1. لقد كتب الرسول بولس الرسالتين من سجن روما، والموضوع الرئيسي للرسالتين هو ”المسيح والكنيسة“ كالرأس والجسد، ذلك السر الذي لم يكن معروفًا سابقًا. لكن مع هذا الفارق، أن التركيز في رسالة أفسس على نصيب الكنيسة السماوي في المسيح، والأمجاد الممنوحة لها في ارتباطها بالمسيح كرأسها في السماء. أما التركيز في رسالة كولوسي، فهو على أمجاد الرأس؛ سواء مجده كالخالق، أو الفادي، أو رأس الجسد.
2. استغل الروح القدس حالة المؤمنين الروحية السامية في أفسس وقت كتابة الرسالة، وأعلن لهم مقاصد الله السامية من جهة الكنيسة، أما في كولوسي فقد استغل تأثير الفلسفة الإنسانية والتعاليم اليهودية وتقاليدها، التي تعرَّض لها المؤمنون في كولوسي، وأعلن لهم كل الغنى الذي للمسيح كالرأس، وكل الكمال الذي لهم في ارتباطهم به ليحفظهم في حالة التمتع العملي بتمسكهم بالرأس. معنى هذا أننا نجد أخطارًا تعليمية في كولوسي مُمثلة في الفلسفة الغنوسية والتصوّف، لذلك أفاض الرسول في هذه الرسالة في الكلام عن أمجاد الرأس، بخلاف ما نجده في رسالة أفسس.
3. الكنيسة في أفسس كالجسد هي ملء المسيح كالرأس الذي هو في نفس الوقت ”الذي يملأ الكل في الكل“ (أف 1: 22، 23). ويصلي لأجلهم لكي يمتلئوا إلى كل ملء الله (أف 3: 19) ويحرضهم أن يمتلئوا بالروح (أف 5: 18). أما في كولوسي، فالملء يختلف، حيث يتكلم عن المسيح هنا كإنسان على الأرض، سُرّ أن يحل فيه كل الملء (كو 1: 19). وبعد أن مات وقام وصعد وجلس على عرش الآب كإنسان أيضًا، سُرَّ أن يَحُلَ فيه كل ملء اللاهوت جسديًا (كو 2: 9)؛ والمؤمنون مملوؤن فيه، الذي هو رأس كل رياسة وسلطان (كو 2: 10).
4. التركيز في رسالة أفسس على أننا في المسيح أمام الله، وكل البركات الممنوحة لنا هي في المسيح (أف 1: 3، 7، 10، 12، 13). وهذا هو المقام. أما التركيز في رسالة كولوسي على أن المسيح فينا أمام الناس (كو 1: 27) وهذه هي المسئولية. فكما أننا في المسيح قديسين وبلا لوم قدام الله في المحبة، يجب علينا أن نُظهر المسيح في حياتنا أمام الناس. وهذا ما أكدّ عليه الرب يسوع في قوله لتلاميذه: «.. وأنتم فيَّ» (يو 14: 30)، هذا موضوع رسالة أفسس، ثم : «وأنا فيكم» (يو 14: 30) وهذا موضوع رسالة كولوسي.
5. تكلمنا رسالة كولوسي على أن المؤمن مات وقام مع المسيح (كو 2: 20؛ 3: 1)، لكن لا تكلمنا عن أن المؤمن جلس في المسيح، لأن الرسالة تنظر إلى المؤمن على أنه لا يزال هنا على الأرض، وأمامه رجاء موضوع في السماء (كو 1: 5)، وأن المسيح فينا رجاء المجد (1: 27). أما في رسالة أفسس فتنظر إلى المؤمن - علاوة على أنه مات وقام مع المسيح – أنه جلس في المسيح في السماويات (أف2: 6).
6. بما أن التركيز في رسالة أفسس على الكنيسة كجسد، لذلك تذكر المواهب الرئيسية اللازمة لها والمُعطاة لها من الرأس الصاعد، الذي سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا ... وهو أعطى البعض (أن يكونوا) رُسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رُعاة ومعلمين لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح (أف 4: 8- 12)؛ أما في رسالة كولوسي، فلأن الموضوع الرئيسي فيها هو أمجاد المسيح المتنوعة، فلا حاجة إلى ذكر المواهب.
7. بما أن الموضوع الرئيسي في رسالة أفسس هو الكنيسة جسد المسيح، لذلك تُذكر كلمتي "الكنيسة“ و ”الجسد" حوالي 13 مرة؛ بينما لم تُذكر "الكنيسة“ و ”الجسد" سوى أربع مرات في عددين في رسالة كولوسي (كو 1: 18، 24).
