِ فِي عَفْرَةَ. وَزَنَى كُلُّ إِسْرَائِيلَ وَرَاءَهُ هُنَاكَ، فَكَانَ ذَلِكَ لِجِدْعُونَ وَبَيْتِهِ فَخًّا» (قض ٨: ٢٢-٢٧)

لا شك أن جِدْعُون صنع الأَفُود تذكارً للخلاص العظيم الذي كان مُقرًّا ومُوقنًا أنه من الرب، وكان يسعى أن يُخلّد البركة التي أُغدِقت على إسرائيل، بإقامة نصب خارجي، علامة عليها. ولكنهُ استعمل حكمتهُ، وأسقطهُ الشيطان في فخٍ أنتج ثمرًا رديًا لهُ ولبيتهِ ولكل إسرائيل أيضًا. والفَخ الموضوع هنا هو أن صاحب الخلاص ومصدره غُيِّب عن المشهد، ولم يعد ثمة تقدير إلا إلى العلامة الخارجية!

ومثلهُ مثلنا عندما نطلب أن نصنع تذكارًا للبركة التي يكون الله نفسهُ قد صنعها في وسطنا، ظانين أننا نُديمها بوسائط نُرتبها حسب حكمتنا، ولكننا إنما نظهر بذلك التواءِ قلوبنا، وعدم اتكالنا عَلَى الله وحدهُ، القادر أن يُبارك في كل حين، ولكن حسب إرادتهِ وكلمتهِ، لا حسب ترتيباتنا البشرية. فإذا صار انتباه لكلمة الله بين الناس وقتًا ما، وبارك الله نفوسًا كثيرة بواسطة خدمتنا، لا يُلبث أن يُسمع هذا السؤال مِن كثيرين: نعم، قد صارت بركة، ولكن ماذا يضمن استمرارها؟ وعَلَى أي شيءٍ تستندون ليُديمها لكم؟ فنُجيب: ليس عندنا كفالة، ولا شيء مطلقًا يضمن لنا ذلك، سوى حضور الروح القدس معنا، وإن حدنا عن كلمة الله نُحزنهُ، ولا يُصادق حينئذٍ عَلَى ترتيباتنا، لا بل هي نفسها تصير فخًا لنا، إذ ننسى الله بعد قليل، وننهمك بما رتبناهُ من حكمتنا. ماذا ينفعنا إن وضعنا قوانين ومبادئ، ولو كانت حسنة بذاتها، وحافظنا عليها غاية المحافظة، بدون الروح القدس؟ ألا تكون صورة فارغة أو جثة بلا حياة؟

كم مرة حصلت انتعاشات ونهضات في كنيسة الله، من فعل الروح القدس، وامتلأَ خدام المسيح غيرة ومحبة للبشر، وقالوا: قد صارت بركة عظيمة، ويجب أن نبذل جهدنا لكي نُثبّتها ونُديمها للأجيال الأخرى، ونظموا نظامات مختلفة وعديدة، ولم ينتج منها إلا الشرّ! لأننا لا نقدر أن نحفظ الحق ونديم بركة الله بواسطة ترتيباتنا، وربما نصنعها من إحساسات تقوية، وبحسن نية، مثلما فعل جِدْعُونُ، ولكن ذلك يُحاكي قلة الاتكال عَلَى الله. كان الروح القدس قد عمل في جِدْعُون وصنع الرب خلاصًا عظيمًا لإسرائيل عن يدهِ، ولكنهُ هو نفسهُ أيضًا هيأ الطريق لارتداد إسرائيل.

إن تاريخ جِدْعُون يشهد لصلاح ومحبة الله غير المحدوة، نحو شعبه، الذي كثيرًا ما أهان الله، جالبين التأديب على أنفسهم. اختار الله جِدْعُون ليُخلِّص شعبه في وقته. وإن الأهلية الأدبية لجِدْعُون تتجلى في ردوده على مَلاَك الرَّبِّ. لقد كان له سمتان تجعلانه الشخص المناسب لعمل الله.

أولاً: كان قلبه متوافقًا مع أفكار الله تجاه شعبه: كان جِدْعُونُ يوَّحد نفسه مع المتألمين المُتوَجِّعين. لقد ظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَالَ لَهُ: «الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ!»، فكانت إجابة جِدْعُون: «إِذَا كَانَ الرَّبُّ مَعَنَا فَلِمَاذَا أَصَابَتْنَا كُلُّ هَذِهِ» (قض ٦: ١٢، ١٣). إن كل خدمة حقيقية هي ثمرة فكر وروح ذلك المجيد الذي أخذ صورة عبد. وقد عكست إجابة الرب على جِدْعُون تقديره الكبير له. فقد «الْتَفَتَ إِلَيْهِ الرَّبُّ وَقَالَ: اذْهَبْ بِقُّوَتِكَ هَذِهِ وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ» (ع١٤).

