أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2019
صَفْنَاتَ فَعْنِيحَ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

أخي العزيز: في بركة يعقوب لبنيه (تك ٤٩)،*نجد تلك الكلمات الحلوة والمألوفة عن يوسف، والتي استخدمها يعقوب الشيخ الجليل الوقور: «يُوسُفُ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، (وأيضًا) غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ عَلَى عَيْنٍ. أَغْصَانٌ (أغصانه) قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ حَائِطٍ» (تك ٤٩: ٢٢). ونحن نعلم أن مَن هو “أعظم من يوسف” كان أمام الذهن النبوي للروح القدس في يعقوب رئيس الآباء حينما نطق بهذه الكلمات، التي لم أذكر منها سوى النذر القليل فقط. ويمكن قراءة كل البركة في ذلك الأصحاح. والقدر الذي اقتبسه يُجيب على الغرض الحاضر الذي أدعو انتباهك إليه الآن.

إننا إذا رجعنا إلى سفر التكوين، وقرأنا القصة الشيقة ليوسف (تك ٣٧-٤٠)، لوجدنا أنه مِمَن سُجلت قصصهم في الكتاب المقدس، فإن يوسف هو أكثر الناس بُعدًا عن الملامة. ونقرأ في تكوين ٤١ عن لحظة تمجيده وارتفاعه على كل أرض مصر. كان له في ذلك الوقت من العمر ثلاثون عامًا، ولم تكن في حياته أية ذرة من الخزي، ولكن إخوته رفضوه بقسوة، وباعوه لآسريه، واضطُهِد وعانى معاناة شديدة. لقد عانى من الحكم الظالم، ومن السجن، وفي الحديد دخلت نفسه. ولكن كان في كل هذا – كما في كل تفاصيل حياته الأخرى – رمزًا لمن هو آتٍ. لقد عبَّر أحلام فرعون، وأشار عليه بما حذَّر به الله عن ضرورة الإعداد لسنوات المجاعة القادمة «فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِعَبِيدِهِ: هَلْ نَجِدُ مِثْلَ هَذَا رَجُلاً فِيهِ رُوحُ اللهِ؟» (تك ٤١: ٣٨). ورفَّعه فرعون ليكون رئيسًا، ليحكم ويتسلط على كل شعبه «ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: بَعْدَ مَا أَعْلَمَكَ اللهُ كُلَّ هَذَا، لَيْسَ بَصِيرٌ وَحَكِيمٌ مِثْلَكَ» (ع ٣٩). بل وجعله أيضًا على بيته، بيت فرعون، وحاكمًا على كل شعبه حسب كلمته. ولكن فقط يكون فرعون أعظم منه في العرش، وسيكون له السلطان على كل إنسان، ودُفِعَ الكل في يده (ع ٤٣، ٤٤).

ولقد دعا فرعون اسمه “صَفْنَاتَ فَعْنِيحَ” الذي يترجمه البعض باللغة المصرية “مُخلِّص العالم”، كما يترجمه معلمو اليهود بالعبرية “كاشف الأسرار”. وطبعًا لا يتسع المجال هنا للتعليق على المغزى المزدوج لهذا اللقب الذي أطلقه فرعون على يوسف.

وفي سنوات الشبع – سنوات النعمة تلك – أنتجت الأرض حصادًا وفيرًا من الحقول. كان الحاصد ينال أجرته، ويجمع الثمار للمعيشة، ويخزن من أجل سنوات تفشي المجاعة في الأرض. واقترن يوسف بزوجة في زمن رفضه من إخوته، وتغربه عنهم. ووُلِد له ابنان: “مَنَسَّى” بكره، والاسم يعني “نسيان”، قائلاً: «لأَنَّ اللهَ أَنْسَانِي كُلَّ تَعَبِي وَكُلَّ بَيْتِ أَبِي» (ع ٥١)؛ وأفرايم ابنه الثاني، والاسم يعني “الإثمار المضاعف”، قائلاً: «لأَنَّ اللهَ جَعَلَنِي مُثْمِرًا فِي أَرْضِ مَذَلَّتِي» (ع٥٢). ونسى يوسف تعبه وكل بيت أبيه، وصار مُثمرًا لله في أرض مَذلَّته وضيقه.

وإذا رجعنا إلى إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع، نقرأ عن بداية الخدمة الجهارية للرب، ونتقابل مع الشخص الذي كان فيه روح الله، والذي ليس بكيل أعطاه الله الروح (يو ٣: ٣٤). وإذا مضينا قدمًا نراه يمضي إلى السامرة، بعدما بلغ الثلاثين من عمره. ففي خدمته للنعمة «تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضًا إِلَى الْجَلِيلِ. وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ» (يو ٤: ٣، ٤). لقد ترك خاصته الذين جاء إليهم، والذين رفضوه أدبيًا ومعنويًا وعقليًا «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يو ١: ١١). لقد مضى في ملء النعمة إلى السامرة المُدنَّسة. وكان عند ذاك قد أعطاه الله – مثلما كان دائمًا - «سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ جَسَدٍ» (يو ١٧: ٢)، «وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ» (يو ٣: ٣٥). وهناك – في السامرة – برهن بنفسه أنه حقًا “كاشف الأسرار”؛ فهو الوحيد الذي قال للمرأة السامرية الخاطئة، كل ما فعلت (يو٤: ٢٩). وعندئذٍ نسى تعبه، ونسى الرحلة الطويلة المُجهِدة يومذاك، تحت حرارة شمس النهار اللاهبة، حتى جلس متعبًا على البئر. هو حقًا الغصن المُثمِر الذي يفوق كل غصن. لقد نسى عطشه، ونسى جوعه أيضًا. لقد انتعش بالطعام الذي له، الذي لم يعرفه وقتذاك التلاميذ (ع ٣٤). لقد نسى بيت أبيه، وفي أرض ضيقته كان مثمرًا. لقد وُجِدت المرأة السامرية منه، هو الذي «قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لو ١٩: ١٠). وكانت كلمته للتلاميذ، في سنين الشبع التي أوشكت أن تُشرق، قائلاً: «ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ» (يو ٤: ٣٥). لقد آمن به كثيرون من السامريين، وقالوا للمرأة: «إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ (الْمَسِيحُ**) مُخَلِّصُ الْعَالَمِ» (ع ٤٢).

ولنا الآن “صَفْنَاتَ فَعْنِيحَ” الحقيقي. وبالتأكيد نستطيع أن نقول: «وَنَحْنُ قَدْ نَظَرْنَا وَنَشْهَدُ أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَ الاِبْنَ مُخَلِّصًا لِلْعَالَمِ» (١يو ٤: ١٤). ولقد تعلَّمنا بالتأكيد أنه “كاشف الأسرار” من خلال نافذة نفوسنا، مثلما قالت عنه المرأة السامرية: «هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ (أَلَيسَ) هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟» (يو ٤: ٢٩). ويستطيع ضمير كل واحد منا أن يؤكد ويشهد على ذلك. ولسنا بحاجة إلى دليل أو برهان إذ أن هذا ما يعمله المسيح معنا، ونحن معه.

ف. ج. باترسون


* STEM Publishing: Magazines: The Christian’s Friend: 1877: Zaphnath-Paaneah

** وردت في الترجمة المتداولة «هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ»، ولكن كلمة «الْمَسِيحُ» لم ترد هنا في أفضل المخطوطات الموثوق بها، وكذلك في معظم الترجمات العربية، وفي ترجمة داربي الإنجليزية.