أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2005
مشكله لاهوتيه
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

هل حقاً يندم الله؟

نجد في كلمة الله عبارات تصف مشاعر الله بالندم حينما ينظر إلى شيء قد سمح به وأخرجه إلى حيز الوجود. وعلى سبيل المثال نقرأ: «فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه» (تك6: 6). وفي حادثة العجل الذهبي، نقرأ: «فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه» (خر32: 14). وفي حادثة رفض شاول نقرأ: «ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته، لأن صموئيل ناح على شاول، والرب ندم لأنه ملّك شاول على إسرائيل» (1صم15: 35).

 وهنا يظهر سؤال: بما أن الله يندم على فعلٍ قد فعله، فهو إذًا ليس له سبق معرفة بالأحداث؟ وإلا لماذا يندم إذا كان يعرف مسبقًا بالعواقب المترتبة على ما سيفعله.

 وفي مثل هذه الأحوال، من المستحسن أن نرجع إلى الكلمة في اللغة الأصلية للكتاب. وكلمة ندم في العبري“Nacham” تعني: ”حزن، وتنهد بعمق، أو ثقل“، ينتج عنه تغير في القلب أو الغرض أو الاتجاه.

 وعلى الرغم من أن معرفة المعنى الأصلي للكلمات في العبري أو اليوناني، يكون كافيًا لحل الكثير من المعضلات والشبهات الوهمية، ولكن في الحالة التي أمامنا زادت من تعقيد الأمر. فإذا قلنا إن الله حزن بشدة على أمر ما، مما دفعه إلى تغيير خطته، فمعنى هذا أن الله يصيبه التغيير، مع أننا نعلم أنه ”ليس عنده تغيير ولا ظل دوران“ (يع1: 17)، بل والذي يزيد من صعوبة الأمر أن هذا التعبير: ”الندم والحزن المصاحب بتغيير الاتجاه“، حينما يرتبط بالإنسان فهو يكون مرتبطًا بخطية ارتكبها، وهو يريد التراجع عنها. فإذا طبقنا ذلك على الله فكأننا ننسب إلى الله الخطية، وحاشا لله من مثل ذلك.

 لكن الأمر ينجلي ببساطة إذا أدركنا أن كل الآيات التي ورد فيها ذكر ”ندم الله“ جاءت مرتبطة بالإنسان، سواء بفكر شرير في قلبه، كما جاء في تكوين6، أو فعل شرير فعله، كما في حادثة الملك شاول، أو حادثة العجل الذهبي، بينما كل الآيات التي وردت عن عدم ندم الله جاءت بالارتباط بالرب ومسيحه (راجع الجدول في نهاية المقال). فالإنسان في نجاسة أفكاره وعصيانه وتمرده في أفعاله يجعل الله يندم ويحزن، بينما حينما يرتبط الأمر بالله ذاته أو بمسيحه فهو لا يندم. وبلغة أخرى أن ندم الله يرتبط بعدم طاعة الإنسان (مشروط)، أما عدم ندمه فيتعلق بكماله الإلهي الغير المحدود (غير مشروط).

 وللتوضيح أذكر هذا المثال: لو افترضنا أن هناك ابنًا عاصيًا ومتمردًا، كما نرى مثلا في تثنية21: 18-21، وهذا الابن أتى بعملٍ أحمق ومتهور، فمما لا شك فيه إنه سيُحزن قلب أبيه ويكسره، لأنه يحبه، فكما ذكر الحكيم: «الابن الجاهل غم لأبيه، ومرارة للتي ولدته» (أم17: 25). ولكن في الوقت نفسه فإن الحكمة والعدالة تستوجب منه كأب أن يتعامل مع هذا الموقف بحزم وصرامة، مما يجعله يوقع العقاب على ابنه. وهذا بالضبط ما فعله الله مع الإنسان. إن الإنسان كائن مريد، أي له إرادة حرة، فإذا عصا ولم يطع جلب على نفسه القضاء والدينونة، رغمًا عن أن هذا سيؤول إلى حزن الله وندمه، لأنه يحبه. غير أن قداسته وحكمته وعدالته تستوجب مثل هذا الفعل. والعكس صحيح تمامًا، فإذا أطاع الإنسان جلب على نفسه البركة والرضى الإلهي.