8. لا يخلو أصحاح في رسالة أفسس من ذكر اسم الآب مرة أو أكثر، لأنه المصدر لكل المقاصد والمشورات والبركات التي أُعطيت لنا في المسيح، بينما في رسالة كولوسي، لم يُذكر اسم الآب سوى مرتين، إذا استثنينا التحية المذكورة في الرسالة (كو 1: 12، 3: 17). والجدير بالذكر أن عبارة «سر الله الآب والمسيح» (كو 2: 2)، هي – بحسب أدق النسخ: «سر الله» (انظر الكتاب المشوهد، وترجمة داربي). بينما يُذكر اسم الرب يسوع في رسالة كولوسي أكثر من 20 مرة، وذلك لأن الرب يسوع هو الموضوع الرئيسي للرسالة.
9. يُذكر الروح القدس كثيرًا في رسالة أفسس (أف 1: 13، 14؛ 2: 18، 22؛ 3: 16، 20؛ 4: 3، 4؛ 5: 18؛ 6: 17، 18)، بينما لم يُذكر الروح القدس في رسالة كولوسي سوى مرة واحدة (كو 1: 8). ولا غرابة في ذلك، لأن الروح القدس في كولوسي لا يوجه الانتباه إلى شخصه، بل إلى المسيح الرأس في السماء، حيث يأخذ مما للمسيح ويُخبر المؤمنين بأمجاد المسيح المتنوعة. فعندما كان المسيح هنا على الأرض، كان يُخبر التلاميذ عن الآب، وهكذا الروح القدس وهو الآن في المؤمنين على الأرض، يُخبر المؤمنين عن أمجاد الابن. أما كون الروح القدس يُذكر كثيرًا في رسالة أفسس، فلأن الكنيسة تحتاج إلى القيادة والإرشاد والقوة والخدمة.
10. نتائج عمل الصليب في الرسالتين مختلفة. ففي رسالة أفسس هو مُصالحة اليهودي مع الأممي، ومُصالحتهما مع الله (أف 2: 14- 16). أما في كولوسي، فهو النُصرة على الشيطان، وتجريده من سلاحه (كو 2: 14، 15).
11. الكنيسة في رسالة أفسس تنمو روحيًا وعدديًا عن طريق المواهب والخدمة (أف 4: 11- 16). أما النمو في رسالة كولوسي، فعن طريق التمسك بالرأس، الذي منه كل الجسد بمفاصل ورُبط متوازرًا ومُقترنًا، ينمو نموًا من الله (كو 2: 19).
12. التحريضات الموجهة لكل من الرجل والمرأة تختلف. ففي أفسس، لأن الموضوع الرئيسي هو الكنيسة في ارتباطها بالرأس. فينظر إلى الرجل على أنه الرأس، والمرأة على أنها الجسد، مثل علاقة المسيح بالكنيسة، علاوة على ذلك، فالمسيح هو العريس، والكنيسة هي العروس التي سيُحضرها المسيح لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن (أف 5: 22- 32؛ رؤ 19: 7، 8). أما في رسالة كولوسي، فلا نجد مثل هذه الأقوال، لكن التحريض فقط هو «أيتها النساء اخضعن لرجالكن كما يليق في الرب. أيها الرجال أحبوا نساءكم ولا تكونوا قُساة عليهن» (كو 3: 18، 19).
13. عندما تُذكر المحبة في رسالة أفسس، فالتركيز هو على محبة الآب والرب يسوع المسيح تجاه المؤمنين (أف 1: 4، 2: 4، 3: 19، 5: 2، 25، 6: 23). أما عندما تُذكر المحبة في رسالة كولوسي، فالغرض من ذكرها محبة القديسين بعضهم لبعض (كو 1: 4، 3: 12). والسبب في ذلك أن رسالة أفسس تكلمنا عن مشورات المحبة ومقاصد النعمة تجاه الكنيسة.
14. كما ذكرنا سابقًا، في البند 4، أنه في رسالة أفسس تَرِد كلمة "في" كثيرًا. فقد بوركنا في المسيح بكل بركة روحية، وأنعم علينا في المحبوب، ولنا فيه الفداء، وجمع كل شيء في المسيح، في ذاك الذي فيه أيضًا نلنا نصيبًا، وسبق رجاؤنا في المسيح. ولا غرابة في ذلك، لأن المقام الذي وصلت إليه الكنيسة هو في المسيح.
أما في رسالة كولوسي فتكثر كلمة "كل"، فهو بكر كل خليقة، وفيه خُلق الكل. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شيء، وفيه يقوم الكل، لكي يكون متقدمًا في كل شيء. لأن فيه سُرّ أن يحل كل الملء. ولا غرابة في ذلك، لأن موضوع الرسالة الرئيسي هو المسيح الذي هو الكل في الكل.
