(٣) رَجُلٌ آخَرُ
«وَأَمَّا فَصْلُ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُهُ فَكَانَ هَذَا: مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى الذَّبْحِ، وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أَمَامَ الَّذِي يَجُزُّهُ هَكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. فِي تَوَاضُعِهِ انْتَزَعَ قَضَاؤُهُ، وَجِيلُهُ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ؟ لأَنَّ حَيَاتَهُ تُنْتَزَعُ مِنَ الأَرْضِ؟ فَسَأَلَ الْخَصِيُّ فِيلُبُّسَ: أَطْلُبُ إِلَيْكَ: عَنْ مَنْ يَقُولُ النَّبِيُّ هَذَا؟ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ عَنْ وَاحِدٍ آخَرَ؟ فَابْتَدَأَ فِيلُبُّسُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ يُبَشِّرَهُ بِيَسُوعَ» (أع ٨: ٣٢-٣٥)
لقد مضى الخَصِيُّ فى طريقه فرحًا لأنه تعرف على ”وَاحِدٍ آخَرَ“؛ شخص الرب يسوع المبارك. وبمجرد سماعه الرسالة على فم فيلبس من إشعياء ٥٣ كان لسان حاله: ”تقصد أن تقول إن هذا الإنسان الرائع ارتضى باختياره أن يموت؟ حسنٌ، وأنا أيضًا أرغب في هذا الموت، فانزلني إلى الموت فى هذا الماء“. وهذا ما نفعله في المعمودية؛ تقول أنا لا أستحق الحياة، وسآخذ مكاني فى الموت مع المسيح «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أيْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ» (كو٢: ١٢؛ رو٦: ٤). ونشكر الله أننا لم نُترّك هناك، وإلا غرقنا، ولكن إذ قمنا فعلينا أن «نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ» (رو٦: ٤).
وهكذا اعتمد الخصى كخاطئ ميت (مع كونه قد خَلُصَ)، ثم قام ومضى فى طريقه فرحًا، واختُطف فيلبس. لقد رجع الخصى إلى أثيوبيا، حيث آمن بالمسيح أعداد غفيرة، على الأرجح بسبب شهادة هذا الرجل، وبسبب بشارة فيلبس له عن ”وَاحِدٍ آخَرَ“؛ المسيح المبارك الممسوح. نعم، بل كان أيضًا رجل أوجاع ومختبر الحزن، لكن هذا انتهى ومضى، ولم يعد هذا حاله الآن، بل هو رجل الفرح، والسرور يملأ قلبه «فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، أَنَّهُ بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، وَبِهَذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى» (أع١٣: ٣٨، ٣٩). والله قد «أَقَامَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّمًا لِلْجَمِيعِ إِيمَانًا إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ» (أع١٧: ٣١)؛ هذا الرَجُل هو: يسوع المسيح، تبارك اسمه. أتمنى أن يكون كل منا قد تعرف على هذا ”الرَجُل الآخر“.
(٤) مَلِكٌ آخَرُ
«فَغَارَ الْيَهُودُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَاتَّخَذُوا رِجَالاً أَشْرَارًا مِنْ أَهْلِ السُّوقِ، وَتَجَمَّعُوا وَسَجَّسُوا الْمَدِينَةَ، وَقَامُوا عَلَى بَيْتِ يَاسُونَ طَالِبِينَ أَنْ يُحْضِرُوهُمَا إِلَى الشَّعْبِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوهُمَا، جَرُّوا يَاسُونَ وَأُنَاسًا مِنَ الإِخْوَةِ إِلَى حُكَّامِ الْمَدِينَةِ صَارِخِينَ: إِنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمَسْكُونَةَ حَضَرُوا إِلَى هَهُنَا أَيْضًا. وَقَدْ قَبِلَهُمْ يَاسُونُ. وَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ قَائِلِينَ: إِنَّهُ يُوجَدُ مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ!» (أع١٧: ٥-٧).
إن الرب يسوع ليس مَلِك الكنيسة، ولا حتى سَيِّد الكنيسة، بل هو ”رأس الكنيسة“. لكن يمكننا من وجهة معينة أن نترنم له: ”أنت مَلِك حياتي ... وأنا أُتوّجك الآن“، قاصدًا ببساطة أن له التفوق والسمو والأولوية فى حياتي. إنه الملك الآتي «مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ» (رؤ١٩: ١٦).
