«لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك دون جميع اليهود، لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت، يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر، أما أنت وبيت أبيك فتبيدون، ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك»!! (أس4: 13و14).
ذكرنا فيما سبق أن العبارة الأولى في حديث مردخاي هذا تحتوي على نصيحة هامة، وحقيقة أكيدة، وبشارة مفرحة. وتوقفنا عند النصيحة ”لا تفتكري في نفسك“، وتعلمنا منها خطورة الاستسلام للحوار الداخلي أو الذاتي. وفي هذا العدد نتوقف عند الحقيقة الأكيدة التي يعلن عنها حديث مردخاي ألا وهي:
”هشاشية بيوت الملوك“
«لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك»!!
أ في بيت الملك لا نجاة!؟ فأين إذًا تكون النجاة!؟
يا لها من جرأة غريبة وعجيبة من مردخاي، عندما يخاطب ملكة البلاد، سيدة الامبراطورية الفارسية الأولى، بهذه اللغة! بل ويا له من فكر غريب يطرحه عليها ”إن بيت الملك لن ينجيها“! فمَنْ يسمع كلامه هذا حتمًا سيقول: إن كانت أستير الملكة المحبوبة لن تنجو، فمَنْ الذي ينجو؟ وإن كان قصر أحشويروش لا يضمن النجاة فأين على وجه الأرض تكون النجاة؟ لكن مردخاي الواثق من كلامه، والذي يتحدث حديث العارف ببواطن الأمور، يصدمنا بالحقيقة التي لا بد أن يتعلمها الحكيم مع الأيام، ألا وهي: أن سور قصر الملك مهما علا، لا يضمن لصاحبه الأمان أو النجاة.
إن كانت أستير الملكة المحبوبة والسيدة الأولى لن تنجو، فمن الذي ينجو؟ وإن كان قصر أحشويروش لا يضمن لها النجاة، فأين على وجه الأرض تكون النجاة؟
وعندما يخاطب مردخاي أستير بهذا الكلام، هو يعلم أنها ستعي كلامه جيدًا، وستفهم ما وراء العبارات، فهو في الواقع قصد بهذه الكلمات أن يستنهض فيها ذاكرتها، التي ربما تكون قد ضعفت بعض الشيء بسبب رفاهية القصر التي تفوق الخيال.
وهنا أتوقف لأقول: آه من تلك الذاكرة الضعيفة الخائنة! كم ملأتني بالغيظ منها والحنق عليها، إذ خذلتني عندما لم تسعفني لتذكرني بالألم الذي حصدت أو بالدرس الذي تعلمت، مما جعلني أكرر الخطأ ذاته، وأحصد الألم بعينه!! وكم خانتني فلم تقف إلى جواري يوم الضيق والخطر عندما رأتني خائفًا مضطربًا، ولم تذكرني بنجاة الرب لي من قبل، فتركتني امتلئ بالجزع والهلع !! نعم كم أكره نفسي عندما أراها في هذا الوضع السخيف وضع الناسي! وعندما أقبض عليها متلبسة بجريمة النسيان!
وأتوقف أيضًا لأقول: آه من تلك الرفاهية التي يحبها جسدي بينما يمقتها عقلي وتخشاها روحي! فلم أجد في كل حياتي سببًا يضعف الذاكرة الروحية مثلها! إنها ميكروب فقدان الذاكرة الأشرس!
