أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2019
مَتَّى ... وَحِسَاب النَّفَقَةَ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

بدأ اليوم كأي يوم آخر مع “لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى”، جابي ضرائب كفرناحوم. كانت الرسوم والضرائب تُجمع على البضائع المارة بالطرق التجارية المزدحمة شمالي الجليل، وكانت هذه هي وظيفة “لاَوِيَ”. لقد استمد تعليماته من السلطات الرومانية، وكان يُمكن لتلك المهمة أن تكون مُربحة للغاية، ولا سيما إذا كان المسؤول عديم الضمير في تعاملاته. وبالنسبة للعقلية اليهودية، كان الإزدراء المهين هو نصيب العشارين وجباة الضرائب. فالمتعاونون مع الرومان المكروهين، كان يُنظر إليهم باعتبار أنهم خُطَاة (مت ٩: ١١)، زُنَاة (مت ٢١: ٣٢)، والأسوأ من كل هذا أنهم كالأممي الوثني (مت ١٨: ١٧).

إلا أن ذلك اليوم، لا بد أنه قد حُفر في ذاكرة “لاَوِيَ” بعمق: اليوم الذي فيه توقف رَجُل، من بين الجموع المارة، أمام مائدة “لاَوِيَ” وقال مجرد كلمتين، غيرتا كل حياته بالتمام! كلمتان جعلتا “بْنَ حَلْفَى” يترك خدمة ملك أرضى لكي يخدم ملك الملوك، ويسجل فيما بعد، الكلمة المُوحى بها، التي تحكي القصة الخاصة بشخصه الكريم!

نحن لا نعلم كم من المرات رأى فيها “لاَوِيَ”، أو مَتَّى، الرب يسوع منذ أن انتقل إلى كفرناحوم (مت ٤: ١٣). لا بد أنه سمع عن هذا النجار الذي من الناصرة، كما دون لاحقًا «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ ... وَيَكْرِزُ ... وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ ... فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ» (مت٤: ٢٣). وفى الأصحاح الثامن من إنجيله، يُعطى مَتَّى تفصيلات عن قدرة الرب على الأمراض، وهو يتعامل مع البرص والصرع والحمى (ع١-١٧). ثم في ع ٢٦ يُظهِر الرب سلطانه على الرياح والبحر. وفي عدد ٣٢ يُعلن سلطانه على الشياطين.

وفى الأصحاح التاسع، يُرى المسيح كمَن له «سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا» (ع ٦)، فتعجبت الجُمُوع ومَجَّدُوا الله «الَّذِي أَعْطَى النَّاسَ سُلْطَانًا مِثْلَ هَذَا» (ع ٨). ربما رأى مَتَّى فى الرب يسوع شخصًا له قوة تتضاءل أمامها القوة الهائلة التي لروما، ولربما يُفسر هذا تجاوبه السريع مع كلمات الرب له في هذا اليوم بالغ الأهمية في كفرناحوم.

وإنه تدريب دائم الفائدة أن نُقارن تسجيل الأناجيل للأحداث. فعندما يُسجِل مرقس دعوة مَتَّى، يقول لنا أن الرب «رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى» (مر ٢: ١٤). ويقول لوقا «فَنَظَر عَشَّارًا اسْمُهُ لاَوِي» (لوقا ٥: ٢٧). أما مَتَّى، فعلى طريقته المميَّزة الناكرة للذات، يقول ببساطة: «رَأَى إِنْسَانًا... اسْمُهُ مَتَّى» (متى٩: ٩). وكأنه يقول: “لم يكن مشغولًا بخلفية عائلتي أو بوظيفتي، بل رآني بما أنا عليه، وعلم كل شيء عني!”

اسم “مَتَّى” يعني “عطية يهوه”. واسم “لاَوِيَ” هنا يُشير إلى أن أسلافه يينتمون إلى السبط الكهنوتى. ونحن نذكر أنه في سفر العدد ٣، وُهِبَ اللاويون كعطية لهارون ولبنيه، تقديرًا لولائهم للرب في مسألة العجل الذهبي. وبعد سنين عديدة، حَسَبَ الرب يسوع، ابن “لاَوِيَ” هذا، مِن ضمن الذين قال عنهم مُخاطبًا الآب: «الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ» (يو ١٧: ٦)، ليكون “لاَوِيَ” مُشاركًا ومُؤتمّنًا على حفظ خدمة الرب يسوع الكهنوتية، على رتبة أعلى بكثير من تلك التي لهارون.

وجهة نظر مَتَّى الفريدة

واحدة من أجمل سمات الكتاب وأكثرها جاذبية هي أن ثقل الوحي لم يحرم كتَّبة الوحي من طابعهم الشخصي وشخصياتهم. فنلاحظ كيف دمج لوقا معرفته الطبية بكلماته وتعبيراته. كذلك مَتَّى، المُحاسِب الفطن، كانت له العين المتحمسة للمادة والقيمة. فمن بين كل كتبة الأناجيل، مَتَّى وحده تكلَّم عن الذهب، أغلى السلع على مر العصور. ومَتَّى فقط هو من كتب عن الفضة، بينما الكلمة التى استخدمها لوقا في ١٥: ٨ هي “دَرَاهِمَ”، ويقصد بها عملة أكثر مِن كونها معدن. وأيضًا، فقط في إنجيل مَتَّى، نقرأ عن الوزنات (مت ٢٥: ١٤-٣٠)، أما باقي كتبة الأناجيل فيتعاملون بِالمَنَا أو بالفَلس. لكن الوزنة مبلغ كبير، ومَتَّى يُقدَّر ذلك. ومَتَّى هو الوحيد بين كتبة الأناجيل، الذي ذكر حادثة دفع الجزية عن طريق الإستار الذي وُجِدَ في فم السمكة (مت١٧: ٢٧). ومَتَّى وحده هو من أشار إلى “أجرة الظلم” التي في يد الخائن يهوذا، ويُخبرنا أنها كانت ثلاثين من الفضة (مت ٢٦: ١٥؛ ٢٧: ٩؛ زك ١١: ١٢).

