أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2005
الساعات في الانجيل - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

ساعة ظهور المسيح للعالم  (يوحنا2)

«وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ... وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ» (يو2: 1-4).

خلفية الإعلان عن هذه الساعة، أن كان عرس في قانا الجليل، دُعي إليه المسيح مع تلاميذه، وكانت ”أم يسوع“ حاضرة لهذا العرس أيضًا. ويخبرنا البشير أن الخمر نفدت أثناء الاحتفال، مما كان من شأنه أن يسبب حرجًا بالغًا للعريس، لو لم يكن الرب يسوع حاضرًا بملء كفايته ليمد بالخمر الجيدة. وأمام نفاد الخمر في الاحتفال جاءت أقوال المطوبة مريم للرب يسوع، ورد المسيح عليها في الأقوال التي تصدرت هذا المقال. وهذه الأقوال لها عمقها الأدبي ومدلولها النبوي كما سنرى الآن.

 ولعل المطوبة مريم، على مدى السنين المنصرمة، حدثت نفسها كثيرًا: أ لم يحن الوقت بعد لكي يظهر يسوع نفسه باعتباره المسيا، منتظر الأمة! إنها كانت تعرف عن يقين حقيقة أصله، كما تعرف شيئًا عن مجد مستقبله حسبما أنبأها الملاك عند البشارة بمولده. لذلك فيرجح البعض أنها بكلامها الذي قالته هنا، كانت تدفع المسيح ليتصرف. كأنها تقول له: ها هي فرصتك، فاظهر حقيقة شخصك، وأعلن مجدك! دع الكل يعرف من أنت، فلقد طال انتظاري لتلك اللحظة!

 كان الرب يسوع قد ترك دكان النجار في قرية الناصرة، وابتدأ يكون له أتباع وتلاميذ، هم حاضرون معه في هذا العرس. وكأن المطوبة مريم أحست بأن الساعة مناسبة لكي يعمل الرب يسوع شيئًا، في يقين الثقة بحقيقة شخصه. لكن، ما أعظمه! فهو ليس فقط رفض اقتراح الشيطان بأن يحول الحجارة خبزًا وهو في البرية، بل أيضًا رفض اقتراح أمه بأن يحول الماء خمرًا في العرس! إنه صاحب المجد الأدبي الفريد، إنه الخاضع الطائع تمامًا مع كونه الابن الأزلي، وهو لا يحركه سوى إرادة الآب.

المسيح لم يرفض فقط اقتراح الشيطان بأن يحول الحجارة خبزًا وهو في البرية،بل رفض أيضًا اقتراح أمه بأن يحوِّل الماء خمرًا في العرس! إنه صاحب المجد الأدبي الفريد، إنه الخاضع الطائع تمامًا مع كونه الابن الأزلي، وهو لا يحركه سوى إرادة الآب

 ونلاحظ أن المسيح بحسب هذا الإنجيل (إنجيل يوحنا)، ثلاث مرات يؤجل تنفيذ ما طُلب منه حتى تأتي اللحظة المعينة من أبيه؛ هنا في أصحاح 2؛ ومرة ثانية في أصحاح 7، وأخيرًا في أصحاح11. وفي كل هذه المرات كان قصد الطالبين أن يجعلوه يعجل بإظهار مجده، أما هو فما كان يسعى لذلك، إذ ما كان يبغي سوى مجد الذي أرسله. لقد قال مرة إنه نزل من السماء ليس ليفعل مشيئته هو، بل مشيئة الذي أرسله (يو6: 38). وما أجمل أن نفكر في ذلك الشخص الفريد، الذي ليس فقط لم يعمل شيئًا لا يوافق عليه الآب، بل إنه لم يفكر أصلاً في عمل أي شيء إلا إذا تلقى الأمر عنه من أبيه! في يوحنا 7 لما طلب منه إخوته أن يظهر ذاته للعالم، فقد قال لهم: «وقتي لم يحضر بعد، وأما وقتكم ففي كل حين حاضر». وفي يوحنا 11 لما طلبت منه الأختان في بيت عنيا أن يحضر لكي يشفي حبيبه لعازر، انتظر توقيت الآب، ومكث في الموضع الذي كان فيه يومين. ما تحرك من ذاته مطلقًا، ولا حركه الناس ولو كانوا من الأحباء! لقد كانت كل خطوة خطاها على هذه الأرض إنما في تمام التوافق مع خطة أبيه له.

 إنه صاحب الكلمات العجيبة: «يوقظ (السيد الرب) لي أذنًا لأسمع كالمتعلمين» (إش 50: 4). وهو اختار ألا يمارس سلطان لاهوته، إلا إطاعة لوصية أبيه. وهذا المزيج العجيب من السلطان الإلهي والطاعة الكاملة، نراها في أقواله: «ليس أحد يأخذها (أي نفسي) مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا. هذه الوصية قبلتها من أبي» (يو10: 17و18).

 ما أسماه وهو يقول: «لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا، إلا ما ينظر الآب يعمل... فهذا يعمله الابن كذلك» (يو5: 19)! وما أمجده وهو يقدم التقرير لأبيه في ختام حياته، فيقول: «أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو17: 4)!

 أ ليس عجيبًا أنه هنا، عندما طلبت منه أمه أن يفعل شيئًا ليظهر ذاته، فال لها: «لم تأتِ ساعتي بعد». ولكن عندما أتت ساعة موته، قال لأبيه: ”أيها الآب: قد أتت الساعة“!

 والعلاقة وثيقة بين ما حدث في يوحنا 2 وما حدث في يوحنا 7. هنا، في مناسبة عرس اليوم الثالث قال لأمه: ”لم تأتِ ساعتي بعد“، وفي يوحنا 7، بمناسبة عيد المظال، قال لإخوته: «وقتي لم يحضر بعد، وأما وقتكم ففي كل حين حاضر». وقت الإنسان الطبيعي لا بد أن يأتي أولاً؛ ولكن - في الوقت المعين - سيظهر المسيح باعتباره الشخص الوحيد الذي يستطيع تسديد احتياجات البشرية. في مجيء المسيح الأول لم يكن الوقت بعد ”يوم الرب“ الذي فيه يظهر المسيح مجده للعالم، متممًا المعاني النبوية لعيد المظال. فنحن نقرأ عن عيد المظال في زكريا 14: «في ذلك اليوم يكون الرب وحده واسمه وحده» (ع9)، والباقي من جميع الأمم «يصعدون من سنة إلى سنة ليسجدوا للملك رب الجنود، وليعيدوا عيد المظال» (ع16). نعم لم يكن الوقت بعد ”يوم الرب“، بل كان ما زال بالأسف يوم البشر، يوم تعظيم الإنسان، وعربدة الشيطان. لكن لا بد أن يأتي يوم الرب في موعده، وفيه سيتم تصحيح الأوضاع، حيث «توضع عينا تشامخ الإنسان، وتخفض رفعة الناس، ويسمو الرب وحده في ذلك اليوم» (إش2: 11).

 وهو عين ما نراه في يوحنا 2. فمع أنه في يوم اتضاعه لم يعمل شيئًا لإظهار ذاته، ولكنه رغم ذلك فإنه واجه كل الاحتياجات، فالإيمان دائمًا ينظر إليه، وهو لا يمكن أن يخيب الإيمان. وكانت هذه الآية هي بداية الآيات التي صنع يسوع قدام تلاميذه وأظهر مجده فآمن به تلاميذه

على أن ما عمله المسيح في يوم اتضاعه، يعطينا صورة جميلة لما سيعمله عندما تأتي ساعته، ويبلغ الوقت المحدد له من أبيه لكي يظهر ذاته للعالم (يو14: 22). فهذه الآية ترسم لنا صورة عجيبة ليوم استعلان مجده للعالم. فالآية عُملت في اليوم الثالث، يوم قيامة الأمة من الأموات (هو6: 2)، ويوم استعلان مجده، يوم يحول المسيح ماء التطهير إلى خمر الأفراح، يوم يشرب الأمناء معه الخمر الجديدة في مجد الملكوت (مت26: 29). يومها سوف تمتلئ الأرض من معرفة مجد الرب.

على أن ما عمله المسيح في يوم اتضاعه، يعطينا صورة جميلة لما سيعمله عندما تأتي ساعته، ويبلغ الوقت المحدد له من أبيه لكي يظهر ذاته للعالم

 عندما جلس المسيح على عرش أبيه فقد تم القول: «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك». ويقول كاتب العبرانيين عنه إنه «جلس... منتظرًا حتى توضع جميع الأعداء موطئا لقدميه» (عب10: 12و 13). إنه هناك – كما كان هنا - ينتظر توقيت الآب. وهو الذي قال: «الأزمنة والأوقات... جعلها الآب في سلطانه» (أع1: 7).

 إذًا نحن في ”ساعة يوحنا2“ لنا باكورة شهية، ولمحة مسبقة لذلك الوقت السعيد، يوم يظهر العريس الحقيقي، ويبارك شعبه الأرضي، ويمتعهم بالخمر الجديدة. يومها سيظهر المسيح ذاته، والكل سيعرف مجده ويعترف به.

 سيدنا إننا نحبك، ونحب أن نراك في المجد! سيدنا إننا ننتظر ظهورك واستعلان مجدك لكل العالم، ونحب ذلك أيضًا. وكما أنت منتظر بصبر هناك، فنحن بدورنا ننتظر بصبر هنا.

 «آمين تعال أيها الرب يسوع».

يوسف رياض