مقدمة:
إن الحديث التالي هو نتاج دراسة أُجريت لفهم جزء صعب من كلمة الله (تك38). ونادرًا ما يُقرأ هذا الأصحاح علنًا لأنه يتناول أفعالاً شديدة الظلمة، ويُعري الطبيعة البشرية فى طابعها المُقزز في تجنبها عن الله. لكن هذا الأصحاح له مكانة مميَّزة إذ يأتي في ثنايا تاريخ رفعة يوسف الباهر.
لقد جرت أحداث هذا الأصحاح – تاريخيًا - قبل أحداث أصحاح 37، لكن كما هو الحال دائمًا في الكتاب المقدس، فإن الأحداث تُرتب ترتيبًا أدبيًا أمام القارئ.
إن النور الباهر لسلوك يوسف المتعفف المترفع يأتى متناقضًا مع سلوك أخيه يهوذا المُفسد واللاأخلاقي. وكما كان يوسف ثابتًا ومحترمًا في البيت، مُتممًا العمل الذي أوكله إليه أبوه وهو رعاية الغنم، هكذا كان أيضًا في الأسر المصري. لقد كان مُجندًا للشهادة لإلهه في العالم، كما كان دانيآل في بابل في أزمنة لاحقة. ولكننا – للأسف الشديد - نجد الكثيرين قد عقدوا العزم على المضي قدمًا في طريق رفض المسيح. فهم لم يفقدوا فقط محبتهم الأولى، لكنهم تركوها بإرادتهم، كما ترك ديماس صُحبة الرسول، وأحَبَّ العالم الحاضر الشرير، الذي وُضع كله في الشرير، والذي يكره الرب يسوع المسيح ويرفضه. وعلى العكس من يوسف ودانيآل، اللذين رفضا إغراءات ووعود العالم، نجد يهوذا هنا وقد انجرف إلى روابط وعلاقات وثيقة بالوثنيين.
ولقد تعودنا أن نتأمل في يوسف باعتباره واحدًا من أروع الرموز للرب يسوع المسيح في الكتاب المقدس. ويُعطينا تكوين 37 تفاصيل رمزية لرفض المسيح، فنتقابل مع اسم الرجل الذى خان المسيح: يهوذا. ويُمثل تكوين 38 فترة النعمة الحاضرة التي توقف خلالها تاريخ إسرائيل، باعتباره رمزًا لشعب الله، ونتقابل مع يهوذا (الذي يمثل اليهود في ابتعادهم وتيهانهم عن إلههم). ومن هنا يبرز السؤال: ما الذي دفع يهوذا للتخلص من يوسف؟ بكل أسف، هنا نرى مشهدًا للقيم الفاسدة، والدناءة الشخصية، والنفاق والرياء بفضائل مصطنعة.
وكما قال وليم كيلى: ”إن هذه القصة هي أكثر قصص سفر التكوين خزيًا وعارًا على الإطلاق“. لقد امتلأ مكيال شر سبط يهوذا إذ ارتبطوا بالغلف ونجسوا الزرع المقدس. وهذا المقطع يذكر لنا أول تعديات يهوذا التي تعاقبت في ما بعد. ونحن نعلم أن ربنا أتى من سبط يهوذا (مت1: 3؛ عب7: 14)، لذلك نلاحظ محاولات الشيطان للتدخل في الظروف، وهو الذي طالما دأب على محاولة إعاقة مجيء المسيا، وإعاقته عن إتمام عمله.
وعلينا أن نلاحظ أن التحدي الذي واجهته ثامار لم يكن متعلقًا فقط بأمانها وسلامها، بل أيضًا بحقها في أن تصير أمًا للوارث الشرعي ليهوذا. وهنا يلمع شيئٌ من رحمة الإنجيل ونعمته رغم زيغان الإنسان التام عن طرق الله وإظهار الخيانة والسلوك الوضيع بجرأة سافرة، حيث احتقر يهوذا كل علاقة بالله وتنكَّر لها بهذه الفعلة الآثمة. ومن مفارقات القصة سنتعلم دروسًا عملية وأيضًا خبايا من تاريخ يهوذا الذي يُمثل اليهود في تيهانهم الحاضر، وقد تشابكت وتداخلت الدروس والرموز كلها في الكتاب المقدس لتكون سبب بركة لتلميذ الوحي المقدس.
الموجز:
يمكن تقسيم الأصحاح إلى ستة موضوعات حسب عدد الخطايا الست المدونة فيه، وهذا يتطابق مع فكر الروح القدس بأن يسجل حالة الإنسان، ويُميِّزها برقم الإنسان في فشله وبعده عن الله.
الخطية الأولى: مصادقة يهوذا للعالم (ع1).
الخطية الثانية: شر عِير (ع7) .
الخطية الثالثة: أنانية أُنَان (ع9) .
الخطية الرابعة: ظلم يهوذا (ع11).
الخطية الخامسة: زنا ثامار (ع14).
الخطية السادسة: رياء يهوذا (ع24).
