يجب أن نُمَيِّز بين هذه الحادثة وحادثة أخرى انفرد بذكرها لوقا البشير في أصحاح ٧. فالحادثة التي في لوقا ٧ كانت لامرأة معروفة في المدينة بخطاياها، وأما هنا فامرأة قديسة فاضلة. في لوقا ٧ كانت الحادثة في الجليل، وأما هنا ففي اليهودية، وبالتحديد في بيت عنيا التي بجوار أورشليم. حادثة لوقا ٧ كانت في بيت سمعان الفريسي، وأما هنا ففي بيت سمعان الأبرص. حادثة لوقا ٧ كانت في بداية خدمة المسيح، أما الحادثة المذكورة هنا ففي نهاية خدمته. الحادثة في لوقا ٧ أظهرت نعمة المسيح من نحو النفوس البائسة، وأما الحادثة هنا فكانت من واحدة عرفت مجد المسيح وأرادت إكرامه.
لم يرد اسم المرأة التي عملت هذا العمل المجيد، لا في إنجيل متى ولا في إنجيل مرقس، لكن من يوحنا ١٢ نفهم أنها مريم أخت لعازر، التي ورد اسمها بكل لمعان في ثلاثة فصول من كلمة الله هي: لوقا ١٠؛ يوحنا ١١؛ ويوحنا ١٢. والحادثة الواردة في يوحنا ١٢ هي بعينها الحادثة المذكورة هنا (مت٢٦).
وفي الفصول الثلاثة التي تتحدث عن مريم نجدها دائمًا عند قدمي الرب. في لوقا ١٠ جلست عند قدمي الرب يسوع لتسمع كلامه. ثم في حزنها عندما مات أخوها، أتت عند قدمي يسوع لتنال منه العزاء (يوحنا ١١). والآن ها هي تأتي عند قدميه لتسكب طيب حبها. وهذا كله يظهر مقدار روحانية مريم، التي ما كان يلذ لها مكان، كيفما كانت ظروف الحياة، إلا عند قدمي المسيح.
ويؤسفنا أنه ما أقل ما أُكرِم المسيح في حياته هنا على الأرض! لقد أُكرِم في بداية حياته من حكماء المشرق، لما كان في بيت لحم، كما رأينا في متى ٢، وفي نهاية حياته أُكرِم في بيت عنيا. وأما على طول الطريق الممتدة من بيت لحم إلى بيت عنيا فما أقل الابتسامات التي صادفت سيدنا المعبود، رجل الأوجاع وَمُخْتَبِر الحَزَن، وهو يجتاز هذا العالم الذي وُضع في الشرير! وما أكثر الجروح التي جُرح بها في بيت أحبائه!
في أصحاح ٢ كان السجود له من الأمم المحتقرين من اليهود، أما اليهود أنفسهم فإنهم لم يُقَدِّروا مسيحهم وَمُخَلِّصهم، كما حاول هيرودس الملك قتله في أولى محاولات قتله، وهنا في أصحاح ٢٦ نجد السجود من امرأة، وهي أيضًا محتقرة في نظر الفريسيين المتكبرين، بينما قادة الأمة، بمساعدة يهوذا التلميذ الخائن، يحبكون المؤامرة الأخيرة التي ستنتهي بقتله!
ولقد عُملت للرب أيضًا وليمة في بداية خدمته، عملها له متى العشار، كاتب الإنجيل المعنون باسمه، في بيته، بعد دعوة الرب له ليكون أحد رسله. ومتى في وليمته دعا جمعًا كبيرًا من عشارين وخطاة. لكن هنا في هذه الوليمة كان هناك جمع كبير من المؤمنين. الوليمة الأولى كانت مُناسَبَة لإذاعة نعمة الله، وأما هذه الوليمة فكانت لتقديم السجود لابن الله. وكما لم تُقَدَّر نعمته في الوليمة الأولى، لم يُقَدَّر السجود له في هذه الوليمة. المعترضون في المرة الأولى كانوا من الفريسيين (مت٩: ١١)، وأما هنا فبالأسف كانوا تلاميذه أنفسهم (ع٨، ٩)!