والآن أعود لحديث مردخاي فأقول إنه كان يستنهض في أستير ذاكرتها لتذكر تلك الأيام الأولى لدخولها هذا القصر، عندما دُبرَت بإحكام في الخفاء مؤامرة لاغتيال الملك من بغثان وترش حارسي الباب! إنه يستنهض فيها ذاكرتها لتسأل نفسها من الذي نجى الملك من تلك الجريمة النكراء؟ لقد نسي أحشويروش القصة بجملتها على الرغم من كونه سجلها في تذكار أخبار الأيام! لكن هل نسيتها أستير أيضًا؟ هل نسيت أن هذا البيت لم ينج صاحبه؟ هل نسيت أن هذه البيوت المحصنة جدًا، ذات الأسوار العالية جدًا، قد يأتيها الهلاك من داخلها! بل من حراسها! وهنا نتسائل متعحبين: أ من الحارس يأتي الخطر؟ أ من حامي الحياة يأتي الموت؟ ولمن؟ أ لملك ملوك؟ نعم!! هذا هو واقع هذه الحياة، الواقع الذي يحاول الناس أن ينسوه أو يتجاهلوه، بينما هو الواقع الذي يؤكده التاريخ على مر العصور: إن بيوت الملوك لا تنجي أصحابها! الواقع الذي جعلنا في أيامنا الحاضرة لم نعد نخدع بكلمات رنانة وضخمة مثل: قوات الحراسة المدربة، والسيارات المصفحة ذات الرادارات، واحتياطات الأمن وأجهزة كشف المفرقعات، وكفاءة جهاز الاستخبارات، إلى آخر مثل هذه العبارات الرنانة.
إن أمان الملوك يا أستير أمان وهمي، وسلامهم زائف، إن أسوار قصورهم قش، قليل من الشرر يحرقها، وأساسها رمال، قليل من الريح يهدمها!
لقد كان مردخاي كمن يقول لأستير: يا أستير إنك تستعفين من الدخول إلى الملك لإنقاذ شعبك، لأنك تنامين على ريش النعام، وحولك مئات الحراس والخدام، لا تشعرين بما نجتاز نحن فيه، أنت تشعرين بالأمان بينما نحن شعبك يدهسنا الشعور بالخوف والخطر.
لكن عليك أن تعلمي أن هناك فارقًا كبيرًا بين الأمان والشعور بالأمان! فليس كل من يشعر بالأمان هو في أمان فعلاً. لذلك أود أن أقول لكِ إن الموت قد يأتيك وأنت على فراشك، بل وقد يأتيك من حراسك! إن أمان الملوك يا أستير أمان وهمي، وسلامهم زائف، إن أسوار قصورهم قش، قليل من الشرر يحرقها، وأساسها رمال، قليل من الريح يهدمها! أنت تعلمين أنه عندما حامت جوارح الموت حول زوجك، واقتربت منه جدًا لتجهز عليه، لم تنجه أسوار بيته، ولا تحصينات أمنه، ولا قوة حراسه، بل الذي نجاه هو الرب إلهي أنا عندما أعلمني بالأمر وأخبرتك به فكشفتيه للملك الذي فحص فوجد، وهكذا قَتَل المتآمرين وأزال الخطر!! إني أقول لك إن بيت أحشويروش لن ينجيك، إن كان لم ينج أحشويروش نفسه! إن المنجي الوحيد هو الرب.
والسؤال الآن هل يدرك قارئي العزيز مدى صدق هذه الحقيقة؟ هل يدرك أن أي أمان مبني على غير الرب هو أمان مؤقت وزائف حتى وإن كان بيت الملك؟
بيت الملك الخاص بك:
ربما ولا واحد منا عاش في بيت ملك أو حتى دخله، لكن لكل منا بيت الملك الخاص به، أي أن لكل منا حصن أمان اتكل عليه، قد يكون بيت الملك بالنسبة لك: مركزًا اجتماعيًا، مالاً كثيرًا، عائلة كبيرة، وظيفة مرموقة، ذكاءً حادًا، قوة شخصية، اتصالات بشخصيات هامة، إلى آخر مثل هذه الأشياء التي يعتبرها الناس اليوم أنها حصون الأمان من غدر الأيام، بينما هي في الواقع مجرد أوهام!
والآن دعني أذكر لك من خبرتي الشخصية، على الرغم من ضآلتها، مايساعدك للوصول لهذا الاقتناع، فتتحرر من مثل هذه الأوهام، وتلجأ للملجأ الحقيقي قبل فوات الآوان.