الخطية الأولى: مصادقة يهوذا للعالم (عدد1- 6):
لقد ترك يهوذا إخوته لينضم إلى عالم الكنعانيين (التجارة) بكل فساد طابعه وبكلمات الكتاب «أَنَّ يَهُوذَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ إِخْوَتِهِ» مُشيرًا إلى طابع طريق الانحدار الذى بدأه، بل ومُنذرًا القارئ بحقيقة أن ما يتبع هذا لا بد أن يتسم بالشر. فنتائج انحدار يهوذا الإرادي ستكون شديدة وكان عليه أن يتعلَّم أنه لا يمكن أن يُشبع ملذاته دون حصاد الأحزان. وكان عليه أن يتعلَّم أيضًا أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا (غل6: 7). وتدبيريًا يوجد اليهودي في الوقت الحاضر في نفس الحالة مُنساقًا وراء ملذاته ومصلحته الشخصية، ومحكومًا بمرأى عينيه، دون أي اعتبار لمشورات الله. أما تاريخ ثامار فيشهد عن الرحمة الإلهية اللانهائية إذ نرى طريقة الله الرائعة في ربط المسيح بيهوذا، فنجد ثامار وقد دونت في سلسلة النسب المُسجلة في إنجيل متى. إنها أولى أربع نساء جاء ذكرهن هناك، ولكل منهن مكانتها الخاصة بنعمة الله.
ومن المؤسف حقًا أن نرى هجر يهوذا لأمان العائلة وأفراح صحبة إخوته، كما كان قلبه قد سبق وابتعد بعيدًا عن أفراح الشركة مع أبيه، والآن ها هو يأخذ خطوة جديدة بها يترك إخوته. لقد رأينا هذا الأمر مرارًا وتكرارًا مع أولئك الذين فترت قلوبهم فتبعت أقدامهم انحدار أفكارهم مع الوقت. إن القلب التائة عن الله هو فريسة سائغة لخداع البشر وأفكارهم، ومن يسير بلا شركة مع الله لا بد أن تكون له علاقة بأهل العالم الأشرار.
وإننا نرى في عدد 1 أن يهوذا كانت له مصالح مشتركة مع «حِيرَة» الذي وُصف في عدد 12 بأنه «حِيرَةُ صَاحِبُهُ الْعَدُلاَّمِيُّ». لكن الرسول يعقوب يُخبرنا في رسالته «أَنَّ مَحَبَّةَ (مصادقة) الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ» (يع4: 4). أما هذه الاعتبارات فقد كانت غائبة عن ذهن رجل مذعن لفعل إرادته الذاتية.
ثم نرى في العدد الثاني أن انحدار يهوذا أتى به إلى أوثق الروابط بابْنَةَ رَجُلٍ كَنْعَانِيٍّ اسْمُهُ شُوعٌ، فَأَخَذَهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا. هنا نجده يُكرر خطية عيسو الذي كانت زيجاته سبب مرارة لوالديه (تك26: 35). لم يحمل يهوذا أي تقدير للقرار القديم الذى اتخذه إبراهيم حينما قال لعبده «لاَ تَأْخُذَ زَوْجَةً لابْنِي مِنْ بَنَاتِ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ أَنَا سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ»(تك24: 3)، كما لم يكن لدية أي وازع ندم من أن يتزوج من وثنية «بِنْتَ إِلَهٍ غَرِيبٍ» (ملا2: 11)، أما اليوم فإن المبدأ واضح للمؤمن حيث نجد التحريض فى 2كورنثوس 6: 14، 15 «لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟». وكان المعيار الذي اتخذه يهوذا لاختيار زوجته واضح من عبارة «وَنَظَرَ يَهُوذَا هُنَاكَ ابْنَةَ رَجُلٍ كَنْعَانِيٍّ اسْمُهُ شُوعٌ فَأَخَذَهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا» (ع2)، تمامًا كما فعل شمشون بعد سنوات كثيرة «وَنَزَلَ شَمْشُونُ إِلَى تِمْنَةَ وَرَأَى امْرَأَةً فِي تِمْنَةَ مِنْ بَنَاتِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، فَصَعِدَ وَأَخْبَرَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي تِمْنَةَ مِنْ بَنَاتِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، فَالآنَ خُذَاهَا لِيَ امْرَأَةً» (قض14: 1، 2). لم يكن لديه فكرة الاختيار حسب فكر الرب (تك2: 18، 24) وهكذا تحرك يهوذا بدوافع وضيعة «لأَنَّ ... شَهْوَةَ الْعُيُونِ ... مِنَ الْعَالَمِ» (1يو2: 16).
الخطية الثانية: شر عِير (عدد6، 7):
لقد اختار يهوذا زوجةً اسمها ثامار، لابنه الأكبر الذي «دَعَا اسْمَهُ عِيراً» (ع3)، والذي هو بِكْرِه، قُوَّتِه وَأَوَّلُ قُدْرَتِه (تك49: 3). ومعنى اسمه ”متيقظ“. ولا بُد أنه كان متيقظًا لاقتناص الفرص لفعل الشر. لقد ظن أن خطاياه بلا أجرة لكن المبدأ الكتابي نافع لكل وقت «اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً» (غل6: 7). لقد كان شره مكشوفًا أمام الله فحصد العقاب المتناسب مع أفعاله، وأتاه قضاءه مسرعًا «فَأَمَاتَهُ الرَّبُّ» (ع7).
لقد خدع «عِيرُ» نفسه، لكن أ لم يكن يتبع خطى أبيه وقتئذٍ؟ أن تربي أولادًا في عالم شرير ليس أمرًا سهلاً. وعندما يقدم الآباء ذريتهم لأمور الدهر الحاضر الشرير سيجدونهم يقدمون ذواتهم بكل قوتهم للعالم في كل فساده وبعده عن الله.