الخطابان ليسا طويلين. هما تقريبًا متساويان في الطول. وكل منهما بالإمكان أن يشغل ورقة معتادة. والخطابان شخصيان في طبيعتهما. وكلاهما كُتِبَ لمواجهة موقف معين كان سائدًا آنذاك. ولعل هذا هو السبب الذي حدا بالبعض أن يعتبروهما ذا فائدة ضئيلة اليوم. ولكن لا شيء يعلو على الحق.
ومعلوم أن يوحنا الرسول، كاتب هذين الخطابين، والمعروفين برسالتي يوحنا الرسول الثانية والثالثة، هو الأطول عمرًا بين الرسل. إن بعض أعضاء مجموعة الرسل المؤسسين، اُضطهدوا بسبب إيمانهم وتكريسهم للمسيح. فيوحنا الرسول نُفيَّ إلى بطمس (رؤ ١: ٩)، وبحسب تقليد الكنيسة، فإنه ترك هذه الجزيرة المعزولة، وذهب إلى أفسس، من حيث كتب هاتين الرسالتين. ولكن هذا التقليد ليس بالطبع يقينيًا. ويبدو أن هاتين الرسالتين قد كُتُبتا بين عامي ٨٥ – ٩٥ بعد الميلاد، وكان يوحنا شيخًا طاعنًا في السن.
حياة مديدة ثرية
سنوات عديدة مرت منذ اليوم الذي فيه سار الرب يسوع على ضفة بحر الجليل. كان يوحنا مع أبيه وأخيه يعقوب، يُصلحون شباك الصيد، عندما اجتاز الرب يسوع من هناك. وللوقت سمع الشاب يوحنا الدعوة، فترك، هو ويعقوب أخوه، أباهما، وتبعا الرب يسوع (مت ٤: ٢١، ٢٢).
وطوال ثلاث سنوات عاش يوحنا في صحبة ابن الله، وعاين المرضى يبرأون، والموتى يقومون من الأموات إلى الحياة، وسمع أسمى التعاليم، بما فيها إعلان الرب «أَبْنِي كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا» (مت ١٦: ١٨). لقد سهر لوهلة وجيزة في بستان جثسيماني، ومن ثم تبع الرب إلى محاكماته، ثم إلى الجلجثة، حيث صُلِبَ. وقابل المسيح المُقام، وشاهده وهو يرتفع إلى السماء. وأُلبِس روح القوة؛ الروح القدس، مع بقية الرسل، وخرج إلى الكرازة بالإنجيل. وهكذا تأسست الكنيسة التي تكلَّم عنها الرب يسوع، وشاهدها يوحنا تنمو بخلاص النفوس، ولكن لم تسر الأمور كما يُرام، فقد قام معلمون كذبة، وبعض من شعب الله انقادوا إليهم، وضلوا. وإذ تحذَّر يوحنا من هذا الخطر الذي يتهدد الكنيسة، كتب هاتين الرسالتين اللتين حفظهما لنا الكتاب المقدس.
أوجه التماثل والتباين
أمر مُشوّق حقًا أن نُميّز أوجه التشابه والاختلاف بين الرسالتين: رسالة مُعنونه إلى امرأة، والأخرى إلى رجل. واحدة تُحذِّر صراحة من المُعلّمين الكذبة، في حين توصي الأخرى بالترحيب بالمعلّمين المُنادين بالحق. الهدف من رسالة يوحنا الثانية أن “تُغلِق الباب”، وعدم قبول المُخادعين المُبتدعين. وعلى النقيض، فالهدف من الرسالة الثالثة، هو “فتح البيت” لاستضافة المؤمنين الحقيقيين. وقد عبَّر الرسول عن فرحه بكل مَن يُرحب بالقديسين.
ولكن ثمة موضوعات مشتركة تتضح عند وضع الرسالتين جنبًا إلى جنب: فعلى المؤمنين السلوك في الحق، وعليهم أن يُحبوا بعضهم بعض. وعلينا أن نثبت في المسيح وفي تعليمه (٢يو ٩)، وبالأعمال الصالحة نُبرهن على أننا أولاد الله (٣يو ١١). وكلتا الرسالتين تُختمان بتأكيد يوحنا أن لديه أكثر ليكتب عنه، وأنه يأمل أن يكون قادرًا على رؤية الشخص المُعنونة له الرسالة.
انتقل يوحنا إلى السماء منذ أمد بعيد، ولكن رسائله بقيت، كما الأخطار التي كُتبِت لمواجهتها؛ فالمعلمون الكذبة ما زالوا نشطين في العالم اليوم، ونحن بحاجة لأن نعرف كيف نتعامل معهم. ثم إن المحبة بين شعب الله الحقيقي تُعوزنا اليوم أكثر من أي وقت مضى.
وكم نشكر الله بالحقيقة أنه أعطانا هاتين الرسالتين القصيرتين المُعبّرتين، للحفظ في كلمته، ليُرشدنا في طريق الحق. فدعونا مُجدّدًا نعتبر ونحفظ الرسائل التي تتخطى حدود الزمان، والتي كتبها لنا بالوحي الرسول الشيخ المحبوب يوحنا.