وبين القلوب التي عرفت قيمة شخصه، لا نجد قلبًا نظير قلب مريم في محبته للسيد، محبة قادتها في هذه اللحظة للقيام بعمل تخطى مغزاه ذكاءها. إن كراهية اليهود للرب يسوع، التي كانت تتزايد على نحو مُضْطَرِد، أشعلت في قلب مريم محبة ملتهبة نحوه. كما ألزمها الاحتقار الذي لحق بالرب، والذي كان مزمعًا أن يصل لأقصى مداه، لأن تُعَبِّر له عن الاحترام الذي تحمله له.
التلاميذ أنفسهم، لم يفهموا ما قادها لسكب الطيب الكثير الثمن على معلمهم، لكن الرب وحده أمكنه أن يفهمه وَيُقَدِّره. ولقد عَبَّرَت مريم بفعلها الصامت هذا - ولو أنه أبلغ من أي كلام - عن حبها للمسيح، وعن التقدير الذي تحمله للشخص الذي كان على وشك أن يموت ليفديها، ويفدي الكثيرين.
وإنجيل متى - الذي يُكَلِّمنا عن المسيح الملك - عندما سجل لنا مريم الساكبة لقارورة الطيب على المسيح، يُذَكِّرنا بما ورد في سفر النشيد: «مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ» (نش١: ١٤).
ولعله من اللافت أن كلاً من متى ومرقس يخبرنا أن مريم سكبت الطيب على رأسه الكريم، وأما يوحنا فإنه يقول إنها سكبت الطيب على قدميه. ولا يوجد تعارض هنا. ومن يوحنا ١١: ٢ نفهم أن مريم عملت العملين: سكبت الطيب على قدمي المسيح، ودهنت رأسه. وواضح أن ذكر الجزء لا ينفي الكل. وأما لماذا يذكر يوحنا سكب الطيب على قدميه، فذلك لأن يوحنا يُكَلِّمنا عن المسيح ابن الله، فما كان يليق في هذا الإنجيل الذي يكلمنا عن لاهوت المسيح، أن يسجل أنها دهنت رأسه. كما أنه ينفرد بالإشارة إلى أن مريم مسحت قدميه بشعرها. فالشعر الذي هو مجد المرأة (١كو١١: ١٥)، وضعته مريم عند قدمي المسيح. بينما هنا (مت٢٦)، وفي إنجيل مرقس، لأنهما يتحدثان عن الجانب الإنساني في المسيح، يذكر إنها سكبت الطيب على رأسه.
والجميل أن يوحنا في إصحاح ٢٠ يذكر لنا أنه عندما قام المسيح من الأموات، كان هناك ملاكان، واحد عند الرأس والآخر عند الرجلين، حيث كان جسد يسوع موضوعًا. فكما أكرمت مريم رأس يسوع، وقدميه، كذلك أيضًا فعل ملائكة السماء بالنسبة للموضع الذي كان الرب مدفونًا فيه.
ويخبرنا البشير أن هذا الطيب كان ”كَثِيرِ الثَّمَنِ“. ويذكر لنا كل من مرقس ويوحنا أنه كان يمكن أن يباع بأكثر من ٣٠٠ دينار. فإذا عرفنا أن أجر العامل في اليوم هو دينار واحد، فهذا معناه أن هذا الطيب يعادل أجر عامل لنحو عام كامل. ونعتقد أن مريم ادخرت كل دينار ليمكنها أن تشتري هذا الطيب الغالي، لأنها كانت تُقَدِّر المسيح جدًا، وكان هو أغلى ما في حياتها.
«فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذَلِكَ اغْتَاظُوا قَائِلِينَ: لِمَاذَا هَذَا الإِتْلاَفُ؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هَذَا الطِّيبُ بِكَثِيرٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ» (ع٨، ٩)
ما أن فاحت رائحة الطيب العطرة في المكان، حتى ثارت زوبعة من الاعتراضات. والشيء اللافت للنظر أن مريم في كل مواقفها من ربنا المعبود أسيء فهمها. ففي المرة الأولى وهي جالسة عند قدمي يسوع هوجمت من أختها مرثا؛ وفي يوحنا ١١ عندما خرجت للتقابل مع المسيح المعزي الأعظم، أساء اليهود فهمها إذ ظنوا أنها ستذهب عند القبر لتبكي أخاها هناك؛ وهنا أساء فهمها التلاميذ أنفسهم.