أي عمل عظيم هذا الذي صُنع فى قلوب أولئك الناس فى السبوت الثلاث التي كرز فيها بولس بالإنجيل فى تسالونيكى. لقد قال لهم الرسول بولس: «كَيْفَ رَجَعْتُمْ إِلَى اللهِ مِنَ الأَوْثَانِ، لِتَعْبُدُوا اللهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ، وَتَنْتَظِرُوا ابْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ» (١تس١: ٩، ١٠). لقد سمعوا عن المجيء الثاني للمسيح، وكل أصحاح من الرسالتين الأولى والثانية إلى أهل تسالونيكى يتكلَّم عن هذا الأمر، فكانوا جماعة نموذجية. أحيانًا يقول الناس إن أهل بيرية كانوا أشرف من أهل تسالونيكى المؤمنين، لكن هذا خطأ، بل كان أهل بيرية أشرف من اليهود غير المؤمنين فى مجمع تسالونيكى، وليس مؤمني تسالونيكى، لأنهم «قَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هَذِهِ الأُمُورُ هَكَذَا؟» (أع١٧: ١١). ويا لها من شهادة كانت لأهل تسالونيكى، إذ رجعوا إلى الله، فذاعت شهادتهم إلى كل أسيا، لأن هؤلاء الرجال الذين قلبوا المسكونة قالوا إن هناك ملك آخر هو الرب يسوع!
(٥) طريق آخَرُ
«كَذَلِكَ رَاحَابُ الّزَانِيَةُ أَيْضًا، أَمَا تَبَرَّرَتْ بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَبِلَتِ الرُّسُلَ وَأَخْرَجَتْهُمْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ؟» (يع٢: ٢٥)
هذا الطريق الآخر هو طريق الإيمان؛ فراحاب كانت قد خلُصت، وإذا لم تعمل هذه الأعمال لذهبت أيضًا إلى السماء، لكن هذه الأعمال كانت الدليل على خلاصها، والدليل على أنها وُلدت حقًا من لله. لقد سمعت كيف أن الله كان قد خلَّص شعبه من مصر، منذ سنوات (يش٢: ٩-١١). لقد سمعت هي وكل المدينة عن أمر البحر الأحمر وكل ما حدث مع بني إسرائيل، فكانت لدى جميعهم فرصة التوبة. لكن هذه المرأة فقط هي مَن آمنت، وصارت أُمًّا في إسرائيل. كيف صار هذا؟! لأنها تصرفت بالإيمان، ووضعت الحبل القرمزي في كواها، وخلُص كل من أبيها وأمها وإخوتها، وكل من في بيتها. فكانت راحاب الزانية هي أعظم انتصار حدث في أريحا، وذكرت في سلسلة نسب المسيح (مت١: ٥). لقد صرفت الجاسوسين في طريق آخر «تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً، وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ الْمَوْتِ» (أم١٤: ١٢؛ ١٦: ٢٥). لقد اعتقد كل من في أريحا أنه على الصواب، لكن لم تكن غير امرأة واحدة على الصواب. لذلك لا تظن أن قول الأكثرية بالضرورة يكون صائبًا، بل بالعكس عادة ما تكون الأغلبية على خطأ. إنه طريق الله فلا يهم ما يقوله الآخرين، بل نريد أن نتبع طريق الرب. إنه طريق الإيمان؛ طريق الله، الطريق الآخر.
(٦) مذبحٌ آخَرُ
«لَنَا مَذْبَحٌ لاَ سُلْطَانَ لِلَّذِينَ يَخْدِمُونَ الْمَسْكَنَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ ... فَلْنُقَدِّمْ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ لِلَّهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ، أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ» (عب١٣: ١٠، ١٥)
لسنا بصدد الحديث عن مائدة للنائحين، لكن كلام الوحي هنا كناية وليس المقصود منه مذبحًا ماديًا. فعندما نفكر في مذبح نفكر في تضحية وذبيحة، والرب يسوع قُدِّم على مذبح التضحية. وعندما نفكر في مذبح نفكر أيضًا في القرب إلى الله، وهذه هي الحقيقة؛ فنحن المؤمنين عندنا مذبح لا يعرف عنه شيئًا أولئك الذين تحت اليهودية والناموس. ويا له من مذبح رائع لنا! وكل مؤمن له هذا المذبح. وكم هو مؤسف أن هناك مؤمنين لم يسمعوا عنه قط.
