أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2019
بولس وسيلا في السجن
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

هذه الحادثة التي ترد في حياة الرسول بولس، لها مغزى هام للغاية، حتى إنه من المستحيل أن نمر عليها مرور الكرام، بدون تأمل منفرد ومتميّز. ومثلما حدث عندما رفض عزرا يد المساعدة من أعداء يهوذا وأورشليم، في بناء الهيكل، فإنهم أسقطوا القناع عن وجوههم، وكشفوا عن أنهم أعداء بكل ما في الكلمة من معنى، هكذا حدث هنا في فيلبي. لقد أُحبطت مكيدة الشيطان حينما سعى إلى إفساد عمل الرسول بولس، وذلك بفعل نشاط الرسول بولس، وبصيرته الروحية. وقد استخدم الشيطان في المقام الأول الجارية المسكينة التي امتلكها، ثم هيَّج سادتها الذين عندما رأوا «أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ»، رضوا عن طيب خاطر أن يكونوا أدوات فعالة للشيطان، فما كان منهم إلا أن «أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ وَجَرُّوهُمَا إِلَى السُّوقِ إِلَى الْحُكَّامِ» (ع ١٩). لأنهم ما كانوا ليسمحوا لرجال غرباء أن يقتحموا سكينة مدينة وثنية، ويُهاجموا الشيطان في واحد من معاقله.

ومن الجدير بالملاحظة أنه بالرغم من كل مجهودات الشيطان الماكرة، فإنه لم يستطع إخفاء شخصيته الحقيقية. فماذا كان السبب في عداوة هؤلاء المشتكين للرسولين؟ ببساطة، وليس لأي سبب آخر، لأنهم فقدوا “رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ”، لأن الجارية قد أُنقذت، وخرج منها الروح النجس. ولكن نلاحظ أنهم لم ينطقوا بكلمة واحدة متعلقة بهذا الموضوع أثناء شكواهم، بل حاولوا إخفاء غرضهم بأن زعموا أنهم مهمومين بسلام مدينتهم، وأنهم فاعلو خير لجمهور المدينة! ولكن ليُحققوا غرضهم، قدَّموا سلسلة من الاتهامات الزائفة. ولقد قال الرب يسوع عن الشيطان أنه «مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ» (يو ٨: ٤٤).

كانت تهمتهم الأولى هي: «هَذَانِ الرَّجُلاَنِ يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ» (ع ٢٠). وبلا شك أن بولس ورفيقه كانا يهوديين، ولكن لم يكن هناك أي دليل ظهر منهما على أنهما أثارا البلبلة في المدينة، على الإطلاق، سوى أنهما أخرجا روح العرافة من الجارية.

وكانت التهمة الثانية هي: «هَذَانِ الرَّجُلاَنِ ... يُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلاَ نَعْمَلَ بِهَا، إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ» (ع ٢١). ولكن ما فعلاه، لم يكن له أية عواقب تستحق الإدانة، سوى تبشيرهما بالإنجيل. إلا أن الشيطان أهاج الجمهور، مما أثر على أذهان الحكام، وهكذا نجح في تأليب جميع فئات الشعب ضد خادمي المسيح هذين.

وحفلت هذه المحاكمة القضائية بكل أشكال إساءة استخدام القانون. ولكن الحكم صدر، وأمر الحكام بضرب بولس وسيلا، «فَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً وَأَلْقُوهُمَا فِي السِّجْنِ» (ع ٢٣). وعُومِلَ الرسولان بقسوة بالغة. وبدا للجميع أن الشيطان قد أحرز نصرًا باهرًا. وهنا يُثار السؤال: ولماذا كل هذا؟ وهل كان بسماح من الله أن يُعامل خادميه بهذه المعاملة القاسية؟! والإجابة عن هذا السؤال ستتضح من أحداث القصة اللاحقة، ومن النتائج المجيدة التي ستترتب عليها. ففي هذا السجن، كانت هناك نفس مسكينة، مُختارة في المسيح، حسب مشورات الله الأزلية. وهذه النفس كانت موضوع رحمة الله ونعمته. ولكنها كانت – حتى هذه اللحظة – لا تزال ترسف في ظلمة الوثنية. لقد كان هذا السجَّان موافقًا تمامًا لما فعله الحكام، لأنهم «أَوْصُوا حَافِظَ السِّجْنِ أَنْ يَحْرُسَهُمَا بِضَبْطٍ. وَهُوَ إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هَذِهِ، أَلْقَاهُمَا فِي السِّجْنِ الدَّاخِلِيِّ، وَضَبَطَ أَرْجُلَهُمَا فِي الْمِقْطَرَةِ» (ع ٢٣، ٢٤).

