تحدثنا في العدد السابق أن داود رجل الله لم يستشر الرب في بعض المناسبات وكان هذا لضرره، لكنه بصفة عامة كان رجل الشركة. ولذلك سنمر الآن على سبع مناسبات اهتمَّ داود فيها أن يسأل الرب: (1) «فسأل داود من الرب قائلاً: أأذهب وأضرب هؤلاء الفلسطينيين؟ فقال الرب لداود اذهب واضرب الفلسطينيين وخلِّص قعيلة» (1صم23: 2) *** لقد أُخبر داود أنَّ الفلسطينيين يُحاربون قعيلة وينهبون البيادر. لقد شعر أن أهل قعيلة في ضيق، ويتعرَّضون للنهب والسلب من الفلسطينيين، ولقد بَدر في ذهنه أن يصعد هو والرجال الذين معه ليُخلِّص أهل قعيلة، لكن السؤال هل الله يريده أن يذهب أم لا؟ هل هذا الأمر يحتاج إلى سؤال الرب؟ أليست القضية محسومة وواضحة؟ لقد كان هناك من الحيثيات الكثير الذي يُقنع داود بعدم توريط نفسه في قضية ليس هو طرف فيها، وأن الأسلم له ومن معه أن يبتعد عن هذا الأمر ولا يتدخَّل فيه، وهذا للأسباب الآتية: 1- لم يكن هو آنذاك المسؤول عن سلامة الشعب وحفظهم من أي عدوان، إذ ما زال شاول الملك جالسًا على العرش، وهو الذي عليه أن يأخذ المبادرة ويهتم بسلامة الشعب، ولن يلوم أحد داود إن لم يتدخَّل في هذا الأمر، فليجعل الأمور تسير في وضعها المألوف. 2- لداود مشاكله الخاصة، والكفيلة أن تستحوذ على كل أفكاره وطاقاته، فهو طريد من شاول الملك، والذي لن يتردَّد في قتله لو أُتيح له ذلك، فهل هناك مجال بعدُ أن يُفكِّر في مشاكل غيره؟! إنَّ أيَّة مشاكل أخرى حتمًا ستتضاءل وتتصاغر أمام مشكلته هو، ولن يكون هناك طاقة بعد باقية عنده يُنفقها في مشاكل الآخرين. 3- لم يُبدِ الشعب أي تعاطف معه، وهو صاحب الانتصار العظيم على جليات، والممسوح ملكًا بيد صموئيل من قِبَل الرب، فهو في الواقع الملك الشرعي للبلاد بحسب فكر الرب، ولكنَّه لم يلقَ على الإطلاق أي ترحيب أو تعضيد من الشعب، وهذا واضح جدَّا من تاريخ داود بعد ذلك، إن أهل قعيلة أنفسهم ما كانوا يتردَّدون في أن يُسلِّموه لشاول لو أتيح لهم ذلك؟! (راجع 1صموئيل23: 12)، ولقد أبدى الزيفيّون استعدادهم بأن يُسلِّموا داود لشاول، كاشفين عن مكان تواجده، حتى يتمكَّن شاول من الإمساك به (1صم23: 19)؛ كما أن نظرة نابال له لم تكن قطّ نظرة تقدير واحترام، بل كان في عينيه مجرَّد عبد هارب من سيده، فلقد أجاب رسل داود بالقول المُهين: «قد كثر اليوم العبيد الذين يقحصون (يهربون) كلُّ واحدٍ من أمام سيِّدهِ (1صم25: 10). فهل يُخاطر داود بحياته وحياة من معه من أجل أناس لا يعطونه التقدير والاحترام الجديرين به كمسيح الرب؟! 4- يقينًا أنَّ ما بَدرَ في أذهان رجاله تفكَّر هو أيضًا فيه، وهو أنَّ ظروفه حرجة وحياته وحياة من معه في خطر على الدوام، وليس من مصلحته أن يكشف لشاول عن مكان تواجده حتى لا يجدَّ في أثره، ويُسهِّل عليه مخططاته في الإمساك به، وهذا ما قاله لاحقًا رجاله له: «ها نحن ههنا في يهوذا خائفين، فكم بالحري إذا ذهبنا إلى قعيلة ضدَّ صفوف الفلسطينيين؟» (1صم23: 3). فالحكمة تقول لا داعٍ للمجازفة والسير في طريق محفوف بالمخاطر. 5- أيَّّة إمكانيات معه يستطيع بها أن يواجه الفلسطينيين ليضربهم ويخلّص قعيلة؟ فإن كان شاول الملك مع كل ما لديه من إمكانيات لم يُحرِّك ساكنًا، هل يستطيع هو بحفنة من الرجال، أن يواجه من لم يُحاول شاول أن يواجههم؟! 6- ألا يكفيه عداوة شاول له، وما يلاقيه منه، من بطشٍ وقسوةٍ؟ فلماذا يفتح على نفسه جبهة أخرى، بمحاربته للفلسطينيين؟ ألا يكفيه ما يعانيه من شاول؟ فليظل كما هو محايدًا مسالمًا، ولا يُحاول أن يكسب لنفسه أعداء آخرين. غير أنَّ كلَّ هذه الحيثيَّات لم تُثبط عزيمة داود، والذي لم يحتمل أن يرى إخوته في ضيق، يُعانون من النهب والسرقة بيد الفلسطينيين، إلاَّ إنَّه من الناحية الأخرى لم يتسرَّع في اتخاذ القرار، بل نجده يلجأ إلى الرب مستفسرًا منه ماذا يفعل .. هل يصعد لمواجهة الفلسطينيين أم لا؟ فلم يكن سلبيًّا مِمَّا يجعله يأثر السلامة فيبتعد عن أمور غيره، ولم يكن متهوِّرًا مِمَّا يدفعه في أن يُقحم ويورِّط نفسه فيما لا يعنيه. إنَّه يُحب إخوته ويهتم بخيرهم وسلامتهم، وأيضًا يُقدِّر الرب، فلا يستطيع أن يتحرَّك بموجب أيَّة بواعث سوى ما يُمليه عليه الرب. وجدير بالذكر أنَّ الرب في نعمته يعرف أن يُحقق أشواق من يُحبونه ويتَّقونه، فكان داود يعيش في عهد الظلال، عهد الطفولة الروحية؛ ولم يكن الروح القدس، المرشد الإلهي يسكن في المؤمنين بصفة دائمة كما هو امتيازنا الآن (راجع أف1: 13، 14؛ 1يو2: 20، 27؛ يو16: 12، 13). ولم يكن الكتاب المقدس، الذي هو السراج المنير لنا، قد اكتمل بعد. من أجل ذلك نجد الرب في صلاحه يُرتب لعبده داود، الشغوف على فهم فكره، أن يذهب إليه أبياثار الكاهن ومعه الأفود، والذي من خلاله يستطيع أن يسأل الرب، ويحظى بإجابة الرب على كل تساؤلاته!! (راجع1صم22: 20؛ 23: 6، 9، 10؛ 30: 7، 8). (يتبع)
|