ومن إنجيل يوحنا نفهم أن يهوذا الإسخريوطي هو الذي بدأ الاعتراض، وسايره باقي التلاميذ؛ فتمت كلمات الحكيم: «خَاطِئٌ وَاحِدٌ فَيُفْسِدُ خَيْرًا جَزِيلاً» (جا٩: ١٨).
لم يُقَدِّر يهوذا ما عملته مريم، لأنه أساسًا لم يكن لديه تقدير لربها وربه. لقد اعتبر يهوذا أن ما فعلته مريم خسارة جسيمة، وهو فعلاً كان خسارة بالنسبة له، لأنه كان سارقًا، وكان الصندوق عنده (يو١٢: ٦). ويا لها من دلالة أن تكون تلك الكلمات هي أولى الكلمات المسجلة ليهوذا في الوحي الكريم! لقد كان متحفظًا جدًا للكلام لئلا ينكشف شره، وأخيرًا تكلم، فقال هذه العبارة الخبيثة. لقد ”سكت دهرًا، ونطق كفرًا“، إذ تدل كلماته على مدى تقديره، أو بالحري على مدى عدم تقديره للرب!
لكن هل حقًا ما فعلته مريم لأجل المسيح كان إتلافًا؟ أما نقرأ عن أشخاص مقتدرين يدفعون الألوف أو ربما مئات الألوف من الجنيهات، لعمل إعلان عن أنفسهم، والغرض الرئيسي من ذلك العمل هو الشهرة ليس إلا. لكن أية شهرة يمكن أن تقارن بتسجيل البشائر لما فعلته مريم، ليقرأه ما لا يُحصى من ملايين البشر في كل بقاع الأرض، وبكل لغاتها، وفي أجيال مديدة من بدء المسيحية، وإلى انقضاء الدهر. حقًا إن «اَلصِّيتُ أَفْضَلُ مِنَ الْغِنَى الْعَظِيمِ» (أم٢٢: ١)؛ ولو أننا نبادر فنقول إن مريم لم تكن تقصد بما فعلته الشهرة، ولا خطر ذلك على بالها لحظة؛ بل إنها بعملها عبَّرت عما في قلبها من حب عظيم للمسيح وتقدير له. ويقينًا فإن المكافأة الحقيقية لمريم لم تأتِ بعد، فهي ستنال المدح والكرامة والمجد أمام كرسي المسيح من الرب شخصيًا. فالرب وصف عملها بأنه عمل حسن، إذ قال: «إِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا!». والرسول قال إن العمل الحسن، المُشَبَّه بالذهب والفضة والحجارة الكريمة، والذي يُعْمَل لإكرام الرب ليس إلا، سيأخذ المؤمن عنه الأجر أمام كرسي المسيح (١كو٣: ١٤). إن ما عملته هذه القديسة للمسيح، في نسيان للذات، لا يمكن إلا أن يكافئ الرب عليه مكافأة عظيمة!
وأما الإتلاف الحقيقي فلم يكن من جانب مريم القديسة بل من جانب يهوذا الخائن. فبالنسبة للمسيح، مهما عُمل له من إكرام لا يمكن أن يكون أكثر مما يستحقه له المجد؛ لكن ماذا بالنسبة لمن باع نفسه وأبديته للشيطان؟ إن الإتلاف حقًا هو عندما باع يهوذا سيده بالفضة، ثم بعد ساعات أرجع الفضة لرؤساء الكهنة مع كلمات الندم التي لا تُفيد، ثم مضى وخنق نفسه! هذا هو الإتلاف حقًا. ولعله من المثير أن نعرف أن تعبير الهلاك في اللقب الذي أعطاه المسيح ليهوذا ”ابن الهلاك“، هو بعينه – بحسب الأصل اليوناني – التعبير الذي استخدمه يهوذا هنا. فهو حقًا “ابن الهلاك”، أو ”ابن الإفساد والإتلاف“.
