أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2018
الله منفردًا في مواجهة الخراب ... ونصرة الله
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

الحقيقة العظيمة التي تواجهنا أينما أدرنا وجوهنا حولنا، أن الله غير معروف في العالم. ولكن الحقيقة التي تُطالعنا عند قراءة الكتاب المقدس أن الله يتوق لأن يُعْرَف، وأنه تكبَّد آلامًا مُبرحة لكي يُعَرِّفنا ذاته. والإنجيل هو إعلان الله عن ذاته.

ومن فاتحة سفر التكوين، يسعى الله لأن يُعرّفنا بذاته. والآن هو مُعلّن أعظم إعلان في المسيح. وأول ما نجد الله في الكتاب المقدس، نجده بالارتباط بمشهد الخراب. وما نتعلَّمه عن الله في هذا الصدد أنه هو المُهيمن على الخراب، بغض النظر عن كيفية حدوث هذا الخراب.

ومرتان في الكتاب المقدس نجد الله وحيدًا في مواجهة الخراب وجهًا لوجه. المناسبة الأولى كانت في تكوين ١، عندما «كَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ» (تك١: ٢). ولكن الأرض لم تُخلَق بهذه الحالة. العدد الأول يُقرّر «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (تك١: ١). وأظن أنه من الغباء أن يفتكر أحد أن الأرض خرجت من بين أنامل الله «خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ» (ع٢). هذا يُخالف طبيعة الله كما نعرفه، لأنه إله ترتيب «لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلَهَ تَشْوِيشٍ» (١كو١٤: ٣٣).

ولكن الأرض في وقت ما تالٍ لخلقها (تك١: ١)، سقطت إلى الحالة المذكورة في تكوين ١: ٢. كيف؟ لا نعرف. ولكن عقب سقوط الأرض، سادت الفوضى، مع أن إشعياء يقول: «لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلاً. لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا» (إش٤٥: ١٨). ولكن ها هي حالة من الخراب موجودة أمام الله! والله بدوره مهتم للغاية بهذه الحالة «وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ». وبإمكاننا أن نفهم لماذا كان ذلك؟ كان ذلك لأجل المسيح. لأن «الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ» (كو١: ١٦). فإذا كانت الخليقة ”بِهِ“، فهي كذلك لَهُ“. إن المسيح دائمًا حاضر أمام الله.

ومن ثم نتعلَّم أن الله كافٍ وكفء في مواجهة الخراب، فهذا الخراب لم يستعصِ على الله. هذه الحقيقة هي أول ما يُقابلني عند مُطالعتي للكتاب المقدس. ففي محضره يهرب الخراب. كما أنه – تبارك اسمه – لا يُخرِجُ من مشهد الخراب إلا الجمال، ولا شيء غير الجمال. إن موارد الله ليست من خارجه، وهو مكتف بنفسه لنفسه، وهذا وحده ما يليق بأَهْيَه العَظيم، واجب الوجود الأسمى. «وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا» (تك١: ٣١)؛ هذه هي خاتمة الأصحاح الأول من سفر التكوين، الذي استهل بمشهد الخراب. فالخراب لا يُمكنه إلا أن يخضع لله. وهكذا أعلن الله عن ذاته في تكوين ١.

والآن نأتي إلى يوم آخر بدا فيه مشهد الخراب، وظهر فيه الله بمظهر آخر على الأرض، ومُجددًا نجد الله يواجه الخراب. ومُجدّدًا تتكرر ذات القصة، فقد جاء الله إلى هذا العالم في شخص المسيح (يو١: ١-١٠)، وإذ ذاك لم يجد شيئًا موافقًا لشخصه في هذا العالم. كان المشهد يضج بالفوضى العارمة، فقد استُبعِدَ الله من حسابات البشر «كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ» (يو١: ١٠). ولكن الإنسان لم يُخلّق على هذه الحالة. وعندما أتى الله إلى العالم، وروح الله أخذ يَرِفُّ عليه، فهذه إرهاصات عمل الله فيه. وكما كان عمل روح الله في البدء هناك، هكذا عمله هنا، ومع كل نفس. وها أمامنا الآن إشراق الخليقة الجديدة. فالله لم يفشل إزاء عمل الشيطان ليقلب الخليقة الأولى، وليصمها بالخراب الأدبي والمادي اللذين حاقا بها.

هذا هو الدرس العظيم: إن الله مهيمن على كل الخراب، وإلا لما كان هو الله. لقد كان الموت هو خاتمة التاريخ الإنساني كله. وفي شخص المسيح رفض الله الإنسان الموسوم بالخراب التام أمامه. ولكن الله أقام المسيح من الموت «نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ» (أع٢: ٢٤)، وفيه امتلكنا حياة جديدة أمام الله. إنه هو «بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ اللهِ» (رؤ٣: ١٤).

ولعل أعظم استعراض للخراب والتشويش والظلام الأدبي، كان عند الصليب. بل إن الشيطان ذاته أُخرِبَ هناك. هناك عمل الشيطان وعربَّد بكل قوته. وكان هذا كله أمام الله. وكان الله هو العامل من وراء الستار. والنتيجة أنه زال الخراب، وانقضى، وساد الجمال والكمال. وهذا الجمال وهذا الكمال صارا راسخين، لأن هذا هو عمل الله. وقد عمل الكل في المسيح.

وبالنسبة لنا أفرادًا فحسن أن تكون لنا نظرة وكراهة الله للخراب (رو٣). وليس ذلك فقط، بل علينا أن نضع في بالنا أن نشاط الطبيعة، والفوضى والخراب والتشويش، هي كل ما يوجد في الإنسان الطبيعي، ولا شيء فيه لله! ومن ثم لن يجد الله في الإنسان الطبيعي، الآن ولا في المستقبل، شيئًا يُسرّ قلبه، وهذا إصبع الله وهذا تقريره: «لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ. وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً. حَتَّى كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ» (١كو١: ٢٩-٣١)

أود أن أُضيف كلمة: مَن الذي بمقدوره أن يُقدِّر عمل الله في القديسين الذين أضفى عليهم عمل الصليب، غلاوة المسيح؟ أية لغة بشرية يُمكنها تصوير ذلك؟ كيف نُعبِّر عن هذه الخليقة الجديدة؟ لا يسعنا سوى أن نستخدم لغة الروح القدس نفسه: «وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ»! لقد كان الله في مواجهة الخراب منفردًا وحيدًا. والآن ها هو الله بعد أن ولى الخراب وقد انتصر! ويا ليتنا نعيش كل يوم فرحة الوجود بقربه!

هـ. س. آنستي