ثانيًا: كان له شعور عميق بضعفه وعدم كفايته، وبعدم مقدرته على الخدمة الفعالة، ومُفرَّغًا بالتمام من الثقة بالنفس؛ الصفة المُلازمة لإنسان العالم: وعلينا أن نضع ذواتنا باعتبار ذلك سبيل العظمة الحقيقية.

لقد أظهر الرب أناته ورأفته لخادمه، عندما خجل جِدْعُونُ أن يطلب برهانًا إضافيًا على أمانة الله . ففي صلاحه المتزايد، وجه الرب جِدْعُون إلى محلة المديانيين، حيث استمع إلى حلم أحدهم، وتفسيره. وتشجع قلبه، ولكنه ذُكِّر مُجدَّدًا بضعفه باعتباره مجرد «رَغِيفُ خُبْزِ شَعِيرٍ» (قض ٧: ٩-١٤).

إن الله المُبارك يعرف جيدًا ميل قلوبنا المسكينة لأن نبتعد عنه، كمصدر للقوة، خصوصًا عندما يهبنا نصرة من لدنه، فننتفخ ونزهو وننسى أننا ضعفاء في ذواتنا. والطريقة التي تمَّ بها تخفيض عدد أفراد جيش جِدْعُون من ...,٣٢ رجلاً إلى ٣٠٠ رجلاً، تشهد لهذا الحق ذاته؛ النصرة الحقيقية من عند الرب، لأنه «لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (زك ٤: ٦)، «الْجَبَّارُ لاَ يُنْقَذُ بِعِظَمِ الْقُوَّةِ» (مز ٣٣: ١٦). ومن المفيد أن نرى كيف أن جِدْعُون يذهب من نصرة إلى نصرة، طالما كان يسلك بالاعتماد على الرب. ولكنه بعد ذلك كله سقط في فخ شنيع، عندما جمع الحُلي والأقراط من الشعب، وصنع مِنْهَا الأَفُود الذي حوَّل فكره وأفكار الشعب عن الله الحي، لتستقر على علامة خارجية، للشهادة عن بركة سالفة، ليس بوسعها أن تضمن وتؤّمِن صلاحًا أو قوة حاضرين. ولكنه – ويا للأسف – كان يرمي إلى ربط الخلاص بنفسه وببيته.

والآن دعونا نلاحظ باختصار الانتصارات الأدبية لإنسان الله هذا، قبل أن يُعرقله العدو ويُوقعه في فخه. لقد تصرَّف في بيته بالأمانة نحو الله، عندما هدم مذبح البَعْل الذي لأبيه ... إلخ. فالأمانة تجاه الله ينبغي أن تبدأ في البيت، ولا بد أن يأخذ الله مكانه الصحيح هناك أولاً. فالله يختبرنا أولاً في البيت، وهناك نتعلَّم مَن هو الله، ومِن ثمَّ نواجه العدو في الخارج. ولقد كانت روح جِدْعُون في مواجهة توبيخات رجال أفرايم جميلة للغاية؛ لقد أظهر فكرًا متضعًا هدأ كل مُعارضه. لقد حَسَبَ الآخرين أفضل منه، ففاز بنصرة أعظم من تلك التي حازها على المديانيين (قض ٨: ١-٣).

فخ مُخاتل آخر وُضِعَ في طريقه. فرغم أن رجال إسرائيل عاملوه أولاً باستخفاف، إلا أنهم الآن يرغبون أن يملك عليهم. ولكن قلبه كان ثابتًا، فوَّبخ الشعب بصرامة، لأنهم حولوا أنظارهم سريعًا عن الله، ليرفعوا الإناء الذي استخدمه لخلاصهم (قض ٨: ٢٢، ٢٣). ولكن ... وا أسفاه! فسبيل الجسد هو عدم الإيمان! فمع أن جِدْعُون رفض عروضهم، إلا أنها أثرت على روحه، فبدا بعدها راغبًا في أن يكون شيئًا، وأن يربط الخلاص بنفسه! لم يكن جِدْعُونُ مُحصَّنًا ضد مكائد العدو! لقد سقط من قمة السمو الأدبي التي اعتلاها عندما كان غير واثق بنفسه، شاعرًا بضآلته. ولكن جِدْعُونُ سقط، واكتنف الألم والظلام بقية تاريخه، وتاريخ عائلته.

هذا درس مُلفت للغاية، عن حاجتنا للبقاء في حالة الاعتماد والاتكال على الله، سالكين بالإيمان أمامه. فلا انتصارات سالفة تؤَّمن الخطوة التالية.


* Extracted from S. M. Anglin in ”The Voice“, 1895.