ولكن الوقت كان قد حان لتتميم قصد الله لهذه النفس التي تقَّسِت، وإخراجها من الظلمة إلى نوره العجيب. ولم تكن الاتهامات الظالمة، ولا عنف الغوغاء، ولا أفعال الحكام غير القانونية، سوى أدوات لتحقيق قصد الله. وبذلك وصلت كلمة الإنجيل إلى داخل بيت السجَّان، من أجل بركة نفسه، وبركة أهل بيته. وهكذا فإن الشيطان - بالرغم من كل ما فعله – لم يكن سوى الأداة العمياء لإرادة الله.

ولكن دعونا نفكر في التأثير الذي حدث على الرسولين، بفعل المعاملة الوحشية التي وقعت عليهما. لا بد أنه كانت قد مرت بضع ساعات بين الحكم عليهما، وبين منتصف الليل، ولكن لم يرد لنا تسجيل في سفر الأعمال عن مشاعرهما، خلال هذه الفترة. ولكننا نقرأ: «وَنَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ اللهَ، وَالْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا» (ع ٢٥). إنهما تحملا كثيرًا من الآلام لأجل المسيح، ولأجل شهادته. ولكنهما كانا أعظم من آلامهما الجسدية وظروفهما، وكانا مَمْلُوآن بالإحساس بنعمة الله ومحبته، ولذلك فرحا لأنهما حُسِبَا مُسْتَأْهِلين – مثل باقي الرُسل - أَن يُهَانا، ويتحملا الخزي والخجل، لأجل اسم المسيح (أع ٥: ٤١). لقد سكبا نفسيهما في الصلاة والتسبيح أمام الله. هل كانا منهزمين؟ كلا على الإطلاق، بل كانا هما المنتصرين – بنعمة الله – في المعركة التي زُج بهما فيها. وكانت قوة الله معهما. وسَيِّدهما، الذي تألما من أجله، أعلن نفسه لهما، حتى إن قلبيهما لم يسعا السرور الذي ملأهما. فالصلاة والتسبيح في مثل هذه الظروف لا يمكن أن تكون سوى ثمرة العمل العظيم لروح الله في نفسيهما.

ولقد أصغى الرب، وسمع صلوات وتسبيحات خادميه، وتدخَّل بشهادة تُروِّع أغلظ القلوب، وتُتمِّم القصد الذي أُرسِلت لأجله «فَحَدَثَ بَغْتَةً زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ السِّجْنِ، فَانْفَتَحَتْ فِي الْحَالِ الأَبْوَابُ كُلُّهَا» (ع ٢٦). ولو لم يكن قد حدث شيء عنيف مثل هذا، لربما كان من المتاح لعدم الإيمان أن يُجادل بأن هذه الزلزلة لا تعدو أن تكون شيئًا مألوفًا وحادثًا طبيعيًا، وأنه ليس لها صلة مباشرة بيد الله، ولا مع إيداع بولس وسيلا في السجن. ولكن الكتاب يُضيف: «وَانْفَكَّتْ قُيُودُ الْجَمِيعِ». وهذه نتيجة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُنسَب إلى شدة الزلزلة، بل تُنسَب فقط إلى التدخل الإلهي المُباشر. والأكثر من ذلك أن حافظ السجن هبَّ مِن نومه، وعندما رأى أن أبواب السجن قد فُتِحَت، ظنَّ أن المسجونين قد هربوا، ولذلك «اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَكَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ» (ع ٢٧). وهكذا كان قريبًا جدًا - في تلك اللحظة - من الهلاك الأبدي. وكم من مرة كانت الحالة هكذا في تاريخ النفوس، أنهم نزلوا إلى أدنى حضيض، عندما كانت النعمة قد أوشكت أن تظهر لأجلهم.

والآن سنتتبع الخطوات المختلفة في مسار البركة لحافظ السجن. ويجدر بنا أن نُلاحظ أن بولس لم يكن في نفس الغرفة التي كان فيها حافظ السجن، وبالتالي لم يستطع أن يراه مزمعًا على الانتحار. ولكن بطريقة ما، بواسطة الإرشاد الإلهي، أدرك الفخ الذي كان الشيطان قد وضعه لهذه النفس المسكينة، ولذلك «نَادَى بُولُسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيًّا! لأَنَّ جَمِيعَنَا هَهُنَا» (ع ٢٨). وهكذا انتُزِعَ في مبدأ الأمر من الموت الجسدي. وما أعمق التأثير على نفسه بما حدث، إذ أدرك أنه في يد أعظم من مجرد يد بشرية «فَطَلَبَ ضَوْءًا وَانْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ، وَخَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟» (ع ٢٩، ٣٠). ولسنا نعلم ما إذا كانت أنباء تبشير الرسول بولس قد اخترقت السجن قبل هذه الليلة، أم لا. ولكن بطريقة ما، فإن هذا الرجل المسكين قد تبكَّت على خطيته، وعلى حالته الضائعة، واستُحضِرَ إلى أقدام رسولي الرب، باهتمام جديّ، ليعرف طريق الخلاص. لقد دخل النور إلى نفسه، ليكشف بوضوح حالته اليائسة. كان هذا عملاً لروح الله، وهو ما يتضح من حقيقة أنه خرَّ عند أقدام هذين اللذين كانت إرساليتهما أن تُفتَح الأعين العمياء، ليتحوَّل الناس من الظلمة إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله.