إننا مديونون لمَتَّى الذي علَّمنا كم يتكلَّف الناس لكى يُظهروا تقديرهم للمخلص. هو فقط من أخبرنا عن الرحلة الصعبة التى قام بها المجوس من المشرق ومعهم هداياهم الثمينة. ويُذكّرنا بأن بطرس وأندراوس، عندما دعاهما المُخلِّص «لِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ»، ويعقوب ويوحنا «فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ» (مت ٤: ١٨-٢٢). وفيما بعد، بعد ساعات الجلجثة المظلمة، مَتَّى وحده مَن يُخبرنا أن رجلًا غنيًا هو مَن دفن الرب يسوع، وأضاف أيضًا أنه دفنه في «قَبْرِهِ الْجَدِيدِ» الذي كان يوسف «قَدْ نَحَتَهُ فِي الصَّخْرَةِ» (مت ٢٧: ٥٧-٦١). كان هذا يومًا مُكلّفًا للغني الذي من الرامة، لكنه أودع رصيدًا كبيرًا له في حسابات السماء!

تضحية مَتَّى

وبينما يصرف مَتَّى وقتًا في الإشارة إلى تضحية الآخرين، نجده يتكتم الأمر عن تكلفته الشخصية. لقد قدَّر تمامًا دعوة الرب المُنعِمة له ليتبعه، لذلك فعند تسجيل أسماء الرسل، أضاف بعد اسمه لقب “الْعَشَّارُ” (مت ١٠: ٣). ولا بد أن مَتَّى تغنى شاعرًا بالامتنان والعرفان: “ياعجبًا من نعمة ... خلصت خاطئ مثلي!” وبوضع هذا في الاعتبار، نلاحظ رد فعله، كما هو مُدوَّن بيده، إذ حصل على أمر من سيده: «فَقَامَ وَتَبِعَهُ» (مت ٩: ٩). ولقد تُرك الأمر للوقا لكي يعطينا الصورة كاملة، فيقول لنا أن مَتَّى «تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ» (لو ٥: ٢٨). إن إضافة لوقا تعني أدبيًا “أنه تخلى عن كل شيء!” لم يطلب أن ينهى عمل ذلك اليوم، ويبدأ من الغد. كان بإمكان كل من بطرس وأندراوس ويوحنا وآخرين أن يعودوا لسفن صيدهم إن قضت الضرورة (يو ٢١: ٣)، لكن لم يكن هناك عودة لمتى. لقد “أحرق سفينته” في هذا اليوم في كفرناحوم!

ويخبرنا كل الكتّاب الإيزائيين عن الوليمة التى تلت دعوة مَتَّى. يقول مَتَّى: «وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ» (مت ٩: ١٠)، دون تحديد بيت مَن هذا. ويقول مرقس: «وَفِيمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ» (مر ٢: ١٥)، الذي ربما يعنى مكان سكنى الرب. لكننا مديونون مرة أخرى للوقا لتسجيله كرم هذا الرجل المتواضع، فكتب لنا: «صَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ» (لو ٥: ٢٩). لم يدخر مَتَّى وسعًا! ولقد أثارت قائمة المدعوين جدلًا بين الرتب الدينية، حيث كان مَتَّى قد دعى زملاء العمل السابق في مكتب الضرائب، ليأتوا ويتقابلوا مع ربه وسيده الجديد. إن محبة المُخلِّص لا بد أن تظهر في محبة الخطاة من قلوب خاصته! إن في هذا تحدٍ لنا جميعًا.

وفي إنجيله يسجل مَتَّى ثمانية مواقف فيها قدم أناس مُختلفين السجود للرب يسوع. من السجل الشخصي المختصر الخاص به، يُمكننا أن نُقدِّر أنه مؤهل جدًا أن يكتب عن هذا الموضوع. إن أول ذكر للسجود في الكتاب ورد في تكوين ٢٢، في القصة الشهيرة لإبراهيم وإسحاق. إننا نذكر أن السجود في تلك المناسبة تضمن تضحية وطاعة وإيمان. كذلك أنتج أمر الرب لمَتَّى «اتْبَعْنِي» نفس الفضائل (مت ٩: ٩). كما يسجل لوقا «تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ»؛ هذه هى التضحية، «قَامَ» في طاعة، «وَتَبِعَهُ» في طريق الإيمان (لو ٥: ٢٨). لم يكن السجود مجرد تدريب أكاديمى بالنسبة لمَتَى، بل كتب عنه من خبرة قلبية.

في ذلك اليوم في كفرناحوم، أغلق مَتَّى الباب وأدار المفتاح على حياته السالفة، وبقرار حاسم، ارتبط وتبع خطوات السَيِّد الذي كان محتقرًا ومرفوضًا.

جون سكارزبروك