لقد عرفت شخصًا بنى أمانه على علاقته الحميمة جدًا بشخصية سياسية كبيرة ومرموقة، وفجأة حدثت مشكلة بدون أية مقدمات راحت بسببها هذه الشخصية وراء القضبان! فسقط صاحبنا ضحية للاكتئاب وقضى بقية عمره يتردد على عيادات الأطباء النفسيين.
وأعرف آخر بنى أمنه على رصيد ضخم من ملايين الدولارات، جمعها بعرق وجهد سنين في غربة طويلة في إحدى دول الخليج، وفجأة، وبدون مقدمات، يغدر به الشريك فيعود بملابسه بدون مسكن أو حتى مأكل!
وأعرف آخر كان أمانه مبنيًا على ميراث رهيب، عبارة عن مئات من قطع الأراضي باهظة الأثمان. وفجأة تغير نظام الحكم، وجاء حاكم آخر بنظام جديد، فضاع كل شيء، لكن الأدهى أن ضاع مع الميراث الصحة ثم العقل!
وأعرف شخصًا بنى أمانه على ذكائه الحاد الذي مكنه من أن يرتقي أعلى الوظائف، فعاش سنين سكران بنشوة النجاح في العمل، وفجأة وبدون مقدمات يفقد في لحظة واحدة وعيه بسبب جلطة صغيرة لا تتعدى ملليمترات قليلة تصيب دماغه، فيفقد القدرة على الكلام والحركة ويظل سنوات طريح الفراش!
وأعرف آخر كان يمشي منتفخًا، وإن جلس بين الناس فهو دائمًا المتحدث، ولا حديث له إلا عن قوة مركز شركته في السوق العالمي، وسيطرتها على أسواق العالم، وعن قوة مركزه هو في هذه الشركة عابرة القارات، وفجأة وبدون مقدمات وجدنا صاحبنا يسير مطأطئ الرأس منكسرًا، فقد استغنت شركته عن خدماته، وتركته بلا أية تعويضات!
وإذا انتقلت من معرفتي الخاصة إلى المعرفة العامة التي يعرفها الجميع، فكلنا يعرف تلك الأميرة الجميلة التي كان زفافها هو زفاف القرن العشرين، كيف عاشت عشرين عامًا بين جنبات أعظم القصور، لكنها عاشت كئيبة ذليلة، لم تذق الأمان يومًا، ولا حتى شعرت به لحظة. وفي النهاية ماتت قتيلة في أحد الشوارع في ريعان الشباب!
وكلنا يعرف هذا الرئيس الذي جلس بين قواده يستعرض قوة جيشه، جلس مبتهجًا كأنه في يوم عرسه، فإذ بجيشه يقتله!!
وكلنا يعرف هذا الدكتاتور المخيف والذي قصصه يشيب لها الولدان، هذا الذي بني أمانه على قوة جيشه وسلاحه وبطشه، فأتى له من هو أقوى منه ليحطه من عليائه، ليختبئ في أحد الجحور كالفأر المذعور!
وإن انتقلنا من الأفراد للدول، فكلنا يعرف ما حدث لأقوى دولة في العالم من حفنة شبان! كيف هاجموها ودمروا لها أعظم رموزها العسكرية والاقتصادية، وهي القوة التي لا يدانيها أحد، لا في قوتها العسكرية ولا في قوتها الاقتصادية! وكيف هرب الشعور بالأمان من شعبها منذ ذلك اليوم. لقد خرج ولم يعد حتى الآن، على الرغم من كل القوانين التي سنتها، وكل الاحتياطات التي اتخذتها، والتي كلفتها مئات المليارات من الدولارات لزيادة شعور شعبها بالأمان، بل وعلى الرغم من خوضها حربين لم تخرج منهما حتى الآن. وان انتقلنا من الأفراد والدول إلى الى العالم بصفة عامة وما يجتاحه من كوارث فمن منا ينسى كارثة تسونامي عندما رأى العالم السياح يمرحون وهم يركضون أمام الموجة القوية، ولم يدروا أنها النهاية الأبدية!!مَنْ منا ينسى كارثة تسونامي عندما رأى العالم السياح يمرحون وهم يركضون أمام الموجة القوية، ولم يدروا أنها النهاية الأبدية!!