15. تَرِد كلمة السلوك كثيرًا في رسالة أفسس، لأن الكنيسة بعد أن أُخذت إلى السماء وجلست في المسيح في السماويات شرعًا، أُرسلت من السماء إلى الأرض لكي تشهد لرأسها الذي في السماء. ومما تجدر الإشارة إليه، إلى أن السلوك في رسالة أفسس، هو ”كما يحق للدعوة التي بها دُعينا“. وما هي هذه الدعوة؟ هي دعوة الله أبينا إلى مركز المسيح كابن الإنسان، الأمر الذي أفاض فيه الرسول في الأصحاح الأول، ثم علاقتنا بالمسيح الرأس ونحن جسده، وأننا أصبحنا مسكنًا لله في الروح؛ ونحن مُطالبون أن نسلك كما يحق لذلك. أما في رسالة كولوسي، فسلوكنا ”كما يحق لسيادة المسيح كالرب“، ذلك لأن التعاليم المُضلة كانت تُبعد المؤمنين عن المسيح كالرب.
16. تُذكر عبارة ”الإنسان العتيق“ و ”الإنسان الجديد“ في الرسالتين، غير أننا نجد هذه الاختلافات عندما نستعرض هذه الحقيقة في الرسالتين على النحو التالي:
أولاً: الخَلْع
تَرِد في رسالة أفسس هكذا: «أن تخلعوا (حال كونكم خلعتم) من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور» (أف 4: 22).
وقد جاءت في كولوسي هكذا: «ولا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله» (كو 3: 9).
ومن هنا نجد أن كلمة "الخلع" في الأصل، تختلف في الرسالتين. ففي رسالة أفسس تعني هذه الكلمة أننا طرحنا جانبًا؛ أما في كولوسي، فيعني الانتقال من تحت حالة، أو التحول عنها، أو التجرُّد من كل شيء نظير التجرُّد من الملابس. وذلك لأن رسالة أفسس تكلمنا عن مقام المؤمن في المسيح، أي أن الإنسان العتيق قد وُضع جانبًا لأننا في المسيح أمام الله خليقة جديدة. أما في كولوسي، فنجد أننا تجردنا منه وتحولنا عنه، ودخلنا في الدائرة العملية للإنسان الجديد.
ثانيًا: الِلبْس
تَرِد كلمة "اللبس" في أفسس هكذا: «وتتجددوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (أف 4: 24).
وتَرِد في كولوسي هكذا «.. ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه» (كو 3: 10).
ففي رسالة أفسس، نجد الجانب المثالي للإنسان الجديد، أي ما هو هذا الإنسان الجديد في الأعالي، ذلك أن أفسس تعلمنا ما هو أنا في المسيح؛ أما في كولوسي، فتتناول الجانب الموضوعي للإنسان الجديد ـ أي العيشة العملية التي يعيشها المؤمن وهو سائر على الأرض، ومن هنا الموضوع في كولوسي، ليس ما أنا في المسيح كما في أفسس، بل ما هو المسيح فينا.
ثالثًا: التحريض في الرسالتين
لكي نفهم التحريض في الرسالتين، يمكن أن نقرأ الآيات هكذا:
في أفسس «إن كنتم سمعتموه وعُلّمتم فيه، كما هو حق في يسوع، أن تخلعوا (أي أنكم قد وضعتم جانبًا) من جهة التصرف السابق (أو السيرة السابقة) الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، وتتجددوا (ولكنكم تجددتم جدة مُطلقة من أول وجديد) بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد (أو لبستم الإنسان الجديد) المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق (أو الذي بحسب الله قد خُلق في ”البر“ وليس فقط في البراءة).
كذلك نقرأ في أفسس «لذلك اطرحوا (أو قد طرحتم) الكذب، وتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه». وهنا نرى الكذب يسير جنبًا إلى جنب مع الإنسان العتيق، فليس علينا فقط كما في تحريض كولوسي أن نرفض ممارسة الكذب، بل ننظر إليه على أنه شيء قد مضى. وينصّب التحريض على الناحية الإيجابية ـ أي التكلم بالصدق.
أما في كولوسي، فالتحريض ينصرف إلى الجانب العملي، لذلك نقرأ النص هكذا: «لبستم الجديد» ولا يقول الإنسان الجديد كما في أفسس، لأن هذا الجديد يتجدد باستمرار للمعرفة الكاملة حسب صورة خالقه (كو 3: 11). لذلك التحريض يجيء هكذا: «لا تكذبوا بعضكم على بعض» وهذه هي العيشة العملية.
بعد هذا .. ليت الروح القدس يعمل فينا لكي نفهم الكتاب فهمًا صحيحًا، وندرسه على ركبنا ونحن خاشعين أمامه، وهذا يحتاج منا أن نصلي باستمرار لكي نُعطى روح الحكمة والإعلان في معرفته، وتستنير عيون قلوبنا لكي نفهم ونمتلئ من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي، لكي يبدو الكتاب أمامنا عظيمًا وجليلاً، فنعظمه ونجلّه ونوقره ونحترمه.