لنتأمل في مذبح النحاس فنحن نأتي إلى الاجتماع ونتذكر الرب يسوع، وهكذا «تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ» (١كو١١: ٢٦). لكن هنا دعونا نقول إنه مذبح النحاس لكننا لا نبقى هناك، لأننا إن بقينا الله لا يأخذ نصيبه، والآب هو مصدر كل بركة «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ» (يع١: ١٧)، فإن لم يأخذ نصيبه، لا نصل إلى المصدر، لذلك عندما نصل إلى عبرانيين ١٣: ١٥ لا نخدم كمؤمنين هذه الخدمة المقدسة على هذا المذبح فقط، لكن يُمكننا القول إن هناك أيضًا مذبح البخور. كم هو ثمين وغالي أن نذكر الرب يسوع على مذبح النحاس عندما نكسر الخبز ونشرب الكأس، لكن عندما نفعل هذا فإننا فقط نبدأ الاجتماع. ولكن نهاية الاجتماع يجب أن تكون في أماكن أخرى. ونحن لا يمكننا أن نقولب أي اجتماع، لكن يمكن إن كان الخبز يكسر مبكرًا فى الاجتماع حسب قيادة روح الله، ثم يمكننا التحرك إلى مذبح البخور، ونشكر الله على أنه أشركنا معه في الشبع بابنه. والله الآب طالب ساجدين «تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللَّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يو٤: ٢٣، ٢٤). فليس لكوننا قد تمَّمنا الممارسة أن الاجتماع قد انتهى، لأنه أحيانًا بعد كسر الخبز نُقدم مزيدًا من الشكر والحمد، والتسبيح والسجود للآب الذي أشركنا معه في ابنه المحبوب! هل يمكن أن يتم هذا قبل كسر الخبز؟ نعم يمكن. لكن كم هو جميل أن نخدم عند مذبح النحاس عندما نذكر الرب يسوع، لكن أيضًا عند مذبح البخور.
لكل مؤمن مذبح عليه يُقدِّم الخدمة لله. وهذه الخدمة تختلف عن توزيع النبذ والبشارة بالإنجيل والخدمة اللاوية، إنها خدمة الأقداس. فنحن متروكون هنا لنقوم بخدمة الله. لذلك نحن كهنة؛ فالرب يسوع كاهن، ونحن أيضًا كهنة لله لنقدم ذبائح روحية مقبولة لله بالرب يسوع على مذبح لم يكن للمؤمنين فى الدهور السابقة؛ ”مذبحٌ آخَرُ“.
(٧) مدينةٌ أخرى
«لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ» (عب١٣: ١٤)
إنها مدينة سماوية، وليست هي لندن أو نيويورك أو شيكاجو، لكنها مدينة سماوية. وإذا تأملنا رؤيا ٢١ سنجد وصفًا بديعًا لهذه المدينة. إن مجد الله في هذه المدينة، وماء الحياة، الروح القدس، في هذه المدينة، وشجرة الحياة هناك وهي المسيح، وهناك شارع واحد فقط (رؤ٢١: ٢١). يتحدث الناس عن شوارع من ذهب، لكن هناك شارع واحد فقط. وعلى جانبي هذا الشارع شجرة الحياة إذًا فالرب يسوع متاح لكل شعبه، والمدينة هي عروس المسيح، أي الكنيسة. وسيكون هناك المدعوين إلى عشاء عرس الخروف، وهناك سيكون صديق العريس؛ يوحنا المعمدان. ولكن المقصود بالمدينة المقدسة السماوية هو بالطبع ”العروس امرأة الخروف“. تخيل هذا! نحن جزء من هذه المدينة. إنني لا أستوعب هذا لأنه أوسع من أن يُفهم، لكنها الحقيقة. ونحن نسعى إلى تلك المدينة الأخرى، فليس لنا هنا مدينة باقية، لكننا ننتظر العتيدة. والخيمة لا تستحق أن نثبت أوتادها بقوة هنا، لأنه لو هب إعصار لاقتلعها، لذلك نحن نطلب مدينة أخرى طلبها إبراهيم قبلاً «الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ» (عب١١: ١٠).
ما أجمل أن يكون لنا نبيٌّ آخر، وكاهنٌ آخر، وملكٌ آخر، ورجل آخرٌ، وطريق آخرٌ، ومذبح آخرٌ، ومدينةٌ أخرى ننتظرها. يا ليت الرب يُبارك كلمته للنهاية حتى ننشغل أكثر بهذا الشخص المجيد ”الأَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَر“، الذى يملأ كل السماوات، والذى سيعود قريبًا ليملأ الكون بمجد الله!
بوب كوستن