وهذه الكلمات غير المسؤولة، الناتجة عن التقدير الجسدي من جانب التلاميذ الذين سايروا يهوذا السارق الخائن، عندما اعتبروا الفقراء أهم من المسيح، كم أنشأت من الجراح في قلب مريم، وبالأكثر في قلب الرب يسوع، فحتى تلاميذه مزجوا إكرامه بما ينغص، وجعلوا في طعامه علقمًا! لكن الرب في ع١١ أعاد بكل وداعة تقييم الأولويات.
كان هناك فارق كبير مثل قطبي المغناطيس بين قلب مريم وقلب يهوذا. كانت مريم مشغولة بما تقدمه للرب، وأما يهوذا فكان مشغولاً بما يأخذ من الرب. لكن دعنا لا ننسى أن ما قدمته مريم، مهما كان غاليًا فإنه لا يمكن أبدًا مقارنته بما كان الرب مزمعًا أن يقدمه لها، ولنا جميعًا: ففي بقية أصحاحنا سنقرأ قول المسيح: «لأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ» (مت٢٦: ٢٨). وما أبعد المسافة بين سكب الطيب وسفك الدم، ولا سيما أنه دم ابن الله، الحمل المعروف سابقًا قبل تأسيس العالم!
لنتحول الآن إلى التلاميذ. طبعًا لم يكن التلاميذ مشاركين يهوذا في شره، لكنهم أيضًا بالأسف لم يكونوا مشاركين مريم في تقديرها الواعي والفطن لشخص المسيح وعمله. وكم هو مؤسف لكنه متكرر، أن مجموعة من أفاضل الرجال ممكن أن ينساقوا وراء شخص واحد شرير. والرسول بولس قسَّم البشر جميعًا في ١كورنثوس٢: ١٤، ١٥ إلى ثلاث فئات: فهناك الشخص الروحي، الذي يميِّز سلوكه قيادة الروح القدس له. ثم المؤمن الجسدي، عندما تحركه طبيعته البشرية، ولا يسمح للروح القدس أن يقود زمام حياته. ثم الإنسان الطبيعي غير المولود من الله، وبالتالي لا يعرف شيئًا عن الروح القدس أصلاً. وفي ضوء هذا يمكننا القول إن تصرف مريم كان تصرفًا روحيًا، وتصرف التلاميذ كان جسديًا، وأما تصرف يهوذا فكان تصرف إنسان طبيعي شرير، لا علاقة حقيقية له بالمسيح. والإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله، لأن هذه الأمور في نظره جهالة ولا قيمة لها. يهوذا كان قلبه الفاسد منبعًا للشر، وأما التلاميذ الآخرون فإنهم في عدم قربهم لقلب المسيح وأفكاره، وقعوا في الفخ.
ولكي يغطي يهوذا على الشر النابع من قلبه، فقد حاول أن يتمسَّح بموضوع الاهتمام بالفقراء، وأن يظهر بمظهر الإخلاص والأمانة والتدقيق. ومع أن الكتاب المقدس يخبرنا بأهمية عمل الخير للفقراء، لكنه حذرنا من أن الذين ليس عندهم محبة للمسيح، ولو أطعموا كل أموالهم للفقراء، فإنهم في موازين الله ليسوا شيئًا (١كو١٣: ٣). ويقينًا كان يهوذا ليس فقط لا شيء، بل أقل من ذلك بكثير.
ويؤسفنا أن التلاميذ هنا فكَّروا في الفقراء، وفكَّر يهوذا في نفسه، وما أحد – بخلاف مريم - ذكر ذلك الرجل المسكين (جا٩: ١٥)! فلقد انساق التلاميذ وراء يهوذا الخائن السارق، ولم يُقَيِّموا المحبة في سخائها، إذ حسبوها إتلافًا. إنهم لم يحسوا ولم يفهموا أن المسيح كان في حاجة إلى إنعاش يُهَوِّن عليه آلام الخيانة والجحود من أمته التي أحبها فاحتقرته، ومن أحد تلاميذه، هو آكل خبزه الذي رفع عليه عقبه. لقد فات التلاميذ أن يقدموا له لفتة رقيقة تنعش نفسه الحساسة المتألمة، فلما قدمت امرأة كل ما عندها ترضية لقلبه المجروح في داخله، اعترضوا واستنكروا.
ترى ماذا نحن فاعلون اليوم بمن أحبنا ومات حبًا بنا؟