ويا للفرحة التي غمرت خادمي الرب، عند إجابتهما على سؤال السجَّان، ليُعلنوا له القول: «آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ» (ع ٣١)! وهنا نجد الطريقة الوحيدة للخلاص في جملة موجزة. وهذه خلاصة موجزة مركزة لما قاله الرسول بولس بوضوح للسجان عقب ذلك، إذ إنهما «كَلَّمَاهُ وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ» (ع ٣٢). وكانت كلماتهما بالتأكيد مشحونة بالتعليم، وتحتوي – بقدر المستطاع – على الحقائق بخصوص مطاليب قداسة الله، وعن شخصه وعمله، وعن أن الخلاص في الرب يسوع وحده، وبواسطته.

لقد جرى عمل حقيقي للنعمة بعلامات لا تُخطئها العين. فالسجان انحنى لكلمة الله وقَبِلها، وهذا ما يتبرهن من حقيقة أنه «أَخَذَهُمَا (بولس وسيلا) فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ الْجِرَاحَاتِ، وَاعْتَمَدَ فِي الْحَالِ هُوَ وَالَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ» (ع ٣٣). كانت أول فكرة له هي أن يُجلِب الراحة والتعزية لسفيري الإنجيل. أما الفكرة الثانية فهي أن يعترف باسم الرب يسوع، وأن يعْتَمِد «فِي الْحَالِ هُوَ وَالَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ». ثم أَصْعَدَ الرَّسُولَين إِلَى بَيْتِهِ وَقَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً، «وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاللَّهِ» (ع ٣٤). يا له من تغيير حدث في هذا الرجل، وفي أهل بيته، في غضون ساعات قليلة. عندما ذهب لينام كانت نفسه مُظلمة، مثلما كان بيت السجن - الذي هو مأمور بحراسته – مُظلمًا. لم يكن له رجاء، وكان بلا إله في هذا العالم. ولكن الآن أشرق عليه نور من السماء، وغمَرَ نفسه، وآمن بالرب يسوع المسيح، وامتلأ بالفرح. وكانت مسرته، وكان امتيازه أيضًا، أن يخدم الرَّجلين اللذين كان قبلاً قد ألقى بهما في السجن الداخلي، واللذين كانت أرجلهما قد ضبطها في المقطرة. يا له من مثال لامع ورائع للقوة المُغيِّرة لنعمة الله التي تُستعلَّن ظاهرة بالإنجيل!

بقى شيء آخر ليتم، فالله أراد تبرئة خادميه علنًا، مثلما تعَرَّضا علنًا للعار والخزي، وأُدينا ظلمًا. فلما صار النهار، أرسل الحكام رسالة لإطلاق الرسولين، ولكن الرسول بولس رفض، ربما لأنه أخذ في الاعتبار مواطنته كروماني، أو لأنه تمسَّك بإظهار الحق الذي يتفق مع دعوته السماوية، أو بسبب المستوى الروحي في ضوء الليلة السابقة، حينما صلى هو وسيلا، ورنما بالتسبيح لله. ومع ذلك – وكيفما كان الأمر – فمن الواضح أنه لم يحتج بمواطنته الرومانية لتأمين نفسه ضد الجلد والسجن، ولكن فقط ليكشف عدم عدالة الحكام. وهؤلاء إذ خشوا التبعات على أنفسهم، أتوا وتضرعوا للسجينين، وأخرجوهما من السجن، وسألوهما أن يخرجا من المدينة (ع ٣٥-٣٩). وهنا كان قد انتهى عمل بولس في فيلبي، وهكذا أيضًا استردا حريتهما «فَخَرَجَا مِنَ السِّجْنِ وَدَخَلاَ عِنْدَ لِيدِيَّةَ، فَأَبْصَرَا الإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ ثُمَّ خَرَجَا» (ع ٤٠).


(أع ١٦: ١٩-٤٠)

كاتب غير معروف