مَنْ منا ينسى كارثة تسونامي عندما رأى العالم السياح يمرحون وهم يركضون أمام الموجة القوية، ولم يدروا أنها النهاية الأبدية!!
فهل بعد هذا يعتقد قارئي العزيز أنه يوجد تحت الشمس مصدر للأمان ولو في أعظم البلدان!!
حكمة الوبار:
راقب أحد الحكماء حيوانات الأرض فرأى أربعة منها صغيرة، لكنها حكيمة جدًا. أحدها هو الوبار، فقال عن حكمته: «الوبار طائفة ضعيفة ولكنها تضع بيوتها في الصخر» (أم30: 26). ومَنْ يكون الصخر بالنسبة للإنسان سوى الإله العظيم الذي قيل عنه في الكتاب إنه الصخر والحصن عشرات المرات. لكن السؤال الهام هل نحن فعلاً نشعر بضعفنا؟ وهل نؤمن حقًا بهشاشية بيوت الملوك التي اتكلنا عليها؟ إذا شعرنا بذلك، واقتنعنا فعلاً أن بيوت الملوك لا تنجي أصحابها، عندئذ فقط سيسهل علينا اللجوء إلى الله. فنقول له مع مَنْ قال: «بك يا رب احتميت، فلا أخزى إلى الدهر» (مز71: 1). وهذا ما أتمناه.
بيت الملك أم ستر العلي؟
وأخيرًا أرجو أن تقرأ معي هذه العبارات، والتي هي عبارة عن جزء من فصل واحد صغير من فصول كلمة الله مزمور 91: 1-5 لترى معي حجم الشعور بالأمان الذي يستشعره الساكن، لا في بيت الملك، بل في ستر العلي:
«اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ. أَقُولُ لِلرَّبِّ: [مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلَهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ]. لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِ وَمِنَ الْوَبَإِ الْخَطِرِ. بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ. لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ اللَّيْلِ وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي النَّهَارِ وَلاَ مِنْ وَبَأٍ يَسْلُكُ فِي الدُّجَى وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي الظَّهِيرَةِ».
«الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت»: الرب هو المسكن الآمن ومكان المبيت المطمْئِن عندما يحل الظلام! فلا تخشى من خوف الليل.
«أقول للرب ملجأي وحصني إلهي فأتكل عليه»: الرب هو الملجأ والحصن عندما تقوم الحرب أو يستعر الخطر. فلا تخشى من سهم يطير في النهار.
«لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبأ الخطر»: الرب هو السند والضمان عندما تغدر الأيام أو الناس أو حتى الشيطان! فلا تخشى من وبأ يسلك في الدجي.
«بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمي»: الرب هو الحماية والعناية! عندما يغيب الحبيب ويختفي الصديق، فلا تخشى من هلاك يفسد في الظهيرة.
«ترس ومجن حقه»: إن أمانة الله وصلابته وصدقه وثباته المطلق هو الترس والمجن الحقيقي للإنسان.
وإذا استكمل القارئ العزيز قراءة هذا المزمور العظيم سيلاحظ معي هذه المفردات التي حوتها عباراته القليلة، وكل كلمة منها كفيلة بأن تبث الأمان في قلب وعقل قارئها: ساكن، ستر، ظل، القدير، يبيت، ملجأ، حصن، اتكل عليه، ينجيك، بخوافيه، يظللك، تحت أجنحته، تحتمي، ترس، مجن، لا تخشى، إليك لا يقرب، العلي مسكنك، يوصي ملائكته بك، يحفظوك، يحملونك، تطأ، تدوس، أنجيه، أرفعه، أنقذه، أمجده، أشبعه، أريه خلاصي.!!!!!
هل من الممكن أن تجتمع كل هذه المفردات في حديث واحد؟
نعم هذا ما يحمله حديث الرب لكل مؤمن في مزمور 91. فهل بعد هذا نشك في أن إله النجاة عنده وحده الأمان؟