 فالله لا تتغير صفاته، ولكن عنده الاتجاهين، اتجاه للبركة واتجاه للعنة. ونلاحظ أن كلاً منهما قابل للتنفيذ، ولكنهما مشروطان إمَّا بطاعة الإنسان أو عصيانه. ودعنا نقتبس بعض الآيات المرتبطة بندم الله وتراجعه، ولكنها مشروطة بطاعة الإنسان وخضوعه:

 «تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها، فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها. وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس، فتفعل الشر في عينيّ فلا تسمع لصوتي، فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به» (إر18: 7-10).

«إن أغلقت السماء ولم يكن مطر، وإن أمرت الجراد أن يأكل الأرض، وإن أرسلت وبأ على شعبي. فإذا تواضع شعبي الذين دُعي اسمي عليهم، وصلّوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الردية، فإنني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم» (2أخ7: 13، 14).

 ومن هذه الآيات الكتابية، والتي يوجد نظيرها الكثير في كلمة الله، نجد أنه من الواضح أن تنفيذ القضاء مشروط ، فلو أن الإنسان استجاب لتحذير الله وتاب عن خطاياه، أو حتى اتَّضع أمام الله، فالله يتراجع عن تنفيذ القضاء. ولكن إن لم يتراجع عن طرقه فالقضاء حتمي، على الرغم مما سيجلبه ذلك على قلب الله من حزن وندم.

 وهناك مثالان واضحان في كلمة الله: الأول نجده في حالة شاول، حينما قال الرب لصموئيل: «ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا، لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي» (1صم15: 11). ولذلك كان توبيخ صموئيل لشاول: «هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش» (1صم15: 22). ولكن في ع 29 تكلم الروح القدس على لسان صموئيل قائلاً: «نصيح إسرائيل – كمن هو في ذاته - لا يكذب ولا يندم»، أي لا يتراجع ولا يغيِّر ما نطق بشفتيه، ولكن الأمر متوقف على شاول في طاعته أو عصيانه.

 والمثال الآخر في أخآب، عندما حزن ولبس المسح إذ علم بقضاء الله عليه، فقال الله لإيليا التشبي: «هل رأيت كيف اتَّضع أخآب أمامي؟ فمن أجل أنه قد اتَّضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه، بل في أيام ابنه أجلب الشر على بيته» (1مل21: 29). ومن الواضح أنه على الرغم من أن كليهما كانا ملكين شريرين، ولكن الله تحرك في اتجاهين مختلفين، بناء على موقفيهما. فعصيان شاول جلب عليه الشر والقضاء، بينما اتِّضاع أخآب وحزنه جعل الله يرجئ ويؤجل القضاء، مثلما حدث تمامًا مع أهل نينوى في سفر يونان. فالمبادئ الإلهية موجودة عند الله مسبقًا، وليس فيها تغيير، ولكنها مشروطة بتصرف الإنسان واتجاهه سواء في طاعته أو عصيانه.

 من الواضح إذًا عدم وجود تناقض في الحالات التي يذكر فيها أن الله ندم، والحالات التي يذكر فيها أنه أقسم ولن يندم.

 ندم الله المشروط بالإنسان عدم ندمه الغير مشروط والمتعلق بذاته «فندم الرب عن الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه» (خر32: 14) – (تحول عن الشر) «وأيضًا نصيح إسرائيل لا يكذب ولا يندم، لأنه ليس إنسانًا ليندم» (1صم15: 29). «ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته، لأن صموئيل ناح على شاول، والرب ندم لأنه ملّك شاول على إسرائيل» (1صم15: 35) – (تحول عن الخير). «أقسم الرب ولن يندم. أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (مز110: 4). «فندم الرب عن الشر، وقال للملاك المهلك كفى. الآن رد يدك» (2صم24: 16) – (تحول عن الشر) «ليس الله إنسانًا فيكذب، أو ابن إنسان فيندم، هل يقول ولا يفعل؟ أو يتكلم ولا يفي؟» (عد 23: 19) «فنظر إلى ضيقهم إذ سمع صراخهم، وذكر لهم عهده وندم حسب كثرة رحمته» (مز106: 44، 45) – (تحول عن الشر). «بذاتي أقسمت خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع..» (إش 45: 23). «فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه» (يون3: 10) – (تحول عن الشر). «إن أولئك بدون قسم قد صاروا كهنة، وأما هذا فبقسم من القائل له: أقسم الرب ولن يندم، أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (عب7: 21